رسالة ايمان الاباء الاساقفة لكنيسة المشرق عام 612م

رسالة ايمان الاباء الاساقفة لكنيسة المشرق عام 612م

الاركذياقون توما القس ابراهيم

بقوة إلهنا الازلي الصالح وابنه الحبيب يسوع المسيح ربنا ومخلصنا المحيي، أترجم صورة رسالة الايمان المكتوبة من قبل الاباء اساقفة المشرق المجتمعين في العاصمة في السنة الثالثة والعشرون لحكم ملك الملوك كسرى ابن هرمزد، وهي سنة 612م، بسبب جبرائيل السنجاري دروستبيد الذي حثَّ كسرى الملك على ان يدعو الاباء المشارقة للجدال مع عقائد بني معتقده المضادة. حيث طلب منهم ان يفسروا بوضوح ويقين حقيقة ايمانهم. حينئذ بشجاعة باسلة موحدة ودون خوف فسروه بالكلام الآتي:

صورة الرسالة

نؤمن بالطبيعة الواحدة لله الازلي دون بداية، حي ومحيي الكل، قوي وخالق كل القوات، حكيم ومعطي الحكم. غير مركب ولا منقسم ولا جسم له، لا يرى، لا يتغير وغير مائت لا بنفسه ولا بآخر، ولا يمكن ان يتألم او يتغير مع آخر. كامل بجوهره وبكل ما له، لا يمكن ان يقبل الزيادة او النقصان، لانه وحده دون بداية وإله على الكل. المعروف والمعترف به بثلاث اقانيم مقدسة، الاب والابن والروح، ثلاثة اقانيم بطبيعة واحدة دون بداية، أقانيم ذو طبيعة واحدة دون بداية لا تمييز بينها ما عدا خصائص أقانيمهم المتميزة، الابوة، البنوة والانبثاق. وبالبقية فبأي شكل يعترف بالطبيعة عامة، هكذا يعترف بكل واحد من هذه الاقانيم دون نقصان. ففي أن الاب هو غير متألم وغير متغير، هكذا يعترف بالابن والروح القدس، انهم دون ألم وتغيير معه ومثله. وكما يؤمن بالاب دون حد ولا انقسام كذلك يؤمن بالابن والروح القدس دون حد او تركيب. ثلاثة أقانيم كاملة في كل شيء بإلوهية واحدة، قوة واحدة لا تضعف، معرفة واحدة لا تزول، ارادة واحدة لا تنحرف وسلطان واحد لا ينحل. الذي خلق العالم بطيبته، ويدبره بارادته، الذي منذ البدء علــَّم الجنس البشري عن الوهيته بأشياء قصيرة وبسيطة، بحسب فترة التوضيح. وبالرؤى والأمثال خاصة تراءى للقديسين في الزمن الوسطاني من البدء حتى المسيح. وعلـّم بشرائع وعجائب مميزة وفصيحة لتقوية التفكير البشري وتوسيع معرفته. وفي نهاية الازمنة حسن لحكمته التي لا تفهم، ان يكشف ويعرف للبشر أسرار ثالوثه المجيدة العجيبة، ليكبر طبيعتنا ويزرع فيه زرعاً صالحاً، زرع القيامة من بين الاموات والحياة الجديدة التي لا تفسد، والتي لا تقبل التغيير أبداً بحسب قدم معرفته وإرادته الازلية التي لا بداية لها.

وبسببنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، جاء ابن الله الكلمة دون تغيير من ابيه الى العالم، وكان في العالم، والعالم كان بيده.

ولان الطبائع المخلوقة لا يمكنها ان ترى طبيعة الوهيته المجيدة جبل لنفسه من الطبيعة الادمية هيكلاً مقدساً بوقار لا يوصف. إنسان كامل من السيدة مريم الطوباوية العذراء القديسة، كمل بتنظيم طبيعي دون مشاركة رجل. لبسه واتحد معه، وبه تجلى للعالم، بحسب بشارة الملاك الذي قال لأم مخلصنا ” الروح القدس يحل عليك، وقوة العلى تظللك. فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله“. ومن الشركة العجيبة والاتحاد دون الانفصال التي صارت للطبيعة الانسانية منذ بدء جبلته، المأخوذة من الله الكلمة آخذها، نعـلـّـم: نعرف أن ربنا يسوع المسيح ابن الله شخص واحد، مولود من الاب بطبيعة الوهيته الازلية، قبل بداية العالمين. وفي نهاية الازمنة ولد من العذراء القديسة ابنة داود بطبيعته الانسانية، بحسب قول الله لداود ” من ثمرة بطنك سأجلس على كرسيك”. ومن بعد هذه الاشياء، الطوباوي مار بولس الرسول في كلامه مع اليهود وضّح عن داود قائلاً ” ومن زرعه أقام الله يسوع المخلص كما وعد”. وفي رسالته الى أهل فيلبي هكذا يكتب ” والان فكروا بانفسكم، فحتى يسوع المسيح الذي هو صورة الله، اخذ صورة العبد”. لماذا لم يدعوا احداً آخر صورة الله الا المسيح بطبيعته الالهية؟ ومجدداً من يسمي صورة العبد غير المسيح بانسانيته. وعن قوله بانه ” اخذ”، الالوهية أخذت الانسانية، وعن ” اخذت” فالانسانية هي التي أخذت بالإلوهية. فاذاً خصائص الطبيعة كلها لا يمكن أن تختلط، لان الذي أخذ لا يمكن أن يؤخذ، ولا أيضاً الذي أُخذ يمكن ان يصبح آخذاً. ولكي يتجلى الله الكلمة في الانسان الذي لبس، وتراءى الطبيعة الانسانية للخليقة بنظام إنسانيته ووحدة غير منفصلة، ابن واحد يجب أن يتواجد كما تعلمنا وهكذا نعترف. فغير ممكن بأية طريقة أن تتحول الالوهية للانسانية أو تتحول الانسانية الى الطبيعة الإلهية والسبب انه كيف يمكن لمن لا بداية له أن يقع تحت ثقل التغيير او الموت. فإن تغيرت الالوهية وخرجت عن طبيعتها فهذا هدم للإلوهية ( حاشا) وإن خرجت الانسانية عن طبيعتها فلا خلاص بها، بل انه خلاص انساني. ولهذا نحن نؤمن بقلوبنا ونعترف بشفاهنا برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الحي، لئلا تخفى إلوهيته ولا تسلب إنسانيته، إله كامل وإنسان كامل. فحين نقول المسيح إله كامل، فنحن لا نقولها للثالوث كله، بل لواحد من الاقانيم الثلاثة والذي هو الله الكلمة. وكذلك لما نقول المسيح هو انسان كامل، فلسنا نقولها للبشر أجمعين بل للاقنوم المعروف المأخوذ للاتحاد مع الله من أجل خلاصنا. ولهذا ربنا يسوع المسيح المولود بإلوهيته من الله أبيه أزلياً ( دون بداية ) في الازمنة الاخيرة، ومن أجل خلاصنا ولد من العذراء القديسة بإنسانيته. فمكث بإلوهيته دون حاجة أو ألم أو تغيير. بينما بإنسانيته من بعد مولده خـُتن وكبر بحسب شهادة لوقا الانجيلي ” كان يسوع ينمو بالقامة والحكمة والنعمة، لدى الله والبشر”. وحفظ الناموس، اعتمذ في نهر الاردن على يد يوحنا، وحينئذ بدأ يبشر بالعهد الجديد، بقوة الوهيته كان يعمل العجائب: تطهير البرص، فتح عيون العميان، إخراج الشياطين، وإقامة الأموات. وبطبيعته الانسانية: عطش، جاع، أكل، شرب، تعب، نام، وفي النهاية سلــّـم ذاته من أجلنا نحن البشر وصلب وقبل الالم والموت. ولم تنتقل معه إلوهيته ولم تقبل الألم، ولفّ جسده بأقمشة الكتان ووضع في القبر ومن بعد ثلاثة أيام قام بقوة إلوهيته كما سبق وقال لليهود قبل صلبه ” انقضوا هذا الهيكل وأنا سأقيمه بثلاثة أيام” ويفسره الانجيلي قائلاَ ” كان يقصد هيكل جسده”. وبعد ان قام جال الارض مع تلاميذه مدة اربعين يوماً، مظهراً لهم يديه ورجليه، قائلاً لهم ” جسوني واعلموا أن الروح ليس له لحم او عظام، بينما أنا لي كما ترون” فبالكلام والجس والعجائب ثبتهم على قيامته ليقوي رجاء قيامتنا بحقيقة قيامته. وبعد أربعين يوماً صعد الى السماء أمام أعين تلاميذه وأخذته غمامة وأختفى من أمام أعينهم بحسب شهادة الكتاب، ونحن نعترف أنه عتيد أن يأتي من السماء بقوة ومجد ملائكته القديسين، وسيقيم الجنس البشري كله، ويدين ويفحص كل الناطقين، كما قال الملائكة للرسل وقت صعوده ” يسوع هذا الذي منكم صعد الى السماء، كما رأيتموه صاعداً الى السماء هكذا سيأتي”. وبهذا نعلمهم أنه صعد الى السماء لكن أقنوم انسانيته لم يتلاشى أو يتغير بل بقي وحفظ باتحاد لا ينفصل مع الوهيته بمجد بهي، حيث به هو عتيد أن يتراءى بتجليه الاخير من السماء لاخجال صالبيه ولفرح وفخر المؤمنين به، فله ولابيه وللروح القدس المجد والاكرام الى الابد الآبدين.

نحب بفكرنا ونعترف بشفاهنا بهذا الايمان المستقيم الذي قبلناه وتعلمناه من تعليم الانبياء والرسل والآباء القديسين الروحي. ونعترف بكل من بشروا به وعلموه واستلموا وقبلوه. سواءً المجامع العامة من زمن لآخر في الغرب والشرق، أشخاص رسميون عرفت أسمائهم في الكنيسة المقدسة. فهؤلاء نقبلهم ونحبهم ونكرمهم كما هم كآباء وأخوة وبنو الايمان. ولكن الذي أنحرفوا عن هدف هذا الإيمان وتعلموا وعلــّموا ضده، فنحن نحسبهم مبغضين وغرباء. فهذا هو تعليم الايمان الحقيقي المعطى والمسلـَّم للكنيسة المقدسة الكاثوليكية الجامعة من الرسل القديسين. وفي أرض فارس منذ أيام الرسل وحتى الآن، لم يتواجد إنسان هرطوقي ( مخالف) أدخل على هذا الايمان انشقاقات. بينما في أرض الروم فمن زمن الرسل وحتى الآن نبعت بينهم مذاهب مخالفة كثيرة ومنفصلة أفسدت كثيرين، وحينما كانوا ينبذون من هناك كان يصل ظلامهم الى هنا بهربهم مثل المانيين والمرقونيين والذين يدخلون في عقيدتهم غير الصحيحة، الألم على الله، حوربوا ونبذوا من الكنيسة المقدسة فمن هناك بدأ مرضهم. خرجوا وجاءوا الى هنا، وهم يتجولون خفاءً بهيئة كاذبة، وهم يدخلون من زوايا خفية على أناس القرى البسطاء. والان نحن نؤمن ونفتكر وننتظر كما صارت أرض الروم تحت سلطان حكمهم الشهير والمجيد، لتأمر سيادتكم بأمر مسموع ومفيد سلطة الولايات والمدن الجديدة، أن يُـصلحوا ويؤمنوا معنا بهذا الايمان الرسولي، الذي قبلناه سوية منذ البداية. ونؤمن بإله واحد حقيقي الذي هو رب كل البرايا، وهو يحفظكم بحسب مشيئته، بوحدة السيادة على العالم كله، الى آبد الآبدين، آمين.

كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية وفــــاق و وئــــــام

 كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية
وفــــاق و وئــــــام

مثلث الرحمات مار نرسي دي باز
مطران لبنان وسوريا لكنيسة المشرق الآشورية

يبدو للوهلـة الأولى بأن الحديث عن الوفاق والوئام بين كنيستين رسوليتين، أو حتى بين الكنائس الأخرى، مسألة مستغربة ومثيرة للعجب والتساؤل في ظل إيماننا المسيحي الذي يقوم بالأساس على المحبة والوفاق والوئام والتسامح بين جميع أبناء البشر دون أي تمييــز. لقد علمنا ربنا يسوع المسيح كيف نحب بعضنا البعض، فالكتاب المقدس زاخر بإصحاحات وأمثال في هذا المجال ومعروفة للكثير من ألمؤمنين لا بل ويعلمنا يسوع أيضا كيف نحب حتى أعداؤنا ويأمرنا ويقول ” أحبوا أعداؤكم ” (متى 5:44 ).

هكذا علمنا ربنا يسوع المسيح وبشر رسله الأطهار بين جميع شعوب العالم، فكيف والحال بيننا نحن رجال الدين الذين نمثل مملكة الرب على الأرض ونحمل رسالته في المحبة والوئام والوفاق ونسعى إلى ترسيخها بين أبناء رعية كنائسنا؟ فكل كنائس العالم بمختلف اتجاهاتها ومعتقداتها تجمع على هذه المبادئ وتدعو إلى هذه الرسالة. إذن ما الذي يدعونا إلى أن نطرح مواضيع محاطة بالكثير من التساؤلات والبحوث حول المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام طالما يجمع عليها معظم كنائس العالم وبالأخص الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية، موضوع بحثنا هذا، طالما هي مسألة أساسية في إيماننا المسيحي لا يستوجبها البحث والتساؤل حولها. هذا من الناحية الروحية والمثالية التي لا تشوبها أية شائبة في إيمان الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية. أما من الناحية الواقعية والفعلية فالأمر يختلف كثيراً وهو الذي يشكل مصدر كل هذه التساؤلات في البحث والتقصي عن قيم المحبة والوئام والوفاق والتسامح ومن ثم الكشف عنها وترسيخها بين الكنيستين وطبقاً للمبادئ التي تعلمناها من ربنا يسوع المسيح. فلو حاولنا، ولو بقليل من الجهد والبحث، عن مصدر هذه التساؤلات التي تدفعنا لطرح هذا الموضوع لوجدناه في كلمة واحدة وهي الســياسة، ربما الأصح في كلمتين وهما السياسة المكيافيليــة. واقصد بهذه السياسة سعي الدول بكل الوسائل ولدرجة وصلت حتى إلى استغلال الدين والكنائس وتسخيرها من دون أي وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني من أجل تحقيق مصالحها الخاصة البعيدة كل البعد عن أبسط القيم السماوية والأرضية.

أي بهذا المعنى أقصد بأن السياسة بما تتضمنها من مؤثرات فكرية واجتماعية واقتصادية هي التي وضعت الحدود وبنت السدود بين مثاليتنا الروحية في فهم القيم المسيحية وبين الواقع الذي نشأت فيه كنائســنا وهي التي شوهت أيضاً ،عبر التاريخ الطويل، مفاهيم الوفاق والوئام القائمة، أو التي كان من الواجب قيامها في الواقع الفعلي بين الكنيستين الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكيـة. فبسبب هذه السياسة المكيافيلية طغت إفرازاتها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية على سطح العلاقات بين الكنيستين منذ أمد بعيد وظهرت ضمن هذه الإفرازات وكأنها علاقات تفتقر إلى الحد الأدنى من الوفاق والوئام وتسودها القطيعة والجفاء أن لم نقل البغض والعداء، في الوقت الذي تعتبر مبادئ الوفاق والوئام التي تعلمناها من ربنا يسوع المسيح أساس وجود كلا الكنيستين. فمن هذا المنطلق نقول، كلما طغت السياسة المكيافيلية وتعاظم تأثير إفرازاتها المختلفة على الشعوب بما فيها مؤسساتها الروحية، وأقصد الكنائس بالذات، تضاءلت أو اضمحلت المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام والمحبة والتسامح في ما بينها. والعكس صحيح أيضا، فكلما تضاءلت أو تلاشت السياسة المكيافيلية وقلّ تأثير إفرازاتها المختلفة على الشعوب وكنائسها برزت وتعاظمت المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام والمحبة والتسامح بين الكنائس المختلفة واقتربت من النبع المسيحي الأول الذي شربت منه جميع الكنائس. فهذه الحقيقة المنطقية تنطبق في أجلّ صورها على طبيعة العلاقة بين الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية والتي خضعت خضوعاً مباشراُ ومؤثراً إلى إفرازات السياسة المكيافيلية لبعض الدولة الكبرى وبالأخص بريطانيــا وفرنســا أبان تصاعد حدة نزعتهما الاستعمارية التنافسية في القرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين، وبالتالي أبعدت كلا الكنيستين في الواقع الفعلي عن منبعهما المسيحي المشترك في الوفاق والوئام فظهرت العلاقة بينهما متصفة بالجفاء والعداء مبتعدة بمسافات بعيدة عن إيمانهم الحقيقي والصميمي وعن تعاليم معلمنا الأول سيدنا المسيح في الوفاق والوئام الواجب توفرها لا بين كنيسة وكنيسة فحسب أو بين فرد وفرد بل بين جميع شعوب الأمم المعمورة، وهو الواجب الذي حملته كنيستنا الآشورية على عاتقها في هذه الأيام في التطهر من السياسة المكيافيلية وتأثيراتها في بناء علاقتها مع جميع الكنائس وبالأخص الغربية الكاثوليكية منها والتي يتحقق جانب منها في خطوات التفاهم والتقارب نحو الوحدة بين شقي كنيسة المشرق، وأقصد كنيستنا الآشورية والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية .

والتاريخ البعيد والقريب يؤيد ما ذهبنا إليه. فمن الحقائق التاريخ المعروفة لدينا هي أنه بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية في عام 605 ق.م. أنحصر كيانها السياسي في أعالي بلاد آشــور وفي دويلات صغيرة وضمن مناطق تقاطع دوائر الصراع الفارسي والاغريقي ثم البيزنطيني المستمر والتي كانت تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي. ومن هذه المناطق، وتحديداً من منطقة أورهي أو أورفه، حاليا في جنوب شرقي تركيا والمعروفة عند الغرب بـ “أوديسا”، أنطلق أيماننا في بناء الصخرة الأولى في كنيستنا وعلى يدي مار أدي الرسول ثم تلاميذه ماري ومار أجاي والذي توسع هذا الإيمان حتى وصل إلى أقاصي الصين ومنغوليا بحيث تمكن مؤمنو هذه الكنيسة من بناء إمبراطورية روحية واسعة عوضتهم عن فقدانهم لإمبراطوريتهم المادية القديمة فأصبحت إمبراطوريتهم الجديدة جزء من حياتهم ووجودهم أستوجب الحفاظ عليها وعلى إيمانهم المسيحي واستمراره وتواصله حتى اليوم الكثير من التضحيات بالأرواح والدماء، وهي تضحيات مقرونة بملاحم عجيبة في التضحية والفداء من أجل كلمة الرب، وتفاصيلها مذكورة في الكثير من الكتب والوثائق التاريخية ولا نرى المجال متسع للإطناب فيها لأنها معروفة للداني والقاصي.

