كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية وفــــاق و وئــــــام
كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية
وفــــاق و وئــــــام
مثلث الرحمات مار نرسي دي باز
مطران لبنان وسوريا لكنيسة المشرق الآشورية
يبدو للوهلـة الأولى بأن الحديث عن الوفاق والوئام بين كنيستين رسوليتين، أو حتى بين الكنائس الأخرى، مسألة مستغربة ومثيرة للعجب والتساؤل في ظل إيماننا المسيحي الذي يقوم بالأساس على المحبة والوفاق والوئام والتسامح بين جميع أبناء البشر دون أي تمييــز. لقد علمنا ربنا يسوع المسيح كيف نحب بعضنا البعض، فالكتاب المقدس زاخر بإصحاحات وأمثال في هذا المجال ومعروفة للكثير من ألمؤمنين لا بل ويعلمنا يسوع أيضا كيف نحب حتى أعداؤنا ويأمرنا ويقول ” أحبوا أعداؤكم ” (متى 5:44 ).
هكذا علمنا ربنا يسوع المسيح وبشر رسله الأطهار بين جميع شعوب العالم، فكيف والحال بيننا نحن رجال الدين الذين نمثل مملكة الرب على الأرض ونحمل رسالته في المحبة والوئام والوفاق ونسعى إلى ترسيخها بين أبناء رعية كنائسنا؟ فكل كنائس العالم بمختلف اتجاهاتها ومعتقداتها تجمع على هذه المبادئ وتدعو إلى هذه الرسالة. إذن ما الذي يدعونا إلى أن نطرح مواضيع محاطة بالكثير من التساؤلات والبحوث حول المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام طالما يجمع عليها معظم كنائس العالم وبالأخص الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية، موضوع بحثنا هذا، طالما هي مسألة أساسية في إيماننا المسيحي لا يستوجبها البحث والتساؤل حولها. هذا من الناحية الروحية والمثالية التي لا تشوبها أية شائبة في إيمان الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية. أما من الناحية الواقعية والفعلية فالأمر يختلف كثيراً وهو الذي يشكل مصدر كل هذه التساؤلات في البحث والتقصي عن قيم المحبة والوئام والوفاق والتسامح ومن ثم الكشف عنها وترسيخها بين الكنيستين وطبقاً للمبادئ التي تعلمناها من ربنا يسوع المسيح. فلو حاولنا، ولو بقليل من الجهد والبحث، عن مصدر هذه التساؤلات التي تدفعنا لطرح هذا الموضوع لوجدناه في كلمة واحدة وهي الســياسة، ربما الأصح في كلمتين وهما السياسة المكيافيليــة. واقصد بهذه السياسة سعي الدول بكل الوسائل ولدرجة وصلت حتى إلى استغلال الدين والكنائس وتسخيرها من دون أي وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني من أجل تحقيق مصالحها الخاصة البعيدة كل البعد عن أبسط القيم السماوية والأرضية.
أي بهذا المعنى أقصد بأن السياسة بما تتضمنها من مؤثرات فكرية واجتماعية واقتصادية هي التي وضعت الحدود وبنت السدود بين مثاليتنا الروحية في فهم القيم المسيحية وبين الواقع الذي نشأت فيه كنائســنا وهي التي شوهت أيضاً ،عبر التاريخ الطويل، مفاهيم الوفاق والوئام القائمة، أو التي كان من الواجب قيامها في الواقع الفعلي بين الكنيستين الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكيـة. فبسبب هذه السياسة المكيافيلية طغت إفرازاتها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية على سطح العلاقات بين الكنيستين منذ أمد بعيد وظهرت ضمن هذه الإفرازات وكأنها علاقات تفتقر إلى الحد الأدنى من الوفاق والوئام