ومن الملاحظ في تاريخ كنيسة المشرق الآشورية بأنه رغم انتشارها في مناطق واسعة وشمولها لشعوب مختلفة ومتعددة واستمرارها لقرون طويلة إلا أن أتباعها كانوا وعلى الدوام يشكلون أقلية بين بقية الشعوب والمعتقدات، ولم يكن حاكم أو ملك ذو شأن من أتباعهم، وظلوا عبر التاريخ الطويل وحتى اليوم أقلية لا دولتية، أي لم يؤسس أتباعها أية دولة أو كيان سياسي مستقل خاص بهم أو ارتبطوا بدولة أخرى تبنت نفس معتقداتهم، وهذا بالأساس كان يرجع إلى كون كل اهتمامهم وحياتهم مكرسة لخدمة مملكة الرب وبالتالي لم تشغل مملكة الأرض أي اهتمام عندهم. من هذا المنطلق، أي بسبب الافتقار إلى كيان سياسي فاعل ومؤثر قادر على توفير الحماية أو الصيانة اللازمة لكنيسة المشرق من المؤثرات السياسية الخارجية نرى بأن كنيسة المشرق الآشورية خضت وتأثرت تأثراً كبيراً ومباشراً بسياسة الدول الأخرى وعجزت عن مقاومتها وبالتالي تعرضت لتأثير سياسيات الدول التي خضعت إليها، ابتداءً من الدول الفارسية ثم البيزنطينية والإسلامية فالعثمانية والأوربية بما فيها بريطانيا وفرنسا. وطبقا لهذه السياسات، التي فرضت بالحديد والنار على رؤساء الكنيسة ورعيتها أو استغلت ظروفهم المأساوية لفرضها عليهم، تحددت طبيعة علاقتها مع الكنائس الأخرى التي خضعت هي الأخرى إلى سياسات الدول، وخاصة الدول التي كانت في عداء وحروب مستمرين كالإمبراطوريتين الفارسية والرومانية ثم البيزنطينية كما كان في السابق، والامبراطورية العثمانية والدول الغربية كما كان في القرون القليلة الماضية، فانعكست هذه الصراعات، بكل ما تحمله من طابع سياسي وفكري وحضاري، في طبيعة علاقات كنيسة المشرق الآشورية مع الكنائس الأخرى، فأصابها الكثير من الجفاء والقطيعة والعزلة، خاصة بعد منتصف القرن الميلادي الرابع فكانت تلك الفترة البداية الأولى في بناء السدود بين كنيستنا والكنائس الغربية الأخرى والتي استمرت قرون طويلة وحتى إلى وقت قريب من عصرنا.

وبقدر تعلق الأمر بمبادئ الوفاق والوئام من الناحية الروحية في طبيعة علاقة كنيستنا مع الكنيسة الغربية الكاثوليكية ومدى تأثرها بالسياسات المكيافيلية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وهو القرن الذي بدأت الدول الغربية وكنائسها الاهتمام بالعالم الشرق الأوسطي وبمسيحييه وكنائسه، ومدى قدرة هذه السياسات في تحويل هذه الطبيعة الروحية للعلاقة بينهما إلى نوع من الجفاء والخصام نلاحظ بأنه مرة أخرى انعكاس تأثيرات مملكة الأرض المتمثلة في الأطماع الاستعمارية للدولتين البريطانية والفرنسية وحتى الروسية وصراعهما على ممتلكات الرجل المريض، أي الدولة العثمانية، على طبيعة العلاقة بين كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية، وبالأخص الكلدانية منها، وطغت على المبادئ الروحية الصميمية في الوفاق والوئام التي تجمعهم ككنيسة واحدة ذات طقس ولغة وشعب واحد . وتجلت مكيافيلية هذه السياسات وبكل وضوح في ادعاء هذه الدول في حماية الاقليات المسيحية ومساعدتهم للتخلص والتحرر من ظلم واستبداد الأتراك في القرن الماضي كأسلوب لتنفيذ مأربهم السياسية عن طريق استغلال الدين. لذلك كان لازماً على كل دولة اللجوء إلى الطائفة الأقرب إليها من حيث المعتقد سعياً لتحقيق هذه السياسات، كما كان لازماً عليها أيضا في تعزيز موقف هذه الطائفة وتعظيم نفوذها في الدولة العثمانية أن تحاول تحقير الطوائف الأخرى والنيل منها. فهكذا استطاعت الدولة الفرنسية، سواء عن طريق مبشريها أو قناصلها أو مفكريها، أن تزرع في نفوس وعقول أبناء الطائفة الكلدانية الكاثوليكية مفاهيم تقوم على اعتبار أبناء كنيسة المشرق الآشورية مجرد نساطرة وكفرة وملحدين وغيرها من الشتائم التي زادت من الشقاق والخصام بين الكنيستين. وعلى الجانب الاخر، وأقصد كنيسة المشرق الآشورية، كان تأثير السياسة المكيافيلية الإنكليزية أكثر قوة وعمقاً وذلك لسببين : أولهما كون بريطانيا هي الدولة الأكثر نفوذاً ومصلحة في المنطقة وخاصة في العراق. وثانيهما عدم وجود لبريطانيا طائفة قوية في الدولة العثمانية ثم في العراق من اتباع الكنيسة الإنكليكانية للاعتماد عليها في تنفيذ سياستها فوجدت في استقلالية كنيسة المشرق الآشورية وفي عدم وجود من يستجيب لاستغاثتها وهي غارقة في المذابح والفواجع والتشرد، فرصة ذهبية لاستغلالها من دون أي وازع أخلاقي وديني وأنساني لتحقيق مآربها الاستعمارية. فنجحت فعلاً في تحقيق الكثير من أهدافها ومنها الهدف المتعلق بموضوعنا في زرعها لبعض المفاهيم السيئة في نفوس وعقول أبناء كنيستنا عن أخوتنا أبناء الطائفة الكلدانية وفي اعتبارهم مجرد ( قليبايـه) ، والذي يعني باللغة الاشورية السريانية بـ ” المتحول من مذهب إلى مذهب أخر ” أي الذين باعوا أنفسهم للغرب مقابل بعض الفرنكات، وهكذا غيرها من الشتائم التي تناقلها الطرفين وحتى أيامنا هذه ولا يزال يتناقلها البعض الغارقون في النزعات الطائفية والنائمون في ظلام الماضي الأليم.

واليوم هو غير الأمس و بجميع جوانبه الموضوعية والفكرية، فلا عزلة هيكاري ولا التقوقع الفكري ينفعان في هذا الزمان، زمن الكومبيوتر والبريد الالكتروني والانترنت والستلايت. كما لا تنفع الأساليب والمناهج العتيقة في التعبير عن أصالة كنيسة المشرق الآشورية وعن ومعتقداتها أثناء تعاملها مع بقية الكنائس المسيحية خاصة بعد أن تسلح أبناء رعيتها بسلاح العلم والمعرفة واكتسبوا مناهج علمية معاصر في التعبير عن أصالتهم التاريخية قادرة على الدخول في تفاهم ووفاق ووئام مع بقية الكنائس المسيحية بعقلية علمية منفتحة. وكان اجتماع قداسة البطريرك مار دنخا الرابع مع الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني وصدور البيان عنهما في الإيمان المسيحاني المشترك بين كنيسة المشرق الآشورية وكنيسة روما الكاثوليكية في أواخر شهر تشرين الثاني( نوفمبر) 1994 نموذجاً رائعاً في إزالة الغشاء التاريخي الأسود الذي كان يغطي مفاهيم الوفاق والوئام القائمة بين الكنيستين الرسوليتين. وتأتي المباحثات الأخوية بين شقي كنيسة المشرق، الآشورية والكلدانية، الهادفة إلى إزالة الاختلافات بينهم نحو تحقيق الوحدة وإعادة أمجاد هذه الكنيسة التاريخية إلى الحاضر المعايش خطوة تطبيقية للبيان المسيحاني المشترك، وهو نفس الأمل الروحي الذي نأمل من لقائنا وتشاورنا مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ومع بقية كنائس العالم في بناء أسس الوفاق والوئام بيننا. وكانت مقررات المجمع السنهادوسي لكنيستنا في صيف عام 1997 والخاصة برفع وإلغاء،ومن غير رجعة ، مخلفات الماضي الأليمة التي كانت تعكر الطبيعة الروحية النقية لكنيسة المسيح، تأكيداً واضحاً وصريحاً من كنيستنا في رغبتها الجامحة في الكشف عن الأسس الجوهرية لها في الوفاق والوئام والمحبة وبناء علاقاتها مع بقية كنائس العالم من أجل إقامة الصرح المسيحي الأخوي في كنائسنا نجتمع فيه جميعاً مع ربنا يسوع المسيح ونحقق ما قاله “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي ، فأنا هناك في وسطهم” ( متى 18:20 ).

وانطلاقا من أيماننا العميق بهذه المبادئ المسيحية الطاهرة ومن هذا المنبر الحر أقترح أن تكون سنة 2000 سنة وفاق ووئام بين جميع كنائس العالم، وتحقيقاً للخطوة الأولى بهذا الشأن أقترح تشكيل مجلس أعلى لبطاركة كنائس المشرق السريانية وأترك تفاصيل هذا المقترح إلى المجتمعين في هذا المؤتمر للتداول فيها والبحث عن إمكانية الخروج بهذا المقترح إلى النور.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
ألقي هذا الموضوع في المؤتمر الثاني للجبهة الثقافية السريانية المنعقدة في بيروت في 1/5/1998

مقتطفات من أقوال القديس يوحنا الذهبي الفم عن توبة أهل نينوى

مقتطفات من أقوال القديس يوحنا الذهبي الفم عن توبة أهل نينوى

الشماس نجيب ننو

هلموا لنرسوا قاربنا في بحر توبة اهل نينوى، لنرى من شابهوا الكواسر يدركون رتبة الملائكة. لنرى الذين دمروا المدينة كيف يعيدون بنائها بطريقة فائقة. لنرى من كانوا أعداء الله بالامس يصيرون أصدقائه اليوم، والذين كان السيد متهماً لديهم قبلاً، ينجحون في اقتنائه مدافعاً عنهم. لنرى المحكوم عليهم يسعون لدى القاضي الذي أدانهم، فيلغون الحكمْ.

سمعنا ان المدينة لدى استقبالها النبوة عنها لم تسقط في اليأس، بل دعت إلى التوبة، وبينما لم يكن لها مرشداً للخلاص، بدأت في عبادة الله ومصالحته، فيا ترى ماذا فعلت من أجل هذه المصالحة؟

النساء والاولاد يلبسون المسوح، وكل المهن والأعمال البشرية تتوقف، لا أحد يقوم باي عمل، حزن بلغ الجميع وصراخ أرتفع إلى السماء.

تامل بزوال التميز بين الاسياد والعبيد، الرؤساء والمرءوسين فهوذا الملك قد حضر إلى وسط شعبه، يعدٌّ لخدمة عبادية لله، وكأنه يعد جحفلاً عسكرياً.

يقول السفر ” وبلغ الامر ملك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطى بمسح وجلس على الرماد” ( يونان 3: 6 ) يا لحكمة الملك، فقد أعلن التوبة التوبة اولاً لكي يجعل من مدينته بحالةٍ أفضل، لانه من ذا الذي يرى الملك يجاهد في طريق الخلاص امامه ولا يتبعه؟

الجراحات تشفى من خلال المسوح، والخطايا تمحى بالتذلل على الرماد، والكبرياء يعالج بالتواضع، والصيام يعالج خطايا التنعم والترفــُّه.

لقد أوصى الملك المرضى بالصيام، وكأنه هو الطبيب، واتبع الذي كان يقضي حياته بالترف، بالصيام ويتبع التعاليم الرسولية، آمراً الحيوانات باتباع البشر في هذا الصيام. يقول الكتاب ” وليتغط بمسوح الناس والبهائم” (يونان 3: 8 )، فيا للترتيب السماوي، وياله من طابور مرعب لعرش الشيطان عندما يرى كامل جيشه الذي تبعه سابقاً يتحول حول جهة الله، لا بل يحارب الشيطان.

في هذه المعركة الروحية الاولاد والنساء والرضع يحاربون إلى جنب الرجال، حتى البهائم تشترك في المعركة من خلال صومها من أجل خلاص نفوس مقتنيها ” الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئا، لا ترع ولا تشرب ماء.” ( يونان 3: 7 ). الملك تخلى عن شارات ملوكيته واخذ دور الكهنة بالكرازة والتأديب لاهل نينوى.

يا اهل نينوى، لقد ربحنا في الماضي حروباً كثيرة، فلنساهم الان وبشجاعة أكبر على خلاص نفوسنا، لقد نجحنا سابقاً في أن نكون رؤساء على الاخرين، وعملنا الان يقتضي الا نبيد مع نساءنا وأولادنا في لحظة.

لنرمي السماء بالتسابيح، ونقذفها بالتراتيل بدلا من الرماح، لنطلق مقلاع صلاتنا نحو الله لكي نطفئ غضبه من خلال حرارة دموعنا، لندمر ايضاً أعمالنا الشريرة ولنحارب بالأسلحة الحسنة التي هي، درع البر الذي لا يخترقها سهم، وترس الايمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة، وخوذة الايمان. الدينونة من جهة لنينوى تتلاشى كالدخان امام توبة حقيقية.

فان حاربنا بمثل هذه الاسلحة فاننا نغزو السماء كما غزونا الارض.

تشجعوا يا أهل نينوى، فمن يقاتلنا هو ملك محب للبشر، يطرح اعدائه وهو غير مكترث لتضرعاتهم، ولكنه متى أغاض النظر عن غضبه يصبح الهاً محسناً لاعدائه.

بهذه الاقوال شجع الملك شعبه على التوبة.

عبد الله بن الطيب

عبد الله بن الطيب

الاب يوسف جزراوي

هو ابو الفرج عبد الله ابن الطيب البغدادي[1]. ابصر النور في بغداد سنة 980 م. نال العلوم على يد ابن زرعة[2] وابن الخمار[3].

عُرف منذ صباه بحبه للمعرفة، فأجهد نفسه على الدراسة والتعلم ومال إلى التدين والزهد حتى صار قسيسًا[4]. ونظرا لعلمه ومنزلته ولما تحلى به من صفات نبيلة اتخذه الجاثاليق ( البطريرك بلغة اليوم ) يوحنّا بن نازك[5] جاثاليق كنيسة المشرق (ت 1022 م ) كاتبًا له وأمينًا لسرّه. وبقيَّ في هذا المنصب حتّى في عهد الجاثاليق ايليا الأول[6]. حضيَّ بمحبة حاكم بغداد والبصرة جلال الدين البويهي المتوفي سنة 1044 م.

عاش ابن الطيب في بغداد على أيام الخليفة القادر ( 991 – 1031 م )[7]. والخليفة القائم ( 1031 – 1075 م ) من السلالة البويهية. تجمع المصادر التي في حوزتنا على ان ابن الطيب هو واحد من أبرز رجال مدرسة بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي. وإنه علم من أعلام تلك المدرسة العريقة التي قدمت الكثير والكثير في زمانها.

إنه القسيس الفاضل والطبيب والمُعلم والفيلسوف الحكيم، اللاهوتي والمُشرّع القانوني والمُصنّف القدير والمترجم البارع. إنّه إذا جاز التعبير موسوعة بكل ما في الكلمة من معنى، فلم يقتصر نشاطه على مجال واحد من مجالات العلوم والمعارف.

عرف عنه بانه ذو احساس مُرهف كما امتاز بصفة التفنيد، بحيث كان يُفند الغاز أعدائه.

وصفه ابن أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ” بأنه كاتب الجاثاليق ( البطريرك ) ومن المتميزين بين نصارى بغداد، نال عن جدارة لقب شيخ الأطباء “. كما وصفه القفطي في كتابه تاريخ الحكماء ( ص 23 ) بما يلي: ” …. فيلسوف عراقي فاضل مطلع على كتب الأوائل واقاويلهم، مُجتهد في البحث والتفتيش، وبسط القول، اعتنى بشرح الكتب القديمة في المنطق وأنواع الحكمة من تواليف ارسطو طاليس، ومن الطب كتب جالينوس، وبسط الكتب التي تولي شرحا بسيطًا شافيًا قصد به التعليم والتفهيم “.

كما انه فسر الكتاب المقدس بكامله ووضع مقالات أملتها عليه الظروف[8]. من هذا نفهم بأن صاحبنا كان مُطلعًا على امهات وبطون المصادر وعرف كيف يقرأ حاضره على ضوء كتاباته وحكمة القدماء، وبالذات حكمة اليونان، فقد كان أشبه بهمزة الوصل في نقل الثقافة اليونانية إلى العربية بواسطة شقيقتها السريانية.

تذكر المصادر انه صاحب حلقة درس في المستشفى العضدي يُدرّس فيها طلبة العلم ومنه ينهلون العلوم والمعارف. وفيه يُعالج المرضى ايضًا. كما كان له أيضًا حلقة درس في بيت الحكمة البغدادي يُعلم فيها الفلسفة والمنطق والطبيعة[9].

كان يُتقن اللغة السريانية والعربية واليونانية، وقد أخطأ من قال بإجادته للغة اللاتينية.

لبراعته في السريانية وتمكنه منها قام بنقل كتاب الدياطسرون[10] من السريانية إلى العربية، علاوة على ذلك، نقل بعض من الترجمات المكتوبة بالسريانية الى العربية، تسهيلاً للمُطالعين الذين لا يحسنون قراءة السريانية. ومن اهم كتبه التي وضعها بالعربية هي ” فقه النصرانية ” وكتبًا في الإرث وشرحًا للعهدين القديم والجديد أسماه ” فردوس النصرانية “[11].

له قدرة كبيرة على التصنيف في شتى فنون المعرفة. وما هو مُتفق عليه بأن مُعظم تصانيفه كانت مُتداولة والتي مازال العديد منها لم يرى النور هي من إملاء لفظه على طلبته وليست بخط يده.

حظيت مؤلفاته بالشهرة وتداولت بين الأطباء والفلاسفة والحكماء ووصلت شهرته إلى أقاصي الأرض حتّى بات محبو العلم والبحث والحكمة يقصدونه من سائر البلدان والإستفادة منه والإشتغال عنده، وفي هذا الصدد له قصّة جميلة مع رجلين طالبي علم من بلاد العجم[12].

عالج المرضى في بيمارستان العضدي[13] وعلم فيه سنين عديدة علوم الطب وكان الخليفة القائم بأمر الله ( ت 1075 م ) قد عينه رئيسًا على الأطباء فيه. عُرف ايضًا عن ابن الطيب بحبه للكنيسة، كنيسة المشرق العريقة، فقد حمل همّها، إذ يعرف هذا الكاهن الفاضل في مُقدمة كتابه فردوس النصرانية حال الكنيسة التي كانت تُعاني من الجهل واللامبالاة، فكتب كلمات تعكس ما كان يجول في فكره إزاء واقع كنيسته في عصره فيقول: ” لما شاهدتُ علوم الكنيسة المقدسة وقد دثرت ولم يبق احدًا من الكهنة الأكابر يفتح كتابًا ولا يقرأ تفسيرًا ولا عالمًا، إلا النفر القليل، فرأيتُ أن أجمع سائر تفاسير الكتب الحديثة والعتيقة باختصار في العربية “[14].

توفيّ ابن الطيب في بغداد سنة 1043 م ودفِن في كنيسة دُرتا[15]. ويذكر العلامة الأب يوسف حَبّي ( رحمه الله)، انه كان قد كُتبت على قبره عبارة فيلسوف شهير، وقد خربته الفيضانات سنة 1300 م[16].

انتقل ابن الطيب إلى دار البقاء عن عمر ناهز الثالثة والستين عامًا ( 980 – 1043 م )، لكنه ترك بعده إرثًا عميقًا، قد حفر لاسمه البقاء المجيد.

ترك بصماته في اكثر من حقل وله آثار خلّدت اسمه إلى يومنا هذا، ومن الممكن تقسيم آثاره إلى أربعة أقسام أساسية وهي: الطب، الفلسفة، الفقه والتفاسير الكتابية، متفرقات[17]. ولا نميل للتوسع بها لأن اكثر من باحث كان قد تصدى لها مُسبقًا، لذا تلافينا الإعادة والتكرار، وإيمانًا منّا بأننا لن نضيف إليها شيئًا جديدًا، فاكتفينا بذكرها فقط.

من تفاسيره الكتابية الأخيرة التي رأت النور هي تفسيره (تعليقه) على سفر الأمثال (حكمة سليمان)[18]، الذي لم يُقدم فيه شروحات واسعة، بل تفاسير قصيرة وأحيانًا يقدمها بدون أي تسلسل منطقي، ويكتفي أحيانًا بشرح بعض الكلمات التي قد تكون غامضة المعاني إن كانت عربية أو سريانية[19]. كذلك تفسيره لرسالة بولس الأولى إلى الكورنثيين[20]. ويشير البعض إلى أن ابن الطيب لم يكُن متمكنًا من اللغة العربية، زاعمين ان مَن يطّلع على كتاباته أو تفاسيره التي هي في مُتناول اليد سيرى بأنها لم تخلُ من الأخطاء! ولعل السبب يكمن بأن معظم آثاره التي وصلت إلينا هي عبارة عن دروس قدمها لتلاميذه، أو إجابات شفهية عن أسئلة تلاميذته، فمثلا: تفسيره لسفر الامثال قد وصل إلينا عبر ملاحظات تلاميذه المُدونة تحريريًا. ومن يطّلع على آثاره سيرى انها لم تخلُ من التكرار والإجترار ايضًا، هذا ما إلتمسناه في قرائتنا لمقالته في ” التثليث ” التي عمل على تحقيقها ونشرها الأب سمير خليل اليسوعي، وكذلك من تفسيره لسفر الأمثال ( النص العربي ) الذي ذكرناه سلفًا. ومهما يكن من أمر فان ابن الطيب كما أسلفنا يُعد أحد أعمدة النهضة الفكرية والثقافية والروحية لبغداد ولكنيسة المشرق في عصره.

ابن الطيب ودوره في النهضة الفكرية والثقافية لبغداد

وضع ابن الطيب حجارة رائعة في صرح الحضارة العربية في عصرها الذهبي إبّان العهد العباسي، إذ اتسمت هذه الفترة بالإستقرار، مما شجع على تقدم الفكر والعلوم بسبب انفتاح خلفاء بني العباس. ففي عهدهم دخلت مسيحية المشرق عصرًا جديدًا، بعد اضطهادات وسفك دماء وظروف صعبة في أيام حكم ملوك الفرس، ومن يتتبع تاريخ هذه المرحلة سيرى ان كل شيء كان يبدو مُهيئًا لانفتاح عهد حضاري جديد، فانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب الفكر والعلم والأدب، فتمكنوا من إظهار مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان خلفاء بني العباس لهم.

فيشهد لنا التاريخ بان اطباء الخلافة العباسية كانوا عادًة من المسيحيين، وكانت العلاقة بينهم وبين الخلفاء علاقة ود واعتزاز. ولا مغالاة ان قلت: بأن أغلب الخلفاء كانت تربطهم باطبائهم علاقة صداقة واحترام، ويطيب لنا أن نتساءل: هل كان ابن الطيب طبيبًا شخصيًا للخليفة القائم؟ ولمَ لا! فنحن نرجح ذلك، فهذا الخليفة بالذات كان يكن له احتراما جمًا ويثق به ثقة مُطلقة، لذا كان قد عينه رئيسا على الاطباء في بيمارستان العضدي، وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على مكانة الرجل بين أطباء عصره وتقدمه عليهم. فليس من المعقول أو من المقبول أن لا يستشيره الخليفة في اموره الصحية المُستعصية وهو من ابرز أطباء عصره وأجهدهم[21].

ويفيدنا التاريخ ايضًا بأن الخلفاء بذلوا اموالاً طائلة للحصول على كتب العلوم والفلسفة من بلاد الروم ومن الحضارة اليونانية، فقاموا بجمع النصوص القديمة وقام المشتغلون بتحقيقها ونقل محتواها إلى السريانية والعربية بعد إجراء التعديلات وليست “تحريفات “، لاسيما فيما يخص المُعتقد. وتجدر الإشارة ان طبيعة العمل كانت جماعية، عمل أسهم فيه الكثيرون.

ختامًا

سيبقى ابن الطيب واحدًا من اولئك الذين ساهموا في إثراء الأدب السرياني والتراث العربي، فقد كان جسر الصلة بين اليونانية والسريانية والعربية، ويمكننا التأكيد على أن العصر العباسي الذي اتسم بتفتح عقلية الفاتحين والحاكمين واحتضانهم للعلماء واصحاب الفكر قد مرَّ بحقبتين كمّلت إحداهما الأخرى، فالحقبة الأولى كانت كانت عصر الغرس وبذر البذور، فجاءت الحقبة الثانية للحصاد وجَني الثمار، واننا نضع ابن الطيب في الحقبة الثانية، فقد عمل على قراءة النصوص المُترجمة من قِبل المُترجمين الأوائل وتفسيرها وجني الثمار الناضجة، إذ كان أبو الفرج قد صب جهده لتصحيح الترجمات السابقة لما احتوته من أخطاء، والسبب في ذلك ان الذين ترجموا من اليونانية لم يكونوا يدركوا بشكل ممتاز الكتب التي يعملون على نقلها من اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية، ناهيك عن التحريف الذي تم خلال عملية النقل هذه التي تتم عبر اللغات الثلاثة التي تم ذكرها قبل قليل.

وما هو مُتفق عليه ان الترجمة فن شاق، فهي اصعب من التاليف لأن المؤلف حرّ في تصوير وتجسيد وتنسيق ألفاظه وافكاره. أما المُترجم والناقل فهو مُقيّد بمعاني النص الأصلي وألفاظه، ولا مغالاة ان قلت ان ابن الطيب كان من اولئك الذين استوعبوا اللغة الفلسفية وتمكنوا من سبر اغوارها مُستفيدًا من ضبطه للغة الفلسفية المُترجم منها وإليها.

كثيرًا ما غالى المؤرخون والباحثون فنسبوا كل فكر وعلم ونهضة تمت إلى الحقبة الأولى! نحن هنا لا نريد أن نُقلل من شأن هذه الحقبة وننكر فضلها في بعث حركة الترجمة، لكننا نود تعميم حقيقة جلية مفادها: ان جهود الحقبة الأولى نضجت، بل ازدهرت في الحقبة الثانية، وفي هذه الحقبة بالذات غدت بغداد أم العلوم[22]. ولا يمكن أن تكتمل ملامح اللوحة الزاهية التي رسمها علماء ومُترجمي وأطباء بغداد دون الوقوف على جهود (مسيحيّ بغداد)[23] وخصوصًا على جهود ابن الطيب الذي ترك بصماته في أكثر من حقل، خلال هذه الحقبة المُشرقة.

أخيرًا، ابن الطيب، الكاهن الفيلسوف، الطبيب والمُفسر المسيحي العراقي المُبدع، قد عرفناه طبيبًا أمينًا لمهنته وكاهنًا مُحبًا لدعوته وكنيسته، وعراقيًا أصيلاً لبلده، وحكيمًا مولعًا بحب الفلسفة والمنطق، ولاهوتيًا ومُفكرًا كتابيًا، ومُصنفًا ومُترجمًا، انه والحق يُقال صرح حضاري ذو قيمة كبرى، ليس من السهولة نكرانه أو التخلّي عنه. إنه متعة للدارسين وزاد لطريقهم.

[1] ذكر الاب سمير خليل اليسوعي في تحقيق مقالة ابن الطيب في التثليث المنشور في مجلة بين النهرين عدد 1976، 16 ص 365، بأنه من عباد. من المحتمل ان جذوره تعود لهذه القبيلة المسيحية، لكنه بغدادي الاصل.

[2] هو ابو علي بن اسحق بن زرعة بن مرقس بن زرعة من مسيحي بغداد البارزين في عصره. كان ماهرًا في علم المنطق والفلسفة وواحدًا من النقلة الجيدين. رأى النور في بغداد سنة 941 م. كان العامة يكنون له احترامًا جمًا تقديرًا لمنزلته العالمية، فتتلمذ على يده كبار الاطباء مثل ابن كشكر والحراني وابن الطيب. توفي سنة 1006 م بحسب رواية ابن النديم.

[3] (( وهو الطبيب ابو الخير)) ابصر نور الحياة في بغداد سنة 942 م تميز باتقانه السريانية والعربية. وامتاز ايضًا بحذاقته بصناعة الطب والتبحر في الحكمة. تتلمذ على يد يحيى بن عدي، نقل كتبًا كثيرة من السريانية الى العربية. وصفه ابن ابي صبيعة: ” لقد وفى صناعته ( الطب ) حقها بتواضع للضعفاء وبتعاظم على العظماء “. وصفه الأب لويس شيخو اليسوعي في كتابه علماء النصرانية في الاسلام بما يلي: انه في نهاية الذكاء والفطنة والاطلاع بعلوم اصحابه. (علماء النصرانية ص 63 ).

[4] ذكر الأب ( المطران ) جاك اسحق في تحقيق مقالة في التوبة لابن الطيب: تؤكد مخطوطات عدّة بأنه راهب وقسيس. ( انظر مجلة بين النهرين ع 67، 1989، ص 41 ). وكذلك اتت على ذكر هذا الرأي الاخت لوسي شماس في اطروحتها عن تفسير حكمة سليمان ( سفر الأمثال ) لابن الطيب، 1999 ص 3. لكننا لا نميل إلى هذا الرأي، لان ابن الطيب وبحسب ما فهمناه من المصادر كان يعيش في بيته الخاص به. وهنا نتساءل: أليس الرهبان يعيشون في صوامعهم داخل أديرتهم؟ لذا فابن الطيب كاهنًا من كهنة كنيسة المشرق وليس راهبًا ولم أطالع مصدرًا قديما أو حديثًا يروي خبرًا عن ترهب ابن الطيب، أو ينعته بالراهب، بل قسيسًا فاضلاً. ومع ذلك نحن لا نجزم الراي وندع الباب مفتوحًا للباحثين الأفاضل.

[5] من معلثا، ترهب في دير ايشوعياب ثم أقيم رئيسًا للدير نفسه. رسمه الجاثاليق ماري بن طوبا أسقفًا على الحيرة وعلى أثر وفاة الجاثاليق يوحنّا بن عيسى انتُخب جاثاليقًا ونُصب في 19 تشرين الثاني 1012 م. توفيّ بتاريخ 21 تموز 1012 م. بعد سنوات من الخدمة شهد خلالها ظروفًا صعبة.

[6] أبصر نور الحياة في كرخ جذان، تلقى العلوم في مدرسة المدائن ثم رُسم كاهنًا. أقامه الجاثاليق يوانيس أسقفًا على ابرشية الطيرهان. انتُخب جاثاليقا في 16 حزيران سنة 1028 م على اثر وفاة الجاثاليق ايشو عياب الرابع. عرف عنه بعمق الثقافة وحسن الإدارة. وضع مقالات في الحق المدني والإرث والزواج. توفيّ في 6 أيار شنة 1049 م ودفن في دار الروم في كنيسة السيدة. وتذكر المصادر انه قضى أواخر حياته مُقعدًا ( جالسًا ) لا يقوى على الحركة، حتّى انه رسم احد الاساقفة وهو جالس على الكرسي.

[7] هو القادر بالله ابو العباس أحمد بن اسحق ابن المقتدر. عرف بمحبته للعلوم، فهو الذي أوعز سنة 993 م إلى الوزير ابي نصر سابور بن أردشير أن يبتاع دار في الكرخ ويعمرها وقد سمّاها ” دار العلم ” وجعلها في خدمة العلماء ووقف بها كتبًا كثيرة. اتسمت فترة خلافته بالفوضى وكانت أحوال المسيحيين لا تُحسد عليها. توفي سنة 1031 م.

[8] انظر مقال النفيس للأب د. يوسف حَبّي: أبو الفرج عبد الله بن الطيب، مجلة المجمع العلمي العراقي، المُجلد 33، ج 2، 1982، ص 252.

[9] د. علي حسين الجابري: أبو الفرج بن الطيب البغدادي، بغداد 2002، ص 180.

[10] الانجيل الذي جمعه ططيانوس الآشوري من البشائر الأربعة في القرن الثاني الميلادي وجعله في كتاب واحد بالدياطسرون.

[11] نقلا عن كتاب الأب البير أبونا: تاريخ الكنيسة الشرقية ج 2، 225.

[12] راجع الكتاب النفيس للأب د. بطرس حداد: عِبر من كتب التراث، بغداد 2003، ص 22 – 25.

[13] أسسه عضد الدولة بن بويا الذي كان محبًا للعلم والثقافة، فجمع الأطباء والعلماء والحكماء فيه. وكلمة بيمارستان فارسية مركبة من كلمتين الأولى ( بيمار ) وتعني مريض أو مرضى والثانية ( ستان ) التي تعني مكان أو دار، فهي إذا مكان أو دار للمرضى فقط، بل كانت ايضًا معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب. ( للمزيد انظر كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام لاحمد بك عيسى، دمشق 1929 ).

[14] من مقدمة الكتاب ص 1- 2 في مخطوطة الفاتيكان العربية التي تحمل الرقم 37.

[15] بالضم ثم السكون وتاء مثناة من فوق … وموضعها غربي دجلة مما يلي قطربل، أي من الشمال الشرقي من مشهد الكاظمين. ( للمزيد انظر كتاب الأب د. بطرس حداد: كنائس بغداد ودياراتها، بغداد 1994، ص 77 ).

[16] حَبّي: مصدر سابق، ص 215.

[17] ذكر الأب سمير خليل اليسوعي في تحقيق مقالة التثليث لابن الطيب: له مباحث عديدة في شتى الميادين من طب وفلسفة وتفسير للكتاب المقدس، وقانون كنسي ولاهوت ومؤلفات لاهوتية ايضًا مُتنوعة. إلا ان اثبات عقيدة الثالوث وهي كنه الإيمان المسيحي، شغله قبل كل شيء، ( المقالة المذكورة في الهامش 1 ، ص 365 ).

[18] نزولاً لرغبة مثلث الرحمات مار روفائيل الول بيداويد ( رحمه الله )، قامت الأخت لوسي شماس بتحقيق هذا العمل وتحليله والتعليق عليه استنادًا إلى مخطوطتين، احداهما محفوظة في مكتبة الفاتيكان، والأخرى في مكتبة نابولي الوطنية ( ولا أعلم كيف وصل النص إلى هناك ) ؟! ويُعد هذا النص الجزء الثاني من كتاب فردوس النصرانية لابن الطيب.

[19] انظر لوسي شماس، مصدر سابق، ص 18 وما يليها …. .

[20] انظر التفسير في مجلة بيبليا، ع 3، تموز – ايلول 1999، ص 45 وما يليها تحقيق الأب أيوب شهوان.

[21] نقلا عن كتابنا: عبد الله بن الطيب شمس لا تعرف الغروب ( مخطوط لم يُنشر بعد ).

[22] عن بغداد مدينة السلام وتسميتها ودورها في التاريخ، طالع مقالنا المنشور في مجلة ” نجم بيث نهرين “، المُجلّد العاشر، ع 4، شباط 2004، ص 59 – 63.

[23] ينبغي على القاريء العزيز ألا يخلط بين النصارى والمسيحيون، فالمسيحيين هم أتباع المسيح من الأمميين، اما النصارى حصرًا فهم اتباع المسيح من اليهود، لذلك فالنصرانية غير المسيحية. (طالع الأب البير ابونا: تاريخ الكنيسة الشرقية، ج 2، ص 1، 1993. والأستاذ حداد في مجلة المسَرّة اللبنانية، كانون الثاني، 1972، عدد 571، ص 74).

كريستولوجيا كنيسة المشرق الاشورية في الوعي اللاهوتي الغربي

كريستولوجيا كنيسة المشرق الاشورية في الوعي اللاهوتي الغربي

القس شموئيل القس شمعون

راقبت كنيسة المشرق في بلاد ما بين النهرين الصراعات والبدع التي كانت تظهر في الغرب بحذر، وتعاملت معها على اساس كتابي ولاهوتي مستمد من الكتب المقدسة التي بين يديها وتعاليم الرسل الذين بشروها، للمحافظة الكاملة على رسالة الانجيل التي اؤتمنت عليها.

التوجس من وصول وظهور هذه الهرطقات والبدع في الشرق، اضافة الى عوامل سياسية فرضتها طبيعة الصراع الفارسي البيزنطي في المنطقة، ادى بكنيسة المشرق الى التأخر في قبول مقررات مجامع عقدت خارج حدودها، بين مجامعها، ومنها على سبيل المثال، مجمع نيقية المنعقد عام 325م والذي قبل في بلاد ما بين النهرين بعد 85 عاماً.

وساهمت عزلة الكنيسة الى تنسيب اخطاء لاهوتية الى ايمانها واتهامها بما لم ترتكب، ومنها وعلى سبيل المثال، الادعاء بان الكنيسة تؤمن بشخصين في يسوع المسيح، بسبب قصر في ايجاد ترجمة مرادفة لكلمة اقنوما الى اللغات الاخرى، وبسبب إبقاءها على استخدام لقب والدة المسيح على القديسة مريم العذراء. الاتهامات هذه نسبت الى الكنيسة من الذين حاربوا مار نسطورس في الماضي، فربطت الكنيسة ظلماً بمجمع أفسس عام 431م، رغم كون القديس مار نسطورس لم يكن بطريركاً عليها.

ومنذ ذلك الحين والكنيسة تحاول وتدعو الى ازالة الالتباس حول المصطلحات المستخدمة في ميراثها اللاهوتي وتراثها الديني، بناء على اساسيات ايجاد ترابط بين المصطلحات اليونانية والسريانية، حيث آمنت كنيسة المشرق بان الحوار أفضل طريق للفهم المشترك لازالة المفاهيم الخاطئة التي ترسبت ظلماً عليها، وهي تدعو الكنائس الاخرى الى دراسة ميراثها اللاهوتي لازالة سوء فهم كريستولوجيتها، للوصول الى منظور جديد وعلاقات جديدة مع هذه الكنيسة.