وتسودها القطيعة والجفاء أن لم نقل البغض والعداء، في الوقت الذي تعتبر مبادئ الوفاق والوئام التي تعلمناها من ربنا يسوع المسيح أساس وجود كلا الكنيستين. فمن هذا المنطلق نقول، كلما طغت السياسة المكيافيلية وتعاظم تأثير إفرازاتها المختلفة على الشعوب بما فيها مؤسساتها الروحية، وأقصد الكنائس بالذات، تضاءلت أو اضمحلت المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام والمحبة والتسامح في ما بينها. والعكس صحيح أيضا، فكلما تضاءلت أو تلاشت السياسة المكيافيلية وقلّ تأثير إفرازاتها المختلفة على الشعوب وكنائسها برزت وتعاظمت المبادئ المسيحية في الوفاق والوئام والمحبة والتسامح بين الكنائس المختلفة واقتربت من النبع المسيحي الأول الذي شربت منه جميع الكنائس. فهذه الحقيقة المنطقية تنطبق في أجلّ صورها على طبيعة العلاقة بين الكنيستين الآشورية والغربية الكاثوليكية والتي خضعت خضوعاً مباشراُ ومؤثراً إلى إفرازات السياسة المكيافيلية لبعض الدولة الكبرى وبالأخص بريطانيــا وفرنســا أبان تصاعد حدة نزعتهما الاستعمارية التنافسية في القرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين، وبالتالي أبعدت كلا الكنيستين في الواقع الفعلي عن منبعهما المسيحي المشترك في الوفاق والوئام فظهرت العلاقة بينهما متصفة بالجفاء والعداء مبتعدة بمسافات بعيدة عن إيمانهم الحقيقي والصميمي وعن تعاليم معلمنا الأول سيدنا المسيح في الوفاق والوئام الواجب توفرها لا بين كنيسة وكنيسة فحسب أو بين فرد وفرد بل بين جميع شعوب الأمم المعمورة، وهو الواجب الذي حملته كنيستنا الآشورية على عاتقها في هذه الأيام في التطهر من السياسة المكيافيلية وتأثيراتها في بناء علاقتها مع جميع الكنائس وبالأخص الغربية الكاثوليكية منها والتي يتحقق جانب منها في خطوات التفاهم والتقارب نحو الوحدة بين شقي كنيسة المشرق، وأقصد كنيستنا الآشورية والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية .
والتاريخ البعيد والقريب يؤيد ما ذهبنا إليه. فمن الحقائق التاريخ المعروفة لدينا هي أنه بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية في عام 605 ق.م. أنحصر كيانها السياسي في أعالي بلاد آشــور وفي دويلات صغيرة وضمن مناطق تقاطع دوائر الصراع الفارسي والاغريقي ثم البيزنطيني المستمر والتي كانت تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي. ومن هذه المناطق، وتحديداً من منطقة أورهي أو أورفه، حاليا في جنوب شرقي تركيا والمعروفة عند الغرب بـ “أوديسا”، أنطلق أيماننا في بناء الصخرة الأولى في كنيستنا وعلى يدي مار أدي الرسول ثم تلاميذه ماري ومار أجاي والذي توسع هذا الإيمان حتى وصل إلى أقاصي الصين ومنغوليا بحيث تمكن مؤمنو هذه الكنيسة من بناء إمبراطورية روحية واسعة عوضتهم عن فقدانهم لإمبراطوريتهم المادية القديمة فأصبحت إمبراطوريتهم الجديدة جزء من حياتهم ووجودهم أستوجب الحفاظ عليها وعلى إيمانهم المسيحي واستمراره وتواصله حتى اليوم الكثير من التضحيات بالأرواح والدماء، وهي تضحيات مقرونة بملاحم عجيبة في التضحية والفداء من أجل كلمة الرب، وتفاصيلها مذكورة في الكثير من الكتب والوثائق التاريخية ولا نرى المجال متسع للإطناب فيها لأنها معروفة للداني والقاصي.