تطور الفكر اللاهوتي المسيحي المسكوني خلال القرنين الأخيرين، ألقى بظلاله على مجمل العلاقات المسكونية بين الكنائس التي صارت تبحث عن صيغة تعبر عن ايمانها الرسولي المشترك، بغض النظر عن الاختلافات اللاهوتية بينها، فهناك فرق بين الايمان واللاهوت، فالاول ثابت صادر من الله ولا يمكن تغيره، والثاني متغير كونه من نتاج البشر، كما يقول البابا يوحنا الثالث والعشرون في افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني.

ابتعادنا عن زمن الخلافات التي نشأت بسبب التنوعات الثقافية والسياسية، يشكل حافزاً لاعادة مهمة البحث اللاهوتي، لتسترد كل كنيسة رسولية مكانتها الصحيحة، فهناك توافقات هائلة بين ايمان الكنائس، علينا ان نركز عليها بالحب المثمر لغاية اكتشافها وتأصيلها مسكونياً، لتطغي على خلافات القرون الماضية التي باعدت بين كنائس جسد المسيح الواحد. إن ما يفصل هذه الكنائس بعضها عن بعض هو ليس امر الحرومات والانشقاقات بقدر ما هو سوء فهم للألفاظ المستخدمة لشرح ايمان كل كنيسة، وهذا الابتعاد عن الانشقاق وان كان، خمسة، عشرة او خمسة عشر قرناً، لا يدعونا الى اعادة توزيع الحرومات من جديد بقدر ما يعني اتخاذ خطوات مسلم بها لتسهيل التقارب المسكوني، كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية من خلال اعادة تقييمها للاتهامات الموجهة لكنيسة المشرق الاشورية، من خلال اصدار اعلان مسيحاني مشترك عام 1994، والذي جاء بعد 1564 عاماً من انعقاد مجمع أفسس. ودحض هذا الاعلان الهرطقات الموجهة لكنيسة المشرق، وعملت الكنيستان من خلال ايجاد قاعدة كريستولوجية مشتركة بينهما، ودراسة معمقة لطروحات كل منهما، حتى تبين ان لا غبار على لاهوت هذه الكنيسة أو تلك وان جميعها اجتهادات تصب في مصب واحد هو يسوع المسيح، حتى من دون ان تغير كنيسة المشرق الاشورية اي من معتقداتها اللاهوتية، وهذا الامر يعتبر نقطة تحول كبيرة في الحركة المسكونية.

دخول كنيسة المشرق الاشورية الى الوعي اللاهوتي الغربي بعد هذه القرون الطويلة، وبروز هذا الاحترام المتبادل مع الكنيسة الكاثوليكية، شجع الكثير من اللاهوتيين الى اعادة دراسة مسيحانية مجمع افسس عام 431م، ودراسة لاهوت كنيسة المشرق، لهدم جدران الاحداث الفاصلة والتي تعاظمت سلباً في التاريخ الكنسي على مدى خمسة عشر قرناً الماضية، وشجع كنيسة المشرق الى عقد المزيد من الحوارات مع الكنائس الاخرى وان كانت غير مثمرة احياناً، الا ان الكنيسة مصممة على تلبية الارادة الالهية التي تصبو نحو القفزة الكبيرة باتجاه الوحدة، لتخطو كنيسة المسيح الى مشارف بيتها الواحد الذي اسسه المسيح على الارض.

ولان الوحدة تقبل بالتنوع، فان كنائس المسيح باتت تؤمن بان لا وحدة الا بالتعدد، وان جميع الالوان معا تشكل اللون الابيض، ولذلك فبدون هذا التعدد ليس هناك وحدة، وها هو كيان كنيسة المشرق الاشورية التاريخي يلتئم من جديد مع ايمان الكنائس الاخرى من خلال ايجاد قاعدة لترابطات لاهوتية، فاليوم تنظر كنيسة المشرق الاشورية الى كريستولوجيات الكنائس الاخرى باحترام وتعتبره ثراءا روحيا، وتطلب في الوقت ذاته ان يُنظر الى كريستولوجيتها بالصيغة ذاتها، بالفحص والتمحيص النابع من روح المحبة، فايمان الكنائس الاخرى هو مكمل للاهوتها، فلا فرق بين النظرة التنازلية للاهوت السيد المسيح نحو الانسان، والذي تتبناها الكنيسة، وبين النظرة التصاعدية لهذا اللاهوت والذي ينتهي بيسوع المسيح الاله، كما تتبناه الكنائس الارثذوكسية.

وادرج ادناه ما قاله قداسة البابا بولس يوحنا الثاني لقداسة مار دنخا الرابع، اثناء التوقيع على البيان الكريستولوجي المشترك عام 1994، حيث قال: ” لقد أدركنا جميعاً انه من الاهمية بمكان فهم، وتبجيل، وحفظ، ورعاية الارث الغني لكنيستينا، وان الاختلاف في العادات والطقوس يجب ان لا يكون في اية حال عائقا في طريق الوحدة. ويشمل الاختلاف قوة كنائسنا لادارة نفسها حسب نظامها والحفاظ على قدر من اسلوب التعبير اللاهوتي والذي كما أكدنا عادة يكون مكملا اكثر منه تضارباً”[1]

[1] ديتمار فينكلار، الحوارات المسكونية لكنيسة المشرق الاشورية بين التقدم والتعثر، برو اورينتي، الحوار السرياني، المداولة الرابعة، غير رسمية، فيينا 2001.

وبرب واحد يسوع المسيح

وبرب واحد يسوع المسيح

سناء ايليهو كوركيس

إن صيغة قانون الايمان النيقاوي الذي أجمع عليه الآباء الـ 318 سنة 325م في مدينة نيقيه التي في بيتونيا حيث عُقد فيها مجمع في عهد قسطنطينوس ملك الملوك. وهذا القانون تم اقراره سنة 381م في المجمع المسكوني الذي حضره 150 من الآباء في مدينة بيزنطيه.

اتفق آباء الكنيسة في صيغة هذا القانون بخصوص يسوع المسيح، بقولهم نؤمن برب واحد يسوع المسيح، حيث اعترف الآباء بوضوح بالأقانيم الثلاثة المقدسة لأنهم كرزوا بألوهية كاملة في المسيح ربنا.

فبتساوي الطبيعة والوجود، وتساوي السيادة والوحدة والالوهية التي في الله تجعلنا نعترف أن المسيح هو الرب الإله القوي الذي له وجود أزلي غير مائت. وهكذا شهد سمعان بطرس “فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحا” ( أع 2: 36 )، كذلك فعل مار توما الرسول الذي سبق وأن أعترف بألوهية يسوع المسيح، حينما كان حاضرا مع التلاميذ الآخرين ووبشروه برؤية يسوع قال لهم: ” إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، واضع إصبعي في أثر المسامير واضع يدي على جنبه لا أومن”. ولكن عندما رآه ولمسه عندها اعترف قائلاً: “ربي وإلهي” ( يو 20: 25-28 )، اي انه اعترف بيسوع الناسوت، وفي الوقت ذاته بألوهيته النابعة من ذات الله الآب.

لم يضف الآباء قائلين: “برب واحد الابن”، كما في:” إله واحد الآب”، لكن أكدوا على القول :” برب واحد يسوع المسيح”. وهو كما يعرف الجميع إنها إشارة للناسوت الذي أتخذه الله الكلمة، وهو ما قاله بولس الرسول: ” فلأنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” ( كو 2: 9 ).

ان الرسل والإنجيليين يعلّموننا أن نؤمن بأننا عندما نقول المسيح نعني بذلك طبيعتين، أي خصوصية الوهيته التي من الآب ( يو 9: 11 ) وخصوصية ناسوته التي من الأم المنحدرة من ذرية داود وإبراهيم ( مت 1: 1 ؛ لو 1: 32 ؛ عب 2: 16 ).

لهذا علمنا آباؤنا الأولون، أفرام الكبير، وباباي صديق الملائكة، الاعتراف مثلهم ونقول: لا الوهيته من طبيعة الأم، ولا ناسوته من طبيعة الآب. الطبيعتان محفوظتان في أقنوميهما بشخص البنوة الواحدة.

بهذا أصبحت مثبتة ثنائية الأقانيم التي في المسيح، أقنوم الطبيعة وخصوصية الالوهة، وأقنوم الطبيعة وخصوصية الناسوت في شخص واحد يسوع المسيح.

هكذا علم آباء الكنيسة الرسولية الجامعة المشرقية، الاعتراف بالابن المسيح حيث يقولون: نسجد يارب لالوهيتك ولناسوتك بدون انقسام، لأن القوة هي واحدة والسيادة واحدة والإرادة واحدة والمجد واحد، إلى أبد الأبدين، آمين.

وبهذا وضع الآباء تعليما نقيا خالصا يختلف اختلافا حقيقيا عن تعليم السيمونيين وأتباع مناندروس وتفسيرهم الخاطئ الذي يقول أن الله الكلمة لم يأخذ الناسوت من مريم، وأيضاً يُفقِدون المسيح ربنا إنسانيته، وكأن الله بالفنطازية (الخيال) أظهر نفسه لنا كإنسان، لم يكن له قط إنسانية طبيعية من مريم، لذا فقد حرمتهم الكنيسة هم وبنو تعليمهم.

لكن نحن أصبحنا متأكدين وواثقين من إيماننا، حيث أن الله الكلمة، أو كلمة الآب، أخذ ناسوتا كاملا كما قال:” قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” ( يو 12: 23 )، ابن الإنسان يدعو ناسوته الحق والكامل الذي من بيت داود وإبراهيم ( لو 1: 32 ) بالدم واللحم والفكر والنفس والإرادة ( يو 5: 30 و 6: 38 ؛ مر 14: 36 ) لكن بدون دنس الخطيئة.

ويشهد الرسول بولس أن الإنسان يسوع المسيح، هو إناء الروح (1 تي 2: 5).

اسئلة واجوبة في تفسير القداس الالهي الجزء الثاني

اسئلة واجوبة في تفسير القداس الالهي

الجزء الثاني

الاركذياقون قرداغ حنا حكيم

تفسير القداس الالهي الذي وضعه الراهب يوحنا بر زوعبي ( القرن 12-13).

(15) لماذا يُقرأ كتاب التوراة ( العهد القديم) في القداس ؟

الجواب: يتم قراءة التوراة في القداس لأنه يشهد للرب يسوع على ما حصل عند قيامه في الهيكل وقراءته لإصحاح أشعيا النبي في سفر التوراة، الذي يكشف تجلي الرب بأنبيائه، وبعد قراءة السفر قال لهم ” اليوم تمت هذه الكلمات التي تلوتها على مسامعكم”( لو 4: 17 – 19). وكذلك كان كتاب التوراة يبرهن على الاعمال والمعجزات التي كان يجترحها.

(16) لماذا يتم قراءة الرسالة وبعض القراءات الاخرى من الكتاب المقدس؟

الجواب: هذه القراءات تعلمنا بأن التلاميذ كانوا يحيطون بالرب يسوع قبل تألمه وموته ويسمعون تعاليمه لكي ينقلوها الى القطيع الضائع. ويتجسد هذا اذ قال لهم “إذهبوا وبشروا بأقتراب ملكوت السماء” (مت 10: 5-15).

(17) لماذا يجلس الكهنة أثناء القراءات؟

الجواب: يرمز جلوس الكهنة الى جلوس الرسل ألاثني عشر، على ألاثني عشر كرسياً في الملكوت، كما قال المسيح ” متى جلس ابن الانسان على كرسي مجده تجلسون انتم ايضا على اثني عشر كرسياً” مت 19: 28

(18) الى ماذا ترمز البدايات ( شورايي) قبل الرسالة؟

الجواب: ترمز الى الخفايا الطيبة لدى الشعب عندما يُسـَبِّح، حيث يقبل بها غفران الخطايا وبالعماذ يجازي بالنعم عوض هذه التسابيح.

(19) لماذا تقرأ الرسالة؟

الجواب: قراءة الرسالة ترمز الى كلام يوحنا المعمذان الذي جاء قبل المسيح ومَهَـدَّ الطريق أمامه.

(20) لماذا تقرأ الرسالة قبل الانجيل في القداس؟

الجواب: لانها تمثل شهادة يوحنا التي أطلقها من خلال الكهنة واللاويين لاولئك الذين أرسلوا اليه من اورشليم ليسألوه من هو.

(21) لماذا تقرأ الرسالة من قبل الشماس وليس من قبل الكاهن؟

الجواب: لنتعلم بأن الخدمة ( الطقس) التي قام بها يوحنا المعمذان كانت لتمهيد الطريق أمام المسيح.

(22) الى ماذا يرمز المزمور ( الزومارا) قبل الانجيل؟

الجواب: يرمز الى التسابيح التي سبح بها الجموع مع الاطفال الصغار الذين أستقبلوا دخول الرب الى أورشليم بتسابيحهم “اوشعنا لابن داود” ومع بقية الجموع الهاتفة ” تبارك الملك الاتي باسم الرب.” (لو19: 38).

(23) الى ماذا يرمز الرداء الذي يُوشح به الانجيل المقدس؟

الجواب: يرمز الى السر الذي يتشح به كل معمذ بأسمه (بأسم الرب يسوع المسيح).

(24) لماذا يخرج الصليب مع الانجيل؟

الجواب: لنتعلم بأن ناسوت الرب يسوع يحتوي على النفس والجسد، فالصليب هو رمز جسد المصلوب على الصليب، والانجيل رمز النفس الذي تحتويه الكلمة.

(25) لماذا يحمل الصليب والانجيل معاً اثناء التطواف ( زوياخا)؟

الجواب: لانهما يرمزان الى سر دخول الرب الى أورشليم وهو راكب على الأتان.

(26) لماذا يقرأ الكاهن الانجيل في الهيكل.

الجواب: لكونه يرمز الى دخول الرب يسوع الى الهيكل كما انه يشير الى استياء الكهنة والفريسيين لقيام الجموع بتعظيم المسيح من خلال التسابيح التي كانوا يرتلونها حيث طالبوه بتعنيف تلاميذه على تمجيده كإله، قائلين له، لانريد ان نسمع مثل هذا، فقال لهم بفمه المحي ” مكتوب ان بيتي بيت الصلاة، وانتم جعلتموه مغارة لصوص” (لو 19: 46 ).

(27) الى ماذا ترمز قراءة الانجيل؟

الجواب: ترمز قراءة الانجيل الى بنيان الحكمة التي زرعها الرب يسوع في قلب الانسانية لاقامة الرجاء الصالح لبني البشر.

(28) الى ماذا يرمز الصليب الموضوع فوق الخشبة في الهيكل المقدس؟

يرمز الى قول الرب قبل مماته عندما قال ” وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي ان يُرفع ابن الانسان. لانه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية ” ( يو 3: 14-16).

(29) الى ماذا ترمز الترتيلة قبل الانجيل ( عونيتا دايونكاليون).

الجواب: ترمز الى استعداد أبناء الكنيسة قبل قراءة الانجيل.

(30) الى ماذا ترمز الترتيلة بعد الانجيل؟

الجواب: ترمز الى حفظ جميع القوانين من صعود الرب الى تقديس الكنيسة ( قودش عيتا) وايضاً ترمز الى حفظ أسرار هذا العالم، وترمز نهاية الترتيلة الى العالم القادم حيث يكتمل الكيان ولن نبق بحاجة الى القوانين أو الناموس.

(31) الى ماذا ترمز الشموع في تلك اللحظة؟

الجواب: ترمز الشموع الى قول الرب للاثني عشر تلميذاً ” انتم نور العالم” وهكذا تفرض المراسيم وضع شموع عديدة وليس شمعة واحدة لكون الشموع ترمز الى حمل تعاليم المسيح الى الجميع.

(32) لماذا تقرأ التراجم ( توركاما)؟

ترمز التراجم الى التعليم الذي علمه الرب للرسل قبل آلامه وبه عرفهم بموته وقيامته من بين الاموات.

“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

الشماس سامي القس شمعون

ترك لاهوتيو كنيسة المشرق العظام وقديسوها تراثا عظيما لنا وللاجيال القادمة، من خلال كتابات روحية وفكرية أخذت موقعها المؤثر في الكتب الطقسية، ولتشدو بها الكنيسة في كل زمان ومكان، ولتصبح محورا لحياتها المسيحية. دخل الكلمة الى العالم بطريقة عجيبة من خلال التجسد والولادة من مريم العذراء من اجل رؤية امجاد ” صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة” ( كول 1: 15 )، و من خلال ابعاد فعل تجسد “إله الدهر خالق أطراف الأرض ” (اش 40 :28)، ادركنا صورة الانسان الحقيقية، بعد ان ظهرت دلائل بشرية والهية في شخص يسوع المسيح.

يسوع المسيح كان عظماً من عظامنا، ولحماً من لحمنا نحن البشر. كان طفلاً ضمن العائلة البشرية، ينمو ويتقدم “في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” ( لو 2: 52) لتحقيق الوعد المعطى لأبينا ابراهيم، بافتداء ابنائه. فمثلنا كان يركع ويصلي، (لو 6: 12 )، يعطش ( يو 19: 28 )، يجوع ( مت 4: 2 )، يبكي ( لو 19: 41 )، يحضر افراحا (يو 2 : 2 ) ينام مثلنا (مت8: 24 )، يتعب ( يو 4: 6 )، يحزن (مت 26: 37 )، يتألم (اش 53: 5)، واخيراً يصلب ويموت (مت 27: 50)، فهو بهذا انسان مثلنا، يشبهنا، في كل شيء ما عدا الخطيئة.

الا ان هذا الذي صلب قد قام، وبطبيعته الإلهية يدرك ما يدور في خُلدنا وخلد الاخرين. فهو ان كان مثلنا “من نسل المرأة” الا انه جاء ليسحق رأس الحية (تك 3: 15)، ويعلن بتجسده، قمة محبة الله للبشر من خلال مخطط لخلاص البشر واعادة صورته الممجدة لكن المفقودة لدى البشر.

المسيح، اذن هو الكلمة (يو 1 : 1 – 4 )، الاله المبارك إلى الابد (رو 9: 5 )، هو الله معنا (مت 1:23 )، إلـهنا (يو 20: 28 )، الرب ( يو 14: 9 )، رب السبت ( مت 12: 8 )، رب المجد (1كو 2: 8 )، رب الارباب ( تث 10: 17 )، يجلس عن يمين الآب (مز 110 : 1 )، منح البصر للمولود أعمى (يو 1:7- 9 )، غصن الرب ( اش 4: 2)، غصن البر ( ار 33: 15 )، تظهر الصفات الالهية في رئاسته ( مي 5 : 1 – 5 )، وغيرها الكثير من الالقاب والأوصاف.

ان القول بيسوع المسيح انسان فقط، هو نصف الحقيقة، والقول ان اله فقط هو النصف الاخر للحقيقة. فاذن يسوع المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد، وهذا هو سر التقوى العظيم (1 تي 3: 16 ). وايضاً هو قد عاش بيننا حياته البشرية الاعتيادية في بلدة الناصرة. يسوع المسيح هو الاله الكامل، والانسان الكامل، وهذا اللاهوت الذي يحمله، ليس ضد الناسوت، وان الاخير ليس ضد الاول ايضاً، وان مرَّت على صفحات التاريخ خلافات وانشقاقات حول فهم العلاقة بين هاتين الطبيعتين، او بين الأقانيم الالهية، فهي كانت نتيجة طبيعة البشر وقدرته على استيعاب وفهم هذه العلاقة.

لذا قام آباء كنيسة المشرق بوضع مؤلفات ضخمة ومتنوعة صارت دعامة أساسية في الكتب الطقسية، لتصبح ترسانة روحية وفكرية عظيمة لايمان الكنيسة. فعمل وجاهد كل فطحل من هؤلاء الاباء القديسين الذين وصلت اليهم دفة قيادتها، للتأثير في مسارها واعطائها زخماً روحياً وتراثياً مخلداً عبر الزمان. كانت نقطة انطلاق آباء الكنيسة هي يسوع المسيح لانه لم يكن انساناً فقط، بل إلها ايضاَ. وانصبت اجتهاداتهم بطرق كل سبيل لمعرفة الله عن طريق يسوع المسيح، فكتاب الخوذرا مثلاً، من الكتب الاساسية للسنة الطقسية ويعتبر في اللحظة نفسها كنزاً لاهوتياً يحوي اضافة إلى الصلوات، تعابير لتوضيح المقاصد الالهية ولفهم اسرارها، والحفاظ على استقامة ايمان الكنيسة.

مار باباي الكبير

واحد من كبار رجالات اللاهوت في كنيسة المشرق هو مار باباي الكبير (551- 628م). إنه أحد أهم من تعرض الى اللاهوت في اسهاماته الكبيرة في القرنين السادس والسابع، فقد وضع ركائز هذا اللاهوت وبلور مفهوم المسيحانيةChristology بصيغة سلسة ومفهومة لعامة الناس.

درس مار باباي الكبير في مدرسة نصيبين وتلقى فيها علومه الدينية والفلسفية قبل ان يصبح راهباً في الدير الذي اسسه ابراهيم الكشكري عام 571م، ثم انتخب رئيساً لهذا الدير. وبعد وفاة البطريرك مار غريغوريوس الاول عام 609م، عين بمنصب نائباً عاماً على اديرة كنيسة المشرق للاعوام من 611 الى وفاته، حيث شهدت فترته ازدهاراً للاديرة والمكرسين فيها.

ترك لنا مار باباي الكبير اربعة وثمانين مجلداً لعل اهمها كتاب الاتحاد والذي فيه يتحدث عن لاهوت المسيح بنهج فلسفي منطقي، حيث يعتبر ان الكتاب المقدس هو القاعدة الرئيسية لدراسة اللاهوت الذي يعده سراً يتعدى ادراك الناس ويتطلب فهمه تقصي آثار علاقة الله مع الانسان ومعرفة يسوع المسيح في الاناجيل.

ومن مؤلفات مار باباي الكبير والتي اخذت مكانها في كتاب الخوذرا مثلاً، ترتيلة بريخ خنانا “تبارك الحنّان” والتي تتلى في احد البشارة والميلاد ” الخوذرا الجزء الاول؟؟ ص 7777″، حيث يسلط مار باباي الكبير الضوء على الولادة العجيبة ليسوع المسيح التي حدثت في فترة نورانية ممجدة من تأريخ البشر، كتحفيز للتـَيـَقــُّظْ والسهر من قبل المؤمنين لاستقبال ” سر التقوى” (1 تي 3: 16 ) طيلة ايام حياتهم. ويشرح مار باباي ايضاً العلاقة المميزة بين الاقانيم الالهية ويقدم ايمان كنيسة المشرق ومعتقدها بهذا الخصوص، حيث يشدد على العلاقة المتكاملة بين اللاهوت والناسوت. ولا تخلو هذه الترتيلة من عناصر تأملية في التدبير الالهي وهي دعوة الى رفع المؤمن الى مراتب روحية سامية، تمهيداً لتذوقه العقلي في حضن اللاهوت، ولا تخلو هذه الترتيلة من شرح عقائدي للعلاقة بين أقنومي المسيح الانساني واللاهوتي.

“تبارك الحنان الذي بنعمته، دبّر حياتنا بالنبوءة * بعين الروح رأى اشعيا، ابن العذراء العجيب * من دون زواج أنجبت مريم، عمانوئيل ابن الله * منها جبل له الروح القدس، جسداً مسجودا كما هو مكتوب * ليكون مسكناً وهيكلاً مسجود له، مع شعاع الآب في بنوّة واحدة * مع بداية الحبل به العجيب، وحّدَه معه بكل وقار[1]* ليتم من خلاله كل ما له “تدبيره”، لخلاص الكل كما يشاء* في يوم بشارته (او ولادته) سبحت له الملائكة، بتهاليلهم في السماء العليا* وكذلك قدم الارضيون السجود، بقرابينهم بكل وقار* واحد هو المسيح ابن الله، يسجد له الجميع في طبيعتيه * وُلد بألوهيته (بلاهوته) من الآب، منذ الأزل وقبل الازمنة* ووُلد بناسوته من مريم، في ملء الازمنة في وحدة الجسد* فلا لاهوته من كيان(طبيعة) الأم، ولا ناسوته من كيان (طبيعة) الآب* محفوظة الطبيعتين في ذاتيهما، بشخص واحد وبنوة واحدة* اينما تكون يكمن اللاهوت، ثلاثة اقانيم في جوهر”كيان” واحد* هكذا هي بنّوة الابن، بطبيعتين شخص واحد* هكذا تعلمت الكنيسة المقدسة، الاعتراف بالابن الذي هو المسيح* نسجد يا رب للاهوتك، ولناسوتك بلا انقسام* واحد هو القوة ربوبية واحدة، مشيئة واحدة ومجد واحد* للاب والابن والروح القدس، إلى ابد الابدين آمين وآمين.

ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ. ܕܡܸܬ̣ܐܲܡܪܵܐ ܥܕܲܡܵܐ ܠܕܸܢܚܵܐ.

ܒܪܝܼܟ݂ ܚܲܢܵܢܵܐ ܕܲܒ݂ܛܲܝܒܘܼܬܹܗ. ܦܲܪܢܸܣ ܚܲܝܲܝ̈ܢ ܒܲܢܒ݂ܝܼܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܒܥܲܝܢܵܐ ܕܪܘܼܚܵܐ ܚܙܵܐ ܐܹܫܲܥܝܵܐ. ܠܝܲܠܕܵܐ ܬܡܝܼܗܵܐ ܕܲܒ݂ܬ̣ܘܼܠܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܕܠܵܐ ܙܘܼܘܵܓ݂ܵܐ ܝܸܠܕܲܬ̤ ܡܲܪܝܲܡ. ܠܥܲܡܲܢܘܼܐܹܝܠ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ ܀ ܕܡܸܢܵܗ̇ ܓܲܒ݂ܠܹܗ ܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܦܲܓ݂ܪܹܗ ܡܚܲܝܕܵܐ ܐܲܟ݂ܡܵܐ ܕܲܟ݂ܬܢܒ݂ ܀ ܕܢܸܗܘܸܐ ܥܘܼܡܪܵܐ ܘܗܲܝܟ̇ܠܵܐ ܣܓ݂ܝܼܕܵܐ. ܠܨܸܡܚܹܗ ܕܐܲܒ݂ܵܐ ܒܲܚܕܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܥܲܡ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܕܒܲܛܢܹܗ ܬܗܝܼܪܵܐ. ܚܲܝܕܹܗ ܥܲܡܹܗ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܕܲܢܡܲܠܹܐ ܒܹܗ ܟܠܗܹܝܢ ܕܝܼܠܹܗ. ܠܦܘܼܪܩܵܢ ܓܵܘܵܐ ܐܲܝܟ݂ ܕܲܫ̣ܦܲܪ ܠܹܗ ܀ ܒܝܘܿܡ ܣܘܼܒܵܪܹܗ (ܐܵܘ ܡܵܘܠܵܕܹܗ) ܫܲܒ̇ܚܘܼܗܝ ܥܝܼܪܹ̈ܐ. ܒܗܘܼܠܵܠܲܝ̈ܗܘܿܢ ܒܪܵܘܡܵܐ ܕܲܠܥܸܠ ܀ ܘܐܵܦ ܐܲܪ̈ܥܵܢܹܐ ܩܲܪܸܒ݂ܘ ܣܸܓ݂ܕܬ̣ܵܐ. ܒܩܘܼܪܒܵܢܲܝܗܘܿܢ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ. ܣܓ݂ܝܼܕ ܡ̣ܢ ܟܠܵܐ ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܀ ܕܒܲܐܠܵܗܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܐܲܒ݂ܵܐ. ܕܠܵܐ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܠܥܸܠ ܡ̣ܢ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܀ ܘܲܒ݂ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܡܲܪܝܲܡ. ܒܫܘܼܠܵܡ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܒܦܲܓ݂ܪܵܐ ܡܚܲܝܕ݂ܵܐ ܀ ܠܵܐ ܐܲܠܵܗܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܸܡܵܐ. ܘܠܵܐ ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܲܒ݂ܵܐ ܀ ܢܛܝܼܪܝܼܢ ܟܝܵܢܹ̈ܐ ܒܲܩܢܘܿܡܲܝ̈ܗܘܿܢ. ܒܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܕܲܚܕ݂ܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܐܲܝܟܲܢ ܕܐܝܼܬܹܝܗ̇ ܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܐ. ܬܠܵܬ̣ܵܐ ܩܢܘܿܡܹ̈ܐ ܚܕ݂ܵܐ ܐܝܼܬ̣ܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܐܝܬܹܝܗ̇ ܒܪܘܼܬܹܗ ܕܲܒ݂ܪܵܐ. ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܝܸܠܦܲܬ̤ ܥܹܕܲܬ̣ ܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܕܬ̣ܵܘܕܸܐ ܒܲܒ݂ܪܵܐ ܕܗܘ̤ܝܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܀ ܣܵܓ݂ܕܝܼܢܲܢ ܡܵܪܝ ܠܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܟ݂. ܘܲܠܐ݇ܢܵܫܘܼܬ̣ܵܟ݂ ܕܠܵܐ ܦܘܼܠܵܓ݂ܵܐ ܀ ܬܢܝܼ: ܓ: ܙܲܒ݂ܢ̈ܝܼܢ. ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܚܲܝܠܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܡܵܪܘܼܬ̣ܵܐ. ܚܲܕ݂ ܨܸܒ݂ܝܵܢܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ ܀ ܠܐܲܒ݂ܵܐ ܘܲܒ݂ܪܵܐ ܘܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܥܵܠܲܡ ܥܵܠܡܝܼܢ ܐܵܡܹܝܢ ܘܐܵܡܹܝܢ ܀

تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق

تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق

أدور هرمز ججو النوفلي

   أن إيمان كنيسة المشرق بالثالوث هو مثل إيمان الكنائس الأخرى، المستند بخاصة إلى تعاليم مجمع نيقية الأول المسكوني (سنة 325)، إله واحد وثلاثة أقانيم. وهذا ما أقرته مجامع كنيسة المشرق، منذ مجمع مار اسحق (سنة 410)، وهذا ما يردده الجاثليق مار آبا الأول الكبير في منتصف القرن السادس، في إحدى رسائله، حيث يقول :” إن هذا الثالوث موجود من الأزل، وهو الذي خلق جميع المنظورات وغير المنظورات، وهو بغير بدء ولا تغيير ولا انفصال، في ثلاثة اقانيم، الآب والابن والروح القدس”.

   لنلق نظرة سريعة على تعاليم كنيسة المشرق، الواردة لدى كتابها ولاهوتييها، لكي نواكب تطور التعليم اللاهوتي فيها، منذ ظهوره حتى بلوغه النضج التام في القرن السابع.

   في القرنيين الأولين للميلاد، كان المسيحيون مهتمين بالتعمق في ديانتهم، والاعتصام بمبادئها السامية، والذود عنها بأقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم الشجاعة التي غالباً ما أدت إلى استشهادهم في سبيل إيمانهم. وكانت لغة التعبير عن هذه الديانة، وهي الآرامية في معظم مناطق بين النهرين، تستقطب اهتمامهم. فما أن انتصف القرن الثاني، حتى قطعت هذه اللغة شوطاً كبيراً نحو الاكتمال، فأخذوا ينقلون أليها معظم أسفار العهدين القديم والجديد، ويضعونها في متناول الشعب المسيحي.

   وأول من برز في القرن الثاني في هذا المجال هو “ططيانس”، وربما نجد عنده العروض اللاهوتية الأولى. فلقد تلقى علموه الدينية في روما على يد القديس يوستينس في القرن الثاني. ومع كونه متأثراً بالغنوصية المنشرة في زمانه، فقد قدم افكاراً لاهوتية رصينة عن الله عامةً، وعن الكلمة الذي يقول إنه العقل الإلهي، وينبثق من الله وهو بكر أعماله، ومبدأ الكون كله. ونستشف من تعابير ططيانس نوعا من تبعية في علاقة الكلمة بالله. أما نظرته إلى الإنسان، فهي انه يتكون من نفس وروح وجسد. وعلى هذا المرتكز، يقدم ططيانس بعض التعاليم أو التوجيهات المسلكية التي تساعد الإنسان على الالتزام بإيمانه وبالأعمال الصالحة.

   وظهر بعده “برديصان” الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني وفي مطلع القرن الثالث، وهو بحق صاحب الشعر السرياني، وقد استنبط الأوزان وضمّن أشعاره أفكاره الدينية وطرائقه الأخلاقية. ولكننا لسنا مطلعين بكفاية على أفكاره اللاهوتية، إذ ضاعت معظم كتاباته، ولم يبق منها سوى كتيب أطلق عليه اسم “كتاب شرائع البلدان”، وفيه حاول المؤلف على طريق الحوار أن يطلعنا على فلسفته التوفيقية. فهو يؤمن بالإله الأوحد، ويعترف بحرية الإنسان، ويميل إلى النهج الثنائي، كما إنه يعترف بأن للأجرام السماوية تأثيراً في طبيعة الأرض والإنسان. إلا أن تفكيره اللاهوتي ما يزال غامضاً وتحتاج إلى المزيد من التوضيح والتنقية.

   وفي القرن الرابع برز كتاب ولاهوتيون قاموا بدور كبير في تطوير اللاهوت المشرقي. ونخص بالذكر منهم: مار شمعون بر صباعي، وأفراهاط الحكيم الفارسي ، والقديس أفرام الملفان.

أما الجاثليق “مار شمعون بر صباعي” فقد عاش في النصف الأول من القرن الرابع، وصار جاثليقا لكنيسة المشرق، واستشهد سنة 341 مع عدد من أساقفة ومن الكهنة والعلمانيين، في مطلع الاضطهاد الأربعيني الذي أثاره شابور الثاني على الكنيسة. إن هذا الجاثليق الشهيد، لم يكتب بحوثا لاهوتية منظمة إذ كان منهمكا في إدارة كنيسة المشرق في ذلك الزمان العصيب، ولكن ظهرت افكاره اللاهوتية العميقة خلال القطع الطقسية التي وضعها، والتي ما تزال متداولة في كنيسة المشرق. فيقول ، في إثر القديس بولس، إن المنضمين إلى المسيح، بالعماد قد نزعوا عنهم الإنسان العتيق، ولبسوا المسيح ، ومن ثمة عليهم أن يثبتوا في الحياة الجديدة التي تلقّوها من الله، وأن تصبح لهم مصدراً للقوة والثقة الوطيدة بالله، المستمدة من إيمانهم الراسخ بمحبته.

   تقدم الفكر اللاهوتي خطوة كبيرة إلى الأمام في زمن يعقوب افراهاط الملقب بالحكيم الفارسي (+346)، الذي هو أحد أقدم آباء كنيسة المشرق. وقد وصلتنا كتاباته التي تحمل فكره اللاهوتي في مختلف المواضيع. عاش افراهاط في القرن الرابع وتوفي قبيل منتصفه. ويبدوا أنه لم يتعرض للاضطهاد الأربعيني مباشرة. وضع 23 مقالة أو بينة (تحويثا)، تناول فيها مختلف المواضيع الدينية، وعالجها بلغة سريانية أصيلة وبإنشاء صافٍ، يخلو من الألفاظ الدخيلة. وفي هذه البينات يظهر فكره اللاهوتي الذي يستند إلى استشهادات كثيرة من العهدين القديم والجديد . وورد قانون إيمانه في المقالة (البينة )الأولى، وهي في الإيمان. فهو يؤمن بالإله الرب والخالق ومعطي الشريعة، والذي أرسل أخيراً مسيحه إلى العالم. ويؤمن أيضاً بسر المعمودية وبقيامة الموتى، ويتكلم عن الله بحسب تجلياته في الأحداث والأشخاص، ولا سيما بيسوع المسيح. وهو يؤمن بوحدانية الله وبثالوثه بدون أن يستعمل مصطلح “أقنوم”. أما لاهوته الكريستولوجي، فسابق للتعابير الفلسفية التي ستستخدم في مجمعي افسس وخلقيدونية. فليس التجسد في نظره تقمصاً، بل هو حضور مؤنس وملموس لكلمة الله. ويستخدم افراهاط عبارات اقتبسها من رسائل القديس بولس:” ليس جسداً، هو هيكل الله، ومسكن الروح القدس…” ولا يسمي مريم ” أم الله” بل يدعوها الطوباوية والبتول، ويقول:” إن يسوع ولد من مريم، التي هي من نسل داود، ومن الروح القدس”.

   أما القديس “أفرام الملفان” (+373) فهو أخصب كاتب ولاهوتي في القرن الرابع، وربما في جميع عصور كنيسة المشرق. لقد ضاعت الكثير من كتاباته، وما بقي منها، هي خير دليل على سعة مداركه وعمق تفكيره اللاهوتي. وبالإضافة إلى تفاسيره الكثيرة للكتب المقدسة، فان لهذا الملفان العظيم مقالات وأبحاثا رائعة، تناول فيها مختلف الموضوعات الدينية ومنها: الله في وحدانيته وثالوثه، الإيمان، التجسد، الخ . . . فمار افرام يعترف بإله واحد وثالوث، ذي طبيعة واحدة وأسم واحد في ثلاثة أقانيم. وينفي تبعية الابن، ويعلن أن الكلمة مساوٍ للآب في اشارة ضد الاريوسية. أما الكريستولوجيا لدى أفرام فما تزال في صيغتها البسيطة البعيدة عن الألفاظ المعقدة والغامضة، كالطبيعة والأقنوم. ويؤكد هذا الملفان وحدة المسيح في ألوهيته وناسوته وفي حقيقة تجسده، وينفي أن يكون أصغر من الآب، بما أنه صورة حقيقية للآب، ومساوٍ له ومولود منه. ويطبق افرام على المسيح ألقاباً عظيمة كثيرة، منا الرب والطبيب والراعي والنبي والحّبر والملك، الخ . ولا أثر في كتاباته لما سيصبح ، بعد قرن، حجر عثرة يفرق المسيحيين ويقسمهم إلى مذاهب شتى متخاصمة. أما المواضيع الدينية الأخرى التي يتناولها افرام في مقالاته وأناشيده، فتعرض لنا لاهوتاً يتقدم في مساره الصحيح، ويلقي الأضواء على الكنيسة والأسرار وعلى مفهوم الإنسان، ويعالج المواضيع معالجة هادئة ورصينة، يستمدها من وحي الله ومن الروح الذي كان ينير حياته كلها وأعماله التعليمية والرسولية.