ومن الملاحظ في تاريخ كنيسة المشرق الآشورية بأنه رغم انتشارها في مناطق واسعة وشمولها لشعوب مختلفة ومتعددة واستمرارها لقرون طويلة إلا أن أتباعها كانوا وعلى الدوام يشكلون أقلية بين بقية الشعوب والمعتقدات، ولم يكن حاكم أو ملك ذو شأن من أتباعهم، وظلوا عبر التاريخ الطويل وحتى اليوم أقلية لا دولتية، أي لم يؤسس أتباعها أية دولة أو كيان سياسي مستقل خاص بهم أو ارتبطوا بدولة أخرى تبنت نفس معتقداتهم، وهذا بالأساس كان يرجع إلى كون كل اهتمامهم وحياتهم مكرسة لخدمة مملكة الرب وبالتالي لم تشغل مملكة الأرض أي اهتمام عندهم. من هذا المنطلق، أي بسبب الافتقار إلى كيان سياسي فاعل ومؤثر قادر على توفير الحماية أو الصيانة اللازمة لكنيسة المشرق من المؤثرات السياسية الخارجية نرى بأن كنيسة المشرق الآشورية خضت وتأثرت تأثراً كبيراً ومباشراً بسياسة الدول الأخرى وعجزت عن مقاومتها وبالتالي تعرضت لتأثير سياسيات الدول التي خضعت إليها، ابتداءً من الدول الفارسية ثم البيزنطينية والإسلامية فالعثمانية والأوربية بما فيها بريطانيا وفرنسا. وطبقا لهذه السياسات، التي فرضت بالحديد والنار على رؤساء الكنيسة ورعيتها أو استغلت ظروفهم المأساوية لفرضها عليهم، تحددت طبيعة علاقتها مع الكنائس الأخرى التي خضعت هي الأخرى إلى سياسات الدول، وخاصة الدول التي كانت في عداء وحروب مستمرين كالإمبراطوريتين الفارسية والرومانية ثم البيزنطينية كما كان في السابق، والامبراطورية العثمانية والدول الغربية كما كان في القرون القليلة الماضية، فانعكست هذه الصراعات، بكل ما تحمله من طابع سياسي وفكري وحضاري، في طبيعة علاقات كنيسة المشرق الآشورية مع الكنائس الأخرى، فأصابها الكثير من الجفاء والقطيعة والعزلة، خاصة بعد منتصف القرن الميلادي الرابع فكانت تلك الفترة البداية الأولى في بناء السدود بين كنيستنا والكنائس الغربية الأخرى والتي استمرت قرون طويلة وحتى إلى وقت قريب من عصرنا.
وبقدر تعلق الأمر بمبادئ الوفاق والوئام من الناحية الروحية في طبيعة علاقة كنيستنا مع الكنيسة الغربية الكاثوليكية ومدى تأثرها بالسياسات المكيافيلية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وهو القرن الذي بدأت الدول الغربية وكنائسها الاهتمام بالعالم الشرق الأوسطي وبمسيحييه وكنائسه، ومدى قدرة هذه السياسات في تحويل هذه الطبيعة الروحية للعلاقة بينهما إلى نوع من الجفاء والخصام نلاحظ بأنه مرة أخرى انعكاس تأثيرات مملكة الأرض المتمثلة في الأطماع الاستعمارية للدولتين البريطانية والفرنسية وحتى الروسية وصراعهما على ممتلكات الرجل المريض، أي الدولة العثمانية، على طبيعة العلاقة بين كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الغربية الكاثوليكية، وبالأخص الكلدانية منها، وطغت على المبادئ الروحية الصميمية في الوفاق والوئام التي تجمعهم ككنيسة واحدة ذات طقس ولغة وشعب واحد . وتجلت مكيافيلية هذه السياسات وبكل وضوح في ادعاء هذه الدول في حماية الاقليات المسيحية ومساعدتهم للتخلص والتحرر من ظلم واستبداد الأتراك في القرن الماضي كأسلوب لتنفيذ مأربهم السياسية عن طريق استغلال الدين. لذلك كان لازماً على كل دولة اللجوء إلى الطائفة الأقرب إليها من حيث المعتقد سعياً لتحقيق هذه السياسات، كما كان لازماً عليها أيضا في تعزيز موقف هذه الطائفة وتعظيم نفوذها في الدولة العثمانية أن تحاول تحقير الطوائف الأخرى والنيل منها. فهكذا استطاعت الدولة الفرنسية، سواء عن طريق مبشريها أو قناصلها أو مفكريها، أن تزرع في نفوس وعقول أبناء الطائفة الكلدانية الكاثوليكية مفاهيم تقوم على اعتبار أبناء كنيسة المشرق الآشورية مجرد نساطرة وكفرة وملحدين وغيرها من الشتائم التي زادت من الشقاق والخصام بين الكنيستين. وعلى الجانب الاخر، وأقصد كنيسة المشرق الآشورية، كان تأثير السياسة المكيافيلية الإنكليزية أكثر قوة وعمقاً وذلك لسببين : أولهما كون بريطانيا هي الدولة الأكثر نفوذاً ومصلحة في المنطقة وخاصة في العراق. وثانيهما عدم وجود لبريطانيا طائفة قوية في الدولة العثمانية ثم في العراق من اتباع الكنيسة الإنكليكانية للاعتماد عليها في تنفيذ سياستها فوجدت في استقلالية كنيسة المشرق الآشورية وفي عدم وجود من يستجيب لاستغاثتها وهي غارقة في المذابح والفواجع والتشرد، فرصة ذهبية لاستغلالها من دون أي وازع أخلاقي وديني وأنساني لتحقيق مآربها الاستعمارية. فنجحت فعلاً في تحقيق الكثير من أهدافها ومنها الهدف المتعلق بموضوعنا في زرعها لبعض المفاهيم السيئة في نفوس وعقول أبناء كنيستنا عن أخوتنا أبناء الطائفة الكلدانية وفي اعتبارهم مجرد ( قليبايـه) ، والذي يعني باللغة الاشورية السريانية بـ ” المتحول من مذهب إلى مذهب أخر ” أي الذين باعوا أنفسهم للغرب مقابل بعض الفرنكات، وهكذا غيرها من الشتائم التي تناقلها الطرفين وحتى أيامنا هذه ولا يزال يتناقلها البعض الغارقون في النزعات الطائفية والنائمون في ظلام الماضي الأليم.