   أما في القرن الخامس، فإن ما يميز تعليم كنيسة المشرق هو استناده إلى التعليم الكريستولوجي لدى الملافنة الانطاكيين، ولا سيما لدى تيودورس المصيصي “المفسر” . وقد رأينا ما آثاره هذا التعليم من الملابسات وما أدى إليه من الاختلافات ثم الخلافات والانشقاقات الأليمة. فكان على أشدّه في مدينة الرها نفسها بين أسقفها ربولا المتحزب لقورلس الاسكندري، وبين أستاذ مدرستها هيبا المتحمس لتعاليم “المفسر” . وما زاد الطين بلة هو انتشار التعليم المنوفيزي في الرها ومدرستها. وما أكثر الجدالات التي دارت بين أنصار الفريقين. وكان يتزعم التيار المعاكس للتقليد الشرقي علماء مرموقون: أمثال يعقوب السروجي وفيلوكسينس المنبجي وسويريوس الانطاكي. وإذا أدت هذه الجدالات إلى التباعد ثم إلى الانشقاق المؤسف، فإنها أسهمت كذلك في تطوّر الفكر اللاهوتي لدى الفريقين، إذ صارت حافزاً حداهم إلى البحث والتقصي والدراسة واستخدام البراهين العقلية والكتابية، في سبيل دعم نقاشاتهم.

   وفي سنة 482، حاول الإمبراطور البيزنطي زينون أن يحقق الوحدة المسيحية بين الفرقاء المتخاصمين، من أنصار المجمع الخلقيدوني وخصومه، فاصدر مرسوماً أسماه ” هينوتيكون – مرسوم الاتحاد” فيه يشجب نسطوريوس وأوطيخا، ويُطري ذكرى قورلس الإسكندري، ويقترح أن تعاد وحدة الكنيسة حول قانون إيمان مجمع نيقية الأول. فرحب المنوفيزيون بمبادرة الإمبراطور هذه. أما المشرقيون فرفضوها وردوا عليها في مجمع اقاق (سنة 486)، حيث جاء في القانون الأول: ” يجب أن يكون إيماننا بخصوص تجسد المسيح، في الإقرار بالطبيعتين الإلهية والإنسانية. فلا يتجاسرن أحد منا ويدخل الامتزاج والتبادل والاختلاط بين اختلاف الطبيعتين. وإذا تبقى الإلهية في خواصها والإنسانية في خواصها، نوحّد في جلالة واحدة وسجود واحد اختلافات الطبيعتين، بسبب التناسق الكامل وغير المنفصم بين الألوهة والناسوت. وإذا فكّر أحد وعلّم الآخرين أن الألم أو التغيير ملازم لألوهة ربّنا، ولم يحافظ فيما يتعلق بوحدة الشخص في مخلصنا، على الإقرار بإله واحد كامل وإنسان كامل، فليكن محروماً “. وهذا الامر جعل من مجمع اقاق يرفض مبدأ تبادل الخواص، وسيشكل لاحقاً نقطة خلاف بين مختلف التيارات اللاهوتية في شأن الكريستولوجيا.

   وبعد نحو خمسين سنة، إذ كان الجاثليق مار آبا الكبير يقوم بجولة راعوية، في منطقة ما بين النهرين السفلى وفي مقاطعة فارس، تهدف إلى المصالحة، للتذكير بأن المسيح ليس مجرد إنسان أو الهاً مجرداً من ثوب الإنسانية الذي ظهر فيه، بل هو إله وإنسان. ويحرم مار آبا أولئك الذين يدخلون شخصاً رابعاً في الثالوث، وبذلك يردّ على الذين يتهمون المشرقيين بالإيمان بإبنين بذريعة أنهم يفصلون كثيراً الطبيعتين في المسيح.

وفي تلك الغضون، كانت محاولات أخرى تُبذل، في منطقة الروم، في سبيل توحيد المسيحيين. فحاول الإمبراطور يوستنياس أن يفرض صيغة لسرّ التجسد، فقال :” إن واحداً من الثالوث تألم لأجلنا في الجسد”. وإرضاء للمنوفيزيين، الذين كانوا يدّعون إن مجمع خلقيدونية برأ ساحة تيودورس المصيصي وتيودوريطس القورشي وهيبا الرهاوي، حرم يوستنياس عام 544 بعض من كتابات كل من هؤلاء اللاهوتيين الثلاثة (حركة الفصول الثلاثة). وحينما لم يرضى المنوفيزيون بجميع التنازلات التي قام بها الإمبراطور في سبيل تقريبهم من الخلقيدونيين ومن المشرقيين، شنّ عليهم اضطهادا عاتيا كاد أن يستأصلهم من أرض الروم، لو لم تتداركهم الإمبراطورة تيودورة التي استعانت بيعقوب البرادعي في سبيل إعادة تنظيم المذهب المينوفيزي في الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية.

   أما المجمع الذي عقده الجاثليق يوسف سنة 554 فيبدو إنه لم يطلع على ما جرى في المجمع القسطنطيني الثاني من التوضيحات في التعليم الخلقيدوني المتعلق بالأقانيم، فاكتفى بإعادة التأكيد على الإيمان بمسيح واحد هو إله كامل، كلمة الله وإنسان كامل من لحم ودم، وله نفس ناطقة شبيهة بنفسنا ومماثلة للبشر ما خلا الخطيئة.

   وفي ذلك الزمان، حاول ليونس البيزنطي اللاهوتي أن يحدّد بعض الألفاظ، وأن يميز الأقنوم (هيبوستاز) عن الطبيعة (كيانا). فقال إن الأقنوم هو الطبيعة “المفردة” بالأوصاف الخاصة بها، مثل اللون والزمان والمكان، الخ.. والتي تميزها عن بقية الاقانيم من النوع نفسه. أما الطبيعة، فهي ما هو “مشترك” للجميع، والأقنوم هو الخاص بكل واحد، ويمكن أن تكون الطبيعة كاملة بدون أن تقوم بذاتها، وبدون أن يكون لها أقنومها الخاص بها. ففي التجسد طبيعتان: الأولى طبيعة الله، مسندة باقنومها الطبيعي الذي هو اقنوم الكلمة. أما طبيعة المسيح الإنسانية، مع كونها كاملة، فهي لا تقوم بذاتها، ولكنها ليست بغير اقنوم، بما انها تقوم في اقنوم الكلمة. وإذا اردنا تحديد نوعية الاتحاد الناتج إذ ذاك ، فلا يسعنا أن نسميه اتحاد الطبيعة، بما أن الطبيعتين قائمتان بعد الاتحاد، ولا الاتحاد الشخصي، بما أن كل طبيعة ليس لها اقنوم خاص. فنسميه إذن اتحادا اقنوميا، وثمة تبادل الخواص، وفي وسعنا أن نؤكد إن الكلمة قد تألم وصلب.

   وجاء مجمع ايشوعياب الأول سنة 585 رداً على المجمع القسطنطيني الثاني، وعلى تحديده للاقنوم. فمجمع ايشوعياب يعلن هراطقة جميع الذين ينسبون إلى الطبيعة والى اقنوم الالوهة آلام طبيعة المسيح الإنسانية. وفي وسط الأزمنة التي أثارها حنانا الحديابي بطرحه آراء جديدة، يذكر آباء كنيسة المشرق بنظريتهم في الكريستولوجيا الرسمية التي يتمسكون بها، ويقولون :” إن المسيح مولود أزلياً في لاهوته من الآب، من دون أم وهو مولود، هو بعينه ولكن لا بالشكل نفسه، في إنسانيته من أم بدون أب، في الأزمنة الأخيرة. إن المسيح، ابن الله، تألم في جسده. إلا أن المسيح ابن الله كان في طبيعة ألوهيته فوق الآلام. إن الإله الكلمة احتمل هوان الآلام في هيكل جسده، بالاتحاد السامي الذي لا ينفصم ولو أنه لم يتألم في طبيعة ألوهته”.

   وعلى عاتق باباي الكبير(+628) كانت تقع المهمة الكبرى في تحديد هذه التعابير وايلائها صيغتها النهائية. إنه شخصية فذّة في كنيسة المشرق. وقام فيها بدور بارز بخصوص الحياة الرهبانية، وفيما يتعلق أيضاً بإدارة الكنيسة في الربع الأول من القرن السابع، إذ منعها كسرى الثاني أبرويز من إقامة جاثليق لها منذ سنة 609. وقد دام هذا المنع حتى مصرع العاهل الفارسي سنة 628. وبالإضافة إلى ذلك قام باباي الكبير بدور رئيس بتطوير الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، حيث اسهم في توضيح اللاهوت المستند من كتابات الآباء القبدوقيين، والى أساتذة مدرسة انطاكيا الثلاثة الشهيرين: ديودورس الطرسوسي، وتيودورس المصيصي، ونسطوريوس. ووضع كتابه ” في الاتحاد” الذي فيه عرض نظرية كنيسة المشرق في الكريستولوجيا وفي المواضع اللاهوتية الأخرى، من وحدانية الله وثالوثه وغيرها. أما تعليمه الكريستولوجي، فيعطينا تماما فكرة كنيسة المشرق عن المواضع التي دارت حولها النقاشات الحامية والجدالات الساخنة في القرن الخامس، والتي تناولناها بإيجاز في الفصول السابقة.

   ولكي يوضح باباي طريقة اتحاد الطبيعتين في المسيح، يبدأ بتحديد الألفاظ الثلاثة الأساسية: الشخص، الاقنوم، الطبيعة، فيقول إن الاقنوم هو الطبيعة الإنسانية المفردة، فطبيعة الاقنوم مشتركة بينه وبين جميع الاقانيم المتشابهة ولكنها تتميز عن الاقانيم المتشابهة بالخاصية المفردة التي يمتلكها الشخص. أما الشخص، فهو خاصية الاقنوم التي تميزه عن الآخرين. وقد زودنا الأب لويس ساكو –البطريرك حالياً- (نجم المشرق 8 لسنة 1996، ص 539-543) بنبذة مبسطة عن الكريستولوجيا لدى باباي الكبير، وعن الألفاظ التي دارت حولها النقاشات. فيقول إن الطبيعة (كيانا) تعني الطبيعة المجردة التي تحد العناصر المشتركة بين أفراد النوع الواحد، ويسميها المشرقيون “الطبيعة أو الجوهر العام: اوسيا كوانيتا”. أما الاقنوم (هيبوستاز، قنوما) فهو الجوهر الفردي “اوسيا يحيذيتا” القائم بذاته وغير قابل الانقسام، ويتميز عن الباقي بالخواص التي يمتلكها. وأما الشخص (فرصوفا)، فهو خاصية الاقنوم التي تميزها عن الآخرين، وهو الفاعل واليه تنسب الأعمال. والشخص ثابت لا ينقسم. وفرادته تقوم على صفات خاصة. الشخص هو الخواص “ديلاياثا” التي تفرده وتظهره، وهو ثابت، أما الاقنوم فمتحرك. ويعطينا باباي مثلا ليبين الفرق بين الاقنوم والشخص، إذ يقول :” حينما يقبل رجلان من بعيد، تعلم انهما اقنومان، ولكننا نجهل بعد من هذا ومن ذاك”. وهكذا فان الاقنوم والطبيعة، في نظر باباي، لفظان يغطيان حقائق متقاربة جداً، في حين أن الاقنوم لدى البيزنطيين هو بالأحرى مرادف للشخص. فالخلاف ليس على الجوهر، بل على المعنى الذي يعطى لبعض الألفاظ. فيقول المشرقيون إن المسيح لم يتخذ طبيعة بشرية بنوع عام، بل طبيعة واقعية وفردية، أي ما يسمونه “اقنوما”. والكلام عن اتحاد الكلمة والإنسانية، في اقنوم واحد، يعني الإعلان عن وحدة الطبيعة، وهذا ما ينادي به المنوفيزيون. وإذا سألنا باباي أن يشرح لنا كيفية هذا الاتحاد، فهو يكتفي بالقول إنه إتحاد لا يوصف ولا يُحَدّ. ولكنه يرفض تعبير “الاتحاد الأقنومي” إذ أن الاقنوم، مثل الطبيعة، لا يمكن مشاركته. فيفضل باباي أن يستخدم عبارة “الاتحاد الشخصي”.

   وإذا استخدمت كنيسة المشرق، حتى القرن السادس، هذه العبارة، وهي طبيعتان وشخص واحد. فإنها بعد المجمع القسطنطيني الثاني، وتناقضاً مع تعاليم حنانا الحديابي ثم سهدونا، قدمت هذا التوضيح: في المسيح طبيعتان وأقنومان وشخص واحد. ونتج من هذا الموقف نفي تبادل الخواص: ” نقول إن المسيح صلب، وأن المسيح مات وقام، ولكننا لا نقول إن الله صلب ومات”. ومع ذلك يوضح باباي فيقول :” أن المسيح مات في ناسوته وليس في لاهوته ولكن بدون أن يكون بعيداً عنه (أي عن الناسوت). فإنه متحداً معه، تألم كل ما كان مناسباً لطبيعته”.

   هكذا ، فالتعليم الذي تبنته كنيسة المشرق منذ القرن الخامس، والذي علمته في مدارسها اللاهوتية الشهيرة، تطور وبلغ نضجه في القرن السابع. وإذا قامت محاولات هنا وهناك تهدف إلى إعادة النظر في التعليم التقليدي، مثل محاولات حنانا وسهدونا وغيرهما، فإنها لقيت معارضة شديدة في كنيسة المشرق وباءت بالفشل. فالمشرقيون عدّوا ذواتهم أنهم وحدهم الأرثوذكس أي ذوو الإيمان القويم، حتى أن مجمع سبريشوع (سنة 596) يقول: “إننا نتلقى هذا الإيمان تماماً كما تلقاه آباؤنا القديسون، وكما عرضه الشهير بين الأرثوذكس الطوباوي تيودورس الانطاكي، أسقف مدينة المصيصة، مفسّر الكتب الإلهية”. وهذا ما سيؤكده في القرن الثالث عشر مبعوث كنيسة المشرق والسلطات المغولية الحاكمة آنذاك، الربان صوما، أمام الدوائر الرومانية، وأمام ملوك البلدان الغربية.

   ومرّت قرون طويلة وكنيسة المشرق ما تزال متمسكة بإيمان آبائها وبالحقائق الكبرى التي تشكل بنية الديانة المسيحية. وفي عصورها الذهبية، قدّمت للعالم مجموعة جليلة من العلماء واللاهوتيين، وحملت راية المسيحية إلى بلدان بعيدة في آسيا الشرقية والجنوبية. وستمرّ قرون أخرى عديدة قبل أن تظهر فيها حركة أدّت إلى ضمّ شطر منها إلى الوحدة مع روما، في القرن السادس عشر، وبذلك ازدادت الهوة عمقاً بين الفئتين المتنازعتين من كنيسة المشرق. وكان على المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن يسهم اسهاماً فعالاً في ردم هذه الهوّة، وفي التخفيف من وطأة الخلافات القائمة بين مختلف الفئات من كنيسة المشرق، وبينها وبين الكنيسة الجامعة.

   وفي ختام هذه الحقبة من تاريخ كنيسة المشرق، نود أن نستبق الأحداث ونقدم للقراء مقاطع من الإعلان الكريستولوجي المشترك الرائع بين الكنيسة الكاثوليكية الممثلة بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وكنيسة المشرق الآشورية الممثلة بقداسة الجاثليق مار دنخا الرابع :

   ” نحن نعترف ، كورثة وحماة للإيمان الذي تلقيناه من الرسل كما تمت صياغته من قبل آبائنا المشتركين في القانون النيقاوي، برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي تزل في ملء الزمان من السماء وصار انساناً من أجل خلاصنا، كلمة الله، الشخص الثاني من الثالوث القدوس، تجسد بقدرة الروح القدس باتخاذه جسداً من مريم العذراء، بعثت فيه روح عاقلة، اتحد معها بلا انحلال منذ لحظة تكوينه.”

   ” لذا، فان ربنا يسوع المسيح هو إله حق وإنسان حق ، تام في ألوهته وتام في ناسوته، متساوْ في الجوهر مع الآب، ومتساوٍ في الجوهر معنا بكل الأشياء، ما عدا الخطيئة. ألوهته وناسوته متحدان بشخص واحد، بدون اختلاط أو تغيير ، بدون انقسام أو انفصال. فيه تم الحفاظ على اختلاف طبيعتي الالوهة والناسوت، بكل خصائصهما وقدراتهما وعملهما..”.

   ( فالمسيح ليس “إنساناً عادياً ” تبنّاه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هي الحال في الصالحين والأنبياء. لكنه الله الكلمة الذي لا يتغير، المولود من أبيه قبل كل العالم بلا بداية بحسب ألوهته، ولد من أم بلا آب في آخر الزمان بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته مريم كان أبداً ناسوت أبن الله نفسه. ولهذا السبب تتوجه كنيسة المشرق الآشورية بالصلاة إلى مريم العذراء على أنها “والدة المسيح إلهنا ومخلصنا”. في ضوء نفس الإيمان هذا يتوجه التقليد الكاثوليكي إلى مريم العذراء على أنها “والدة الله” وكذلك ” والدة المسح”. إننا نعترف كلانا بشرعية وصحة هذين التعبيرين لنفس الإيمان، ونحترم كلانا تفضيل كل كنيسة لتعبير على الآخر في حياتها الليتورجية وعبادتها..). (الحوار السرياني – برو اورينتي 1 فيينا، حزيران 1994، ص 427 – 430).

 

 

الكريستولوجيا في مجامع كنيسة المشرق

الكريستولوجيا في مجامع كنيسة المشرق

عادل دنو

المقدمة

ان كنيسة المشرق كنيسة رسولية يؤكد تاريخها ان من بشرها هو احد الرسل الاثني عشر – مار توما الرسول. وهي قسم من الشرق المسيحي الذي عانى الامرين من اضطهاد السلطات الحاكمة ومن كثرة الجدالات اللاهوتية. ان مبحثنا هذا سيتناول كنيسة المشرق بالذات، التي كانت لها مراكز اسقفية عديدة، شملت مناطق في بابل وآثور وفارس والهند والصين ومناطق أخرى كثيرة.

كان اهم مراكزها كرسي المدائن ساليق وقطيسفون، بسبب اتخاذ هذه المدائن مقرا للامبراطورية الفارسية يومذاك. وكان موقف هذه الكنيسة مثل الكنائس الاخرى معبرا عن الايمان بانهم اعضاء كنيسة واحدة لا بل التزم آباؤها اكثر من مرة بالمعاونة على تنظيم الكنيسة واستقدام القوانين الموضوعة في مجامع الكنسية الغربية.