واليوم هو غير الأمس و بجميع جوانبه الموضوعية والفكرية، فلا عزلة هيكاري ولا التقوقع الفكري ينفعان في هذا الزمان، زمن الكومبيوتر والبريد الالكتروني والانترنت والستلايت. كما لا تنفع الأساليب والمناهج العتيقة في التعبير عن أصالة كنيسة المشرق الآشورية وعن ومعتقداتها أثناء تعاملها مع بقية الكنائس المسيحية خاصة بعد أن تسلح أبناء رعيتها بسلاح العلم والمعرفة واكتسبوا مناهج علمية معاصر في التعبير عن أصالتهم التاريخية قادرة على الدخول في تفاهم ووفاق ووئام مع بقية الكنائس المسيحية بعقلية علمية منفتحة. وكان اجتماع قداسة البطريرك مار دنخا الرابع مع الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني وصدور البيان عنهما في الإيمان المسيحاني المشترك بين كنيسة المشرق الآشورية وكنيسة روما الكاثوليكية في أواخر شهر تشرين الثاني( نوفمبر) 1994 نموذجاً رائعاً في إزالة الغشاء التاريخي الأسود الذي كان يغطي مفاهيم الوفاق والوئام القائمة بين الكنيستين الرسوليتين. وتأتي المباحثات الأخوية بين شقي كنيسة المشرق، الآشورية والكلدانية، الهادفة إلى إزالة الاختلافات بينهم نحو تحقيق الوحدة وإعادة أمجاد هذه الكنيسة التاريخية إلى الحاضر المعايش خطوة تطبيقية للبيان المسيحاني المشترك، وهو نفس الأمل الروحي الذي نأمل من لقائنا وتشاورنا مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ومع بقية كنائس العالم في بناء أسس الوفاق والوئام بيننا. وكانت مقررات المجمع السنهادوسي لكنيستنا في صيف عام 1997 والخاصة برفع وإلغاء،ومن غير رجعة ، مخلفات الماضي الأليمة التي كانت تعكر الطبيعة الروحية النقية لكنيسة المسيح، تأكيداً واضحاً وصريحاً من كنيستنا في رغبتها الجامحة في الكشف عن الأسس الجوهرية لها في الوفاق والوئام والمحبة وبناء علاقاتها مع بقية كنائس العالم من أجل إقامة الصرح المسيحي الأخوي في كنائسنا نجتمع فيه جميعاً مع ربنا يسوع المسيح ونحقق ما قاله “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي ، فأنا هناك في وسطهم” ( متى 18:20 ).
وانطلاقا من أيماننا العميق بهذه المبادئ المسيحية الطاهرة ومن هذا المنبر الحر أقترح أن تكون سنة 2000 سنة وفاق ووئام بين جميع كنائس العالم، وتحقيقاً للخطوة الأولى بهذا الشأن أقترح تشكيل مجلس أعلى لبطاركة كنائس المشرق السريانية وأترك تفاصيل هذا المقترح إلى المجتمعين في هذا المؤتمر للتداول فيها والبحث عن إمكانية الخروج بهذا المقترح إلى النور.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
ألقي هذا الموضوع في المؤتمر الثاني للجبهة الثقافية السريانية المنعقدة في بيروت في 1/5/1998