هدف البحث

نهدف دراسة والتعرف الى الظروف التي احاطت بكنيسة المشرق ومجامعها ومحاولة التعرف على الطروحات الكريستولجية التي دارت وتأثيراتها الخارجية والداخلية في كنيسة المشرق.

مجمعية كنيسة المشرق

  إن عقد المجامع كان ملازما لنشأة الكنيسة. هذا ما يخبرنا عنه كتاب أعمال الرسل (15: 1-29) وهو يروي قصة الجدل الذي وقع بين المسيحيين الأوائل عن الختان. وفي أول مجمع ذللت الازمة وبقي” باب الايمان” مفتوحا للوثنيين وستواصل كلمة الرب سيرها (الكتاب المقدس، 1999، هامش 24، ص 417). توالى عقد المجامع عموما في الكنيسة التي كانت تهدف الى تحديد العقيدة المسيحية، وتوضيحها وصونها من الأضاليل والهرطقات التي كانت تنساب اليها، لتنحرف بها وتشوهها. (صفير 2003، بدون ترقيم ). بما ان الكنيسة هي الام الحانية على ابنائها تهديهم الى طريق النور، ولان ابنائها هم جماعة ايمان فان رئاساتها هي مهمة صفتها الجماعية تهدف الى الخدمة، وبخاصة من الناحية الروحية. وعليه تكون تواصل في التعليم القويم وبفضل الجماعية فيشكل الاساقفة مصافا واحدا وبفضل هذه المجمعية يلتقون ويبحثون ما يخص الكنيسة من امور على هدي الروح القدس (حبي، 1999، ص19).

 

وكنيسة المشرق من الكنائس التي ظهرت صيغة المجمعية فيها بجلاء (حبي، 1999، ص6). وقد ترك اباء الكنيسة الاوائل تواريخ المجامع التي عقدوها وتم حفظ اعمال الكثير منها. وما يزال المخطوط الاصلي محفوظا في خزانة الرهبانية الكلدانية قام بترجمتها الى الالمانية براون في شتوتكارت- فيينا 1900 وعمل العلامة شابو على نشرها في باريس 1902، ( حبي، 1999، ص8). وترجم الاب يوسف حبي جامع المجامع المشرقية الى العربية واضاف اليها اعمال مجامع اخرى، مثل مجمع البطريرك طيمثاوس الاول سنة 790، ومجمع البطريرك طيمثاوس الثاني سنة 1318 ( حبي، 1999، ص6). ولعله محق الباحث عزيز لان يكتب “لسنا نبالغ اذا قلنا ان الكنيسة النسطورية كانت من اقوى الكنائس انتشارا في قارة اسيا وذلك على الصعيد العالمي”( عطية 2005، ص 293) لذا فقد احتدم النقاش بين رؤساء الكنائس في العهود الاولى للمسيحية حول موضوع المسيح والتجسد وصار هناك خلاف لاهوتي حول بعض المصطلحات التي شكلت اسسا وقتذاك لتبادل الحرم. وهكذا تبدأ قسم من مجامع كنسية المشرق، البحث في مسائل تمس الثالوث والمسيح، وفي وقت ما تبدأ مرحلة المجامع العقائدية واللاهوتية ( حبي، 1999، ص29). وكانت مدينة الرها اخذة في النمو لتصبح قلعة للتراث السرياني في الوقت الذي كانت فيه انطاكية ترتدي مسوح الهلينية وقد ظلت كلا من هاتين المدينتين تتمسكان بقرارات مجمع نيقيا المسكوني حتى العقود الاولى من القرن الخامس. ولم يكن هناك اية بوادر تشير الى شقاق محتمل بين هذين المركزين الهامين للمسيحية المشرقية، وذلك حتى سنة 431 في مجمع افسس الاول. (عطية،2005، ص 303-304). وحينها تفجر الخلاف العقائدي حول المفهوم الكريستولوجي.

 

الكريستولوجيا

ان الكريستولوجيا هو علم يبحث في طبيعة المسيح نفسه. وكان أن المسيحيين في كل مكان ينطلقون في ايمانهم من تعليم الرسل والبشرى التي وصلت اليهم متضمنة تبني يسوع نفسه وصراحة لقب” ابن الله” (يوحنا، 10: 36)، وتبني الرسل للقيامة المجيدة كأساس لانطلاق البشرى الى العالم. وخلال القرنين الاولين انشغل المسيحيون في التعمق بمفاهيم دقيقة والدفاع عنها بكتابات وأقوال لا بل حتى الشهادة من اجلها بايمان عميق ( النوفلي،أدور، 2007).

الكريستولوجيا قبل القرنين الرابع والخامس

انطلقت الافكار اللاهوتية في المشرق الذي كانت لغته السريانية (الارامية) من خلفية رسولية وثقافة موغلة في القدم وخصائص راحت تتبلور رويدا رويدا من ضرورات الخلفية السياسية التي كانت تعيش فيها الكنيسة واستفحال العداء بين الدولتين الكبيرتين المسيطرتين على العالم الاوسط انذاك ( حبي، 1999، ص37).

ولم تكن هناك خلافات مذهبية لاهوتية شديدة التباين في الاراء لكيما تؤدي الى ابتعاد الكنائس عن بعضها البعض وبمعنى اخر بين الكنيسة في الشرق والكنيسة في الغرب. والاختلاف الذي نشأ من الداخل كان شديدا ادى الى انشقاق الكنيسة الى شرق وغرب، مذهب الطبيعتين في الشرق ومبدأ الطبيعة الواحدة في الغرب وما نقرأه في المصادر عن الغرب في عرف المشرقيين كان يقصد به مناطق غرب الفرات وليس الغرب في عرف اليوم او ما يقصد بها بلدان اوربا (ساكو، 1981، ص341-356).

لذا فالقرون الاولى ظهر الفكر اللاهوتي بسيطا واضحا وكما ورد لدى ططيانس في القرن الثاني( 120-189) جعل الله بدء كل شيء ثم الكلمة كانت فيه وجاء الى الوجود ويشبهه اذ قال “اننا نوقد من مشعل واحد نيران عديدة من دون ان ينطفئ المشعل ولا ان تنقص ناره باشتعال نيران كثيرة، كذلك الكلمة المولود من قدرة الاب، لا ينقض وجوده في الاب بخروجه منه.( الخطاب 4، 5) (قنشرين، بدون تاريخ).

هكذا كانت المفاهيم اللاهوتية بسيطة التعبير تستمد مصطلحاتها من واقع وبيئة الانسان نفسه وليس كتعابير الفلسفة الاغريقية التي كانت تحلق في الفكر المجرد. وظهر هذا اللاهوت وخاصة ما يتعلق بالكريستولوجي لدى مار شمعون برصباعي (+341) في القطع الطقسية التي ألفها، ويعقوب افراهاط الحكيم (+346) صاغ لاهوته ضمن بيناته الثلاثة والعشرين ويوضح ان التجسد هو حضور ملموس لكلمة الله، ويعتبر الاب البير ابونا ان افراهاط هو من وضع الاسس الاولى للاهوت الشرقي ( ابونا 1985، ص 57). أما القديس مار افرام (+373) فاوصاف افكاره بسيطة خالية من المصطلحات المعقدة، ومما قيل عن اختلاف الفكر بين الشرقيين والفكر الغربي المتمثل بالفلسفة الاغريقية واللاهوت الغربي هو “كان الغرب يتطلع إلى السماوات الزرقاء بشوق، أما الشرق فكان يبحث عن اللقاء مع الله في أعماق قلبه. كان الغرب يحبّ الأرض ويرى الدنيويات في السماء. أما الشرق فكان يحبّ السماء ويرى في الأشياء الأرضية رموزاً سماوية ويبحث عن الصور الأبدية في الدنيويات المؤقتة.” (كاريلين، بدون تاريخ).

ويؤكد برحذبشبا عربايا(605)، في كتابهسبب تأسيس المدارس، عن التقليد الجاري في مدرسة الرها، ويقول أن المفسرين كانوا يعتمدونقبل انتشار شرح المفسر الكبير، أي تيودوروس المصيصيكتابات القديس أفرام التي هي نقل لتعاليم أدي مؤسس الجماعة المسيحية الأولى في الرها. ( ابونا، 1985 ص 24). وفي كتاباته يقول مار افرام بطبيعتين في المسيح.

ويمثل هؤلاء الآباء كنيسة المشرق الموحدة التي لم يكن قد مسها الانشقاق بعد. اذ ان الانشطار حصل في القرن الخامس الى شطرين الاول الذي سمي بالكنيسة النسطورية والثاني الكنيسة السريانية اليعقوبية وهذه الاسماء اطلقت عليهما من قبل المناوئين لهما والمعتقدين باعتقادات مغايرة، ويعتقد الباحثون انه كانت هناك اسباب سياسية غذت هذا الانشطار.

مجامع كنيسة المشرق التي ناقشت مفهوم الكريستولوجيا

اختلفت اغراض واهداف عقد المجامع بحسب الاوضاع والظروف والدواعي التي كان يرى الآباء ضرورة معالجتها. ابرز هذه الدواعي كانت التظيم ووضع القوانين والدفاع عن ايمان الكنيسة ضد البدع والهرطقات. وما يهمنا هنا هي المجامع التي ناقشت مفهوم الكريستولوجيا ومنها:

مجمع مار اسحق 410

لقد كان هذا اول مجمع رسمي احتفظت الكنيسة بأعماله. تراس المجمع مار اسحق الجاثاليق ومار ماروثا الموفد من الغرب في كنيسة كوخي الكبرى التي في ساليق. واستمع الاساقفة الى الرسالة القادمة من قبل اساقفة الغرب (ابونا 1985، ص62). واهم ما ورد في مطلع نص مجمع مار اسحق انهم قبلوا “عقيدة ايمان ابائنا الاساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، وما اضاف اليها اساقفة الفرس” (حبي، ص58)، ويحدد الاباء غرض ذلك بقولهم انهم “بمجيئهم واجتماعهم تبطل الاراء المتضاربة، ولن يكون بعد انقسامات وخلافات، ويتم قبول ما ينبغي ويحق ان يتم من اجل نظام الكنيسة” (حبي، 1999، ص61).

اما لماذا تأخرت كنيسة المشرق من هذه الشركة مع الكنيسة الجامعة فتعود الى معاناتها من الاضطهادات الشنيعة التي مورست بحق رؤسائها وجاثليقها مار شمعون برصباعي وخلفاؤه ثم بقائها بلا رئيس مدة اربعين سنة خلال القرن الرابع وفقدت الكنيسة العديد من مؤمنيها.

ويهمش الاب حبي قائلا “يؤكد المجمع الاول لكنيسة المشرق ايمان هذه الكنيسة بالتقليد الرسولي، عقائديا وقانونيا، وقناعة راسخة بكنيسة المسيح الجامعة. وسوف يؤكد ذلك مجمع مار يهبالاها الذي ينعقد عام 420 بشكل صريح وتفصيلي. (حبي 1999، ص 81).

مجمع اقاق 486

انعقد مجمعان قبل هذا المجمع وكان ثانيهما مجمع مار داديشوع 424 قد اتخذ قرارات مهمة للتحرر من وصاية “الاباء الغربيين” ولرغبة اباء المجمع القضاء على النظرية التي كانت تعتبر المسيحيين في البلاد الفارسية حلفاء للامبراطورية الرومانية المسيحية واعداء لملك الملوك. كما مهدوا للاستقلال الاداري الذي سيؤدي قريبا الى الاستقلال العقائدي للكنيسة الشرقية (ابونا 1985، ص 77). ويقول الاب حبي ان هذه “اول مرة تعتمد كنيسة المشرق على نفسها كليا دون اللجوء الى “عون خارجي”. سواء من الدولة والحكم المدني ام من كنيسة الغرب ومسيحيته. (حبي 1999، ص 117).

بحلول القرن الخامس اشتدت تيارات الجدالات اللاهوتية في الغرب وتركزت حول الفكر الكريستولوجي بوجه خاص. حتى ظهر في مدرسة انطاكية اعتقادا تسيده تيودورس المصيصي وتأثر به نسطوريوس الذي اصبح بطريركا للقسطنطينية ودافع عنه مما حدا برجال كنائس اخرى لرفض آرائه. وبدأت الخصومة بين الكرسي الاسكندري والكرسي البيزنطي أو القسطنطيني. ادى هذا الخصام الى انعقاد مجمع افسس عام 431 بدافع من الامبراطور تاودوسيوس الثاني ليفض الخلاف الا ان ما حدث كان تحريم كل طرف للطرف الاخر في مجمعين مختلفين عقد الاول في 22 حزيران وعقد الثاني في 24 حزيران من العام ذاته. وفي عام 435 ارتقى كرسي الرها الاسقف هيبا الذي قام بنقل كتابات ” المفسّر” تيودوروس من اليونانية الى السريانية (ابونا 1985، ص85).

في الوقت الذي كانت الكنيسة في الغرب قد وقعت في جدالات كانت تعاليم تيودورس المصيصي وديودوروس الطرسوسي أو المذهب النسطوري حسب ما دعاه البعض، قد انتشرت في كنيسة المشرق عن طريق مدرسة الرها التي كانت وقتها اكبر مدرسة سريانية واشهر مركز لنشر الثقافة في الشرق.

وفي ذات المدرسة بدأ مذهب الطبيعة الواحدة او المونوفيزية بالتغلغل بين الاساتذة والتلاميذ واحاطت الكنيسة بخلافات وجدالات واضطهادات صعبة ادت الى نشوء شقاق في كنيسة المشرق ذاتها. وكان السبب هو الاحداث السياسية والدينية التي جرت في المنطقة الشرقية وكان لها دور هام في توجيه الامور فيها (ابونا 1985، ص 95).

فيتبنى قسم من الابرشيات مذهب الطبيعتين والاعتماد على تفاسير ديودورس الطرسوسي وثيودورس المصيصي في هذا المجال باعتباره منسجما والتقليد القويم. ويذهب قسم اخر مذهب الطبيعة الواحدة يتقبله بعض اساتذة مدرسة الرها وتلاميذها ويتغلغل في المشرق ككنيسة معارضة لكنيسة سلوقية- قطيسفون (المدائن) (حبي 1999، ص 143). وهنا مارس برصوما نفوذه لقتل واضطهاد الذين اعتنقوا المونوفيزية مذهبا ولتعيش الكنيسة احداثا دامية.

وهنا عقدت كنيسة المشرق النية والواقع في مجمع مار اقاق الذي سوف يكرس بداية الانحياز الى المذهب النسطوري (حبي 1999، ص 143). ويرد التعليم الكريستولوجي الخاص في هذا المجمع كما يلي :” وينبغي ان يكون ايماننا ايضا، فيما يخص تجسد ( تدبير) المسيح، بالاعتراف بالطبيعتين الالهية والبشرية، ولا يحق لاحد ان يتجاسر فيدخل الاختلاط، والمزج، او البلبلة في اختلاف هاتين الطبيعتين، ولكن، (الطبيعة) الالهية مع بقائها وديمومتها في خواصها، والبشرية في خواصها، توحدان في سمو واحد، وسجود واحد، اختلافات الطبيعتين، بسبب التلاحم الكامل واللامنحل للاهوت مع الناسوت. ” (حبي 1999، ص 167).

ولا شك ان هذا البيان قد انتقى تعابيره من تفاسير ثيودورس التي كان لها تأثير كبير على مدرسة الرها وتلاميذها، وبغلق المدرسة وانتقال معظم الاساتذة والتلاميذ الى نصيبين كرس هذا الفكر في عموم المسيحية ضمن الامبراطورية الفارسية.

مجمع مار بابي 497

فيما اكد مجمع مار بابي عام 497 على مقررات مجمع مار اقاق وما تضمنه من تعاليم بشأن الثالوث والمسيح (حبي 1999، ص 190) لم يتناول تفاصيل في الكريستولوجي بل كان هدفه الاساس هو مقاومة التفسخ الذي كانت تشيعه المزدكية بناء على رغبة الملك زامسب ووضع قوانين لتنظيم الزواج.

مجمع ما ابا 544

مرة اخرى اشتد الخلاف في الغرب بين المونوفيزيين والخلقيدونيين وتراشق الطرفان وبتدخل السياسيين في معظم الاحوال بالحرم. وتذبذب اساقفة الرها بين التعليمين الى ان تدخل الطرف النسطوري حيث تم اقامة مسيرة واكرام لديودورس وتيودورس و” القديس نسطوريوس” عام 519 في بلدة قورش وهي قرب انطاكيا. (ابونا 1985، ص 136).

مرت الكنيسة بفترة عصيبة وسادت الفوضى والمنافسة على الرئاسة كانت بأمس الحاجة الى من ينهض بها ويصلحها ويزيل آثار الرئاسة المزدوجة ( ابونا 1985، ص 124)، وهذا ما حصل على يد مصلح كبير اسمه مار ابا ويقول عنه الاب حبي انه كان عالما ومعلما ومفكرا ومؤلفا (حبي1999، ص 207) لذا عقد مجمعا عام 544 صدرت عنه عدة قرارات مهمة. ونشر العلامة شابو اربع وثائق من الست الباقية من اعمال مار ابا ومجمعه المتجول في متن الاعمال المجمعية الرسمية. وتتناول الوثيقة الثانية استقامة (ارثوذكسية) الايمان حيث يرد فيها:

” … كما انه بنعمة الروح القدس عرف التلاميذ ( التعليم) بدقة، فتعلموا من الروح القدس عينه ان المسيح ليس انسانا محضا وحسب، ولا الها مجردا من لباس الناسوت( البشرية) الذي تجلى فيه. بل ان المسيح اله وانسان، فهو ناسوت مسح (باللاهوت) بالمسحة، كما قيل: لاجل ذلك مسحك الله الهك مسحة الفرح اكثر من رفاقك (مزمور 44: 8)، وهو ما يعرفنا بالناسوت. وايضا: في البدء كان الكلمة (يوحنا 1: 1) وهو ما يظهر اللاهوت (الالوهية) الذي هو ازلي من الابد. ..

فعلمنا هكذا اسم المسيح بشأن الاب والابن والروح القدس، وفهمنا منه ما يخص ناسوته ( بشريته)، وبه ختام معتقد المسيحية بأسره.” ( حبي 1999، ص 272).

ويتضح من الوثيقة انها تستعرض صورة هذا الايمان الذي يظهر صحيح التعابير في خطوطه الكبرى فيما يخص الاعتراف بالثالوث وبوحدة الشخص في يسوع المسيح الذي هو اله واتخذ الطبيعة البشرية التي بها احتمل الالام والموت فداء عن البشر( ابونا 1985 ص 148). وبخصوص قانون الايمان فكان لا بد ان يتوضح رسميا في مرحلة ظهرت فيها الاختلافات المذهبية الشديدة ويضع النقاط على الحروف ويصدر ما ابا قانونه الاخير القائل ” اراؤنا كلنا نحن اساقفة المشرق مبنية على الامانة التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر، وفي تفاسير الكتب على مار تياذورس.” وهكذا فالاشارة واضحة ان كنيسة المشرق ” تيودورية” اكثر من انها ” نسطورية” (حبي 1999، ص 235، و288).  

مجمع مار يوسف 554

تطرق هذا المجمع الى صورة الايمان عموما حسب منظور كنيسة المشرق فيها تعابير واضحة ضد القائلين بالطبيعة الواحدة. فيقول المجمع :” لقد حفظنا قبل كل شيء المعتقد القويم القائل بكيانين (طبيعتين، تري كيانين) في المسيح، هما لاهوته (الوهيته) وناسوته (بشريته، ناشوثيه)، وحافظنا على خواص الكيانين (الطبيعتين)، وازلنا بذلك من الوسط جميع القلاقل والاضطرابات والتغيرات والاختلافات”.

مجمع مار حزقيال 576

اهم ما قام به هذا المجمع هي وضعه صورة ايمان بالثالوث والتجسد والفداء، اضافة الى تشريع قوانين اخرى ضد بدعة المصلين وفي تنظيم الحياة الكنسية. وورد في فكر المجمع الكريستولوجي:” لقد اتضع هو ذاته طوعا، من اجل خلاص طبيعتنا العتيقة، المستهلكة بافعال الخطيئة. اتخذها بلا انفصال هيكلا تاما لسكنى لاهوته، من مريم العذراء القديسة. حبل به وولد منها بقوة العلي، مسيحا متانسا ينبغي ان يعرف ويعترف به في طبيعتين: الله والانسان، وابن وحيد (واحد) (حبي 1999، ص 325). ولم يشر اي من مجمعي مار يوسف ومجمع مار حزقيال الى تيودورس او غيره كمفسرين او التطرق الى اي خلاف في عقيدة الكريستولوجي..

مجمع ايشوعياب الاول 585    

هدف المجمع الى اكمال امرين تحديد الايمان القويم، وتحديدات شرائع الحياة الفاضلة والمعقولة، وفق تعليم الرسل (حبي 1999، ص 354). وكان السبب في انعقاد المجمع شرح قوانين المجامع السابقة والتاكيد عليها وكانت موجهة خاصة ضد مذهب الطبيعة الواحدة الذين صار لهم مطران في تكريت وضد انصار حنانا الحديابي (ابونا 1996، ص163). وكان حنانا في مدرسة نصيبين وظهرت في تعاليمه نزعات لا تلائم التعاليم الشرقية التقليدية وتم طرده من قبل بولس مطران نصيبين ولكنه عاد مديرا للمدرسة وتخلى عن تفاسير تيودورس المصيصي حتى وفاته سنة 610 منضما الى المذهب الخلقيدوني وكان لحملته ان احدثت ضجة كبيرة في كنيسة المشرق (ابونا 1996، ص 167- 168).

لذا حدد المجمع صورة الايمان التي تعتبر اوضح ما جاء من هذا النوع من الوثائق النسطورية (ابونا 1985، ص 165). فقد دبج آباء المجمع اعتراف كنيسة المشرق اللاهوتي ودافعوا عن تعاليم تيودورس المصيصي ودحضوا تفصيليا اراء الذين تجاسروا وتهجموا على ماهية الابن او الذين تهجموا على ماهية الروح القدس.

ويخلص المجمع الى القول في طبيعة المسيح قائلا: ” ونحن نعلّم، بشكل تام، بشأن شخص (فرصوفا) المسيح، وطبيعته الالهية والبشرية، ضد الذين ياخذون بالوهيته وينكرون بشريته، وضد من يعترفون ببشريته وينكرون الوهيته، وضد من ينكرون الوهيته معترفين انه انسان عادي، او يشبهونه بواحد من الابرار.” (حبي 1999، ص 359).

وتحكي العديد من المصادر القديمة قصة صورة الايمان التي وضعها مار ايشوعياب والتي اعلنها امام موريقي ملك الروم، حين ارسله كسرى ملك الفرس في وفادة، وطلب موريقي ان يكتب له مقاله في ايمان كنيسة المشرق، ففعل ايشوعياب (مجدل ماري 65). والجدير بالذكر ان الملك، ومن معه من كنسيين ولاهوتيين، راوا صورة ايمان جاثليق كنيسة المشرق سليمة، بحيث سمحوا له ان يشترك معهم في ذبيحة القداس ويتقرب من القربان الذي قدسه بطريركهم، وياتي قول الملك موريقي الشهير:” ان كان نسطوريس يقول بهذه المقالة التي كتبتها، فليس هو محروم. وان كان يقول بغيرها فهو محروم، فلا معنى لذكره انتم لنا ونحن لكم” (مجدل ماري 57، مجدل عمرو / صليبا 45- 46). (حبي 1999ص 431).

مجمع سبريشوع 596

يبدو ان كنيسة المشرق شعرت بخطورة المونوفيزية مرة اخرى واستفحال اتباع حنانا الحديابي، لذا فقد ركز هذا المجمع على بحث المسائل اللاهوتية، لا سيما بشان التجسد وطبيعتي المسيح ووحدتهما واشتراك الخصائص. وقام مرة اخرى بتكريس التعليم التيودوري بشكل لا يقبل الابتعاد عنه (حبي 1999، ص 440). وقد شن المجمع حملة قاسية على المصلين والتنديد بحنانا واتباعه فاذن الخطورة من الداخل شديدة وليس من الخارج.

ومما يذكر في هذا الصدد ان رهبان اديرة سنجار ونتيجة رغبتهم التخلص من صرامة غريغور اسقف نصيبين طلبوا عام 598 متعهدين للبطريرك بان يتمسكوا بايمان كنيسة المشرق وتفاسير مار تيودورس على ان يجعلهم تحت رئاسته. وكانت هذه الاديرة ثلاثا دير برقيطي والدير الجديد ودير ثالث الى الشرق لا يرد اسمه (حبي 1999، ص 441).

ويرد في هذا المجمع ما يخص الكريستولوجي بعد ان رأى الاساقفة ان يتم حفظ الايمان الصادق والرسولي للكنيسة الجامعة (الكاثوليكية)، والذي تسلمه آباؤهم من قبل الاباء المغبوطين والقديسين الثلاثمائة والثمانية عشر، الذين اجتمعوا في مدينة نيقية، وفق مشيئة روح الرب.

حيث يكتب الاباء في هذا المجمع :” اننا نقبل الفكر الراسخ الذي لابائنا القديسين، كما يعرضه الطوباوي تيودورس الانطاكي، اسقف مدينة مصيصة، مفسر الكتب المقدسة…

وانا نحرم ونبعد عن كل شركة معنا كل من ينكر الطبيعة (الكيان) الالهية والطبيعة البشرية لربنا يسوع المسيح، وكل من يدخل الخلط والمزج، التركيب او البلبلة في وحدة ابن الله..” (حبي 1999، ص 445).

 

مجمع غريغور 605

كانت ماتزال الاخطار الايمانية تحدق في كنيسة المشرق من المصلين واتباع حنانا وكانت الخلافات عادة تزداد عمقا بجعل السلطات المدنية تتدخل لصالح هذا الطرف او ذاك مما يزيد الطين بلة. وكانت الازمة التي مرت بكنيسة المشرق في عهد حنانا الحديابي فرصة مؤاتية للمونوفيزيين لاستغلالها لصالحهم (ابونا 1985، ص176). وخلا كرسي المدائن من جاثليق حتى عام 605، عندما انتخب غريغور الملفان. واستغل وجود الاساقفة في نفس العام وعقد مجمعا. فجدد هذا المجمع الحروم التي كان البطريرك السابق سبريشوع قد رشق بها مناوئي تعاليم كنيسة المشرق، مؤكدا تمسك كنيسته بتعاليم تيودورس المصيصي، بل مكرسا كتبه بشكل رسمي. (حبي 1999، ص 461-462).

“… لانه وفقا للكلام الرسولي” ..ربنا يسوع المسيح، الذي به اكتمل كل شيء: اله كامل، وانسان كامل. اله كامل في طبيعة الوهيته ( لاهوته)، وانسان كامل في طبيعة بشريته. الالهية محتفظة بخصائصها، والبشرية بخصائصها، متحدتان اتحادا صحيحا في الشخص ( فرصوفا، بروزوبون) الواحد للابن، المسيح. تشدد الالهية البشرية في الالم، كما هو مكتوب (يو 20 و21) دون ان يلحق بالالوهية تبدل او تغير باي شكل. (حبي 1999، ص 466).

ويؤكد المجمع كذلك مرجعية التفسير قائلا:” انه على كل منا ان يتسلم ويقتبل كل التفاسير والكتابات التي عملها المغبوط مار تيودورس المفسر اسقف مصيصة ، الشخص المؤتمن بالنعمة الالهية على كنز العهدين القديم والجديد،…” (حبي 1999، ص 446- 447).

ويذكر انه لم يعترف الشرقيون، حتى مجمع غريغور الأول(سنة ٦٠٥)، بأن مجمع بيث لافاط هو الذي كان قد قرر الاعتراف بشروح تيودوروس المصيصي كتفسير رسمي للكتاب المقدس في الكنيسة الشرقية، وذلك ردا على افتراءات أناس مغرضين على هذا المفسر الكبير (ابونا 1985، ص 105).

مجمع عام 612

لم يكن للكنيسة جاثليق بسبب قسم الملك ان لا يكون للكنيسة جاثليقا ما دام حيا اثناء خلاف له مع الملكة شيرين. لذا فمن قام بتدبير الكنيسة هو مار باباي الكبيرالذي كان رئيسا على دير ايزلا المعروف بالكبير،(حبي 1999، ص 475) وتسلم هذا ادارة الكنيسة وراح يطوف في المناطق ويتفقد الاديرة بصفة زائر رسمي مخول من قبل مجلس الاساقفة يسهر على الايمان ( ابونا 1985، ص 183).

لباباي الكبير كتابات ضخمة اهمها كتابه الشهير في الاتحاد ، اي اتحاد الالوهية والناسوت في المسيح. وهو عرض واف لمعتقد كنيسة المشرق فيما يخص الكلمة المتجسد، وفيه عناصر قريبة جدا من المعتقد الارثوذكسي. فهو يعيد الالفاظ المكرسة في التقليد الشرقي: اخذ، سكنى، هيكل، ثوب، انصياع.. ، ولكنه يقر ان هذه الالفاظ لا تفي بالغرض اذا كانت معزولة، لان الاتحاد غير الموصوف وغير المدرك يتم حسب جميعها وفوق كل تلك التعابير مجتمعة (ابونا 1996، ص 180).

 

وبينما ينفي النساطرة الاسبقون حقيقة اشتراك الاوصاف او الخواص، يعترف باباي بوجود ” تبادل في الاسماء”. ولكنه يعارض بشدة فكرة شرح الاتحاد في المسيح بتشبيه اتحاد النفس والجسد. (ابونا 1996، ص 181).

كان غرض اجتماع الاساقفة هذا وليس المجمع هو اقامة مناظرة عامة بين المشارقة والمغاربة، زعماء كنيسة المشرق التي كرسيها سلوقية طيسفون من جهة، وابرز وجوه جناح الكنيسة السريانية الانطاكية من الجهة الاخرى (حبي 1999، ص 476). وخاصة وان فراغ الكرسي الجاثاليقي اتاح للخصوم لكي يزدادوا قوة وامتدادا في المملكة الفارسية (ابونا 1985، ص 179).

واشتملت المناظرة على مواضيع دينية لاهوتية اهمها في التدبير الالهي، لا سيما فيما يخص التأنس ومحاولة شرح اتحاد الالوهية والبشرية في المسيح يسوع، فهي نقطة الخلاف الاساس بين المذهبين المشرقي والمغربي. (حبي 1999، ص 476).

 

مجمع مار كيوركيس الاول 676

انعقد هذا المجمع في قطر في جزيرة ديرين او داراي اثناء ذهاب الجاثاليق الى بيث قطرايي لاصلاح المشكل القائمة هناك (حبي 1999، ص 503). وان كان الهدف من المجمع التأكيد على ما سبق وحددته مجامع سابقة وتنظيم امور اخرى بما يناسب اوضاع تلك الاماكن البعيدة عن مركز كنيسة المشرق (حبي 1999، ص504). الا ان ناشري نصوص المجامع اضافوا الى ذيل هذا المجمع رسالة وجهها البطريرك كوركيس الى كاهن خوراسقف اسمه مينا، من بلاد فارس تحدث فيها عن لاهوت المسيح وناسوته (حبي 1999، ص504). شرح فيها ايمان الكنيسة وتعليمها بشأن الثالوث وتدبير الخلاص وطبيعتي يسوع المسيح الالهية والبشرية واتحادهما وخواصهما ويستشهد مطولا بالانجيل المقدس وكتابات الاباء والقديسين.

مجمع مار حنانيشوع الثاني 775 ، مجمع مار طيمثاوس الاول 790 ومجمع مار طيمثاوس الثاني 1318

هدفت هذه المجامع بشكل عام الى تقنين ضوابط وامور تنظيمية في كنيسة المشرق واهمها مجمع مار طيمثاوس الثاني المنعقد سنة 1318، وفيه تم تكريس كتابي المطران عبديشوع الصوباوي القانونيين دستورا لكنيسة المشرق( حبي 1999، ص 46). كتاب ( مرهنتةا ) المرجانة او الجوهرة في صحة الايمان ويعتقد ان تم وضعه عام 1398 او لعلها 1298 حسب ساكو (ساكو1978، ص 3) يستعرض فيه ايمان اللاهوت الشرقي الرسمي في المرحلة الاخيرة من تطوره (ابونا 1996، ص 406) متناولا وجود الله والخلقة والتجسد والفداء والثالوث الاقدس، واسرار الكنيسة والحياة الآخرة. ( ساكو 1978، ص 3).

 

الخلاصة

لقد طورت كنيسة المشرق اعتقادها الكريستولوجي على شكل سلسلة من طروحات مضادة لمعتقدات ناقضت تقاليدها. ( Seleznyov 2002، ص 197) وعاشت الكنيسة في ظل ارتياب دائم من السلطات الحاكمة حول ولاء ابنائها للمملكة الفارسية وعانت من اضطهادات شرسة رغم محاولة آبائها ابعاد هذه الريبة بالاخلاص للملوك المتعاقبين. وطبيعي ان الحكومات الفارسية المختلفة كانت ترغب، في ان تظل الكنيسة المسيحية في ايران مستقلة عن الكنيسة البيزنطية، وان تكون طقوسها وتعاليمها مختلفة عن الطقوس الارثوذكسية السائدة آنذاك ( بيغوليفسكايا 1979، ص 98). وهذا كان سببا مضافا الى الاسباب الداخلية التي ظهرت في تبني اعتقادات وصيغ ايمانية مختلفة جاءت من خارج منطقة الكنيسة لتشطرها الى شطرين. وما زاد من عزلة الكنيسة الاجتهادات العديدة التي برزت في الغرب واستخدمت تعابير خاصة بعلمها اللاهوتي المستقاة من فلسفتها، واختلفت في تفسير تعابير كنيسة المشرق في الطبيعة والاقنوم والشخص ادى الى نسبتها الى نسطورس الذي لم يكن يوما بطريركا عليها او اسقفا لها. واذ كان العرف بالتحريم انذاك قائما فقد حرم نسطورس في المجامع الغربية وانسحب الحرم على الكنيسة واتباعها. ولكن بقاء هذه الكنيسة يأتي بما تميزت به من روحانية عميقة، يزكيها دماء اعداد لا تحصى من الشهداء ( عطية 2005، ص 543).

واحدى اهم صفات هذه الكنيسة مجمعيتها التي غذت مسيرتها وخاصة العقائدية دهورا طويلا . وكانت الغاية من كل مجمع، إعادة النظر في القوانين والرد على الهرطقات التي كانت تظهر هنا وهناك ولتوثيق الأواصر فيما بين الابرشيات القريبة والبعيدة للخروج من الازمات الحادّة التي كانت تواجهها. وارتكز ايمان الكنيسة الكريستولوجي على آراء الآباء والمجامع المسكونية وبالاصغاء المؤسس على الكتاب المقدس.

ان ايمان كنيسة المشرق بقي هو نفسه ذلك الايمان الذي استلموه من الرسل وثبته اباء الكنيسة الجامعة وتحتاج الكنيسة الى اجراء العديد من البحوث والدراسات العميقة لمجامع كنيسة المشرق وتاثير التيارات الفلسفية واستخدام المصطلحات ومعانيها في مختلف التيارات انذاك، لايضاح ان تعليمها صحيح لا يخالف تعليم الكنيسة الجامعة وكشف سوء الفهم بل عدم فهم المصطلحات الفلسفية الشارحة وطريقة فهمها الذي دام قرونا.

المصادر والمراجع

  • عطية، عزيز سوريال، (2005)، تاريخ المسيحية الشرقية، ، ترجمة اسحاق عبيد، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة)
  • صفير، الكاردينال مار نصر الله بطرس، (2003)، في المجمع ألبطريركي الماروني، وهي الرسالة الثامنة عشرة التي يوجّهها نيافته الى أبنائه الموارنة اكليروساً وعلمانيين في مناسبة الصوم الكبير). http://www.maronitesynod.com/pat-letter.htm يوم 28 حزيران 2012، الساعة الثامنة والنصف صباحا.
  • الكتاب المقدس (1994) الطبعة الثالثة، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، دار المشرق بيروت)
  • الاب يوسف حبي (1999)، مجامع كنيسة المشرق، منشورات كلية اللاهوت الحبرية، جامعة الروح القدس- الكسليك، لبنان.
  • (أدور هرمز ججو النوفلي، 2007، تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، في http://www.baqofa.com/forum/forum_posts.asp?TID=13980). في 15/7/2012.  
  • ساكو، الاب لويس، 1981، مجلة بين النهرين 9- لسنة 1981، ص 341- 356 في حبي، 1999، مجامع كنيسة المشرق، بيروت ص 38.
  • أبونا، الاب البير، 1985، تاريخ الكنيسة الشرقية، الجزء الاول من انتشار المسيحية حتى مجيء الاسلام، الطبعة الثانية بغداد.
  • ابونا، الاب البير (1996)، ادب اللغة الارامية. الطبعة الثانية. دار المشرق. بيروت.
  • كاريلين، الارشمندريت رافائيل، خصائص التفكير الديني للشرق والغرب، ترجمة الاخت يوليا بيتروفا، في http://www.serafemsarof.com/mag/index.php?option=com_content&task=view&id=334&Itemid=126 في 20/7/2012.
  • بيغوليفسكايا،نينا، 1979، ثقافة السريان في القرون الوسطى، ترجمة خلف الجراد، معهد الاستشراق التابع لاكاديمة العلوم السوفيتية، موسكو، دار العلم.
  • قنشرين، بدون تاريخ، ططيانس ، موسوعة قنشرين للآباء والقديسين في http://qenshrin.com/saint/saintinfo.php?id=164 في 29/ 7/ 2012.
  • ساكو، الاب لويس، 1978، الجوهرة، خلاصة لاهوتية، تاليف العلامة لشهير مار عبديشوع الصوباوي، نقله الى العربية وعلق عليه.
  • Seleznyov, Nikolai,(2002), The Christology of the Assyrian Church of the East, euroasiatica, Moscow)