صوم باعوث نينوى – الاب الدكتور أبريم الخوري

الخطبة، الزواج والطلاق في قوانين مار عبديشوع الصوباوي القس الدكتور أبريم الخوري

 

الخطبة، الزواج والطلاق في قوانين مار عبديشوع الصوباوي

سوف نتكلم باختصارعن الخطبة، الزواج والطلاق في قوانين مار عبديشوع الصوباوي مطران نصيبين وأرمينيا، الذي عاش في القرن 13 وتوفي في بدايات القرن 14؛  حيث يعتبر من أشهر المؤلفين القانونيين في كنيسة المشرق، قوانينه دونها في كتابين قانونيين شهيرين، هم:

(مختصر القوانيين السهنادوسية ܟܘܢܫܐ ܦܣܝܩܐ ܕܩܢܘܢܐ ܣܘܢܗܕܘܩܝܐ أو كما يسمى نوموكانون)

 و(نظام الأحكام الكنيسة ܛܘܟܣ ܕܝܢܐ ܥܕܬܢܝܐ )، اللذين كرسا رسمياً كمجموعتين رسميتين لكنيسة المشرق في مجمع مار طيماثيوس الثاني سنة 1318.

هذه القوانين هي سارية المفعول في كنيستنا، كنيسة المشرق الاشورية[1]، لحد الان، ولم يتغير منها إلا القليل. لذلك فمعرفة المؤمنين لها مهمة وضرورية، لكن لسعة الموضوع سوف نتكلم عنها بصورة عامة بما يفيد القاريء دون الغوض في التفاصيل الدقيقة؛ على أمل ان ننشر عن هذا الموضوع بتفصيل أكثر في المستقبل القريب.

الخطبة والزواج:

تكلم مار عوديشوع عن الخطبة والزواج في ثلاث من كتبه: في المجموعتين القانونيتين اللتين ذكرناها اعلاه وفي كتاب الجوهرة (ܡܪܓܢܝܬܐ) [2]؛ حيث حسب هذه الكتب الزواج يتم من خلال مرحلتين، مرحلة الخطوبة (ܛܠܝܒܘܐ)  ومرحلة العرس (ܚܠܘܠܐ).

 

الخطوبة:

الخطوبة هي المرحلة الأولى من مراحل الزواج، وهي بدورها تتم من خلال مرحلتين[3]:

الأولى، المرحلة التقليدية، هي المرحلة التي يتيم فيها تقديم أو تسليم الخاتم إلى الفتاة وأخذ رضاها الشفهي؛

والثانية، المرحلة الطقسية، هي المرحلة التي ينال فيها الخطيبين البركة من الكاهن ويأخذ الرضى التحريري منهما. في هذه الفترة ينبغي ان يكون لكل فتاة (ܡܡܟܪܢܐ) الوكيل الذي يعطي موافقة زواجها، كالأب أو الأخ أو غيرهم. فرضى الوالدين مهم للخطبة والزواج، لكن (كما سنرى) الأهم هو رضى الفتاة.

تعريف الخطبة

مار عبديشوع لديه تعرف وحيد عن معنى الخطبة ذكره في الفصل (7) من الباب الثالث من كتابه “نظام الأحكام الكنسية”، فيه ينص على ان الخطبة: “هي عهد، عقد ووعد بالزواج من أجل المشاركة الطبيعية التي تتم من بعده، سواء أكان مكتوباً أم لا، والذي يشكل أساس الإلتزام قبل الزواج، بإرادة وموافقة كلا الطرفين، حسب اختبار مثالي ونقي، وبعد البحث والتحقيق كثيراً خلال فترة العهد، وذلك لتأسيس المحبة والوئام بينهما[4].

فالخطوبة ليست مجرد وعد أو عقد قانوني بحت أو إجراء شكلي يهيء للزواج؛ إنما به تؤسس المرحلة الأولى من مراحل الحياة الزوجية، وفيه يظهر إلتزام ووعد وإلاخلاص للإحتفال  بالزواج لاحقاً، بموافقة وإرادة حرة للطرفين. فحسب مار عبديشوع، الخطيبان لا يمكنهما الإنفصال عن بعضهم البعض في فترة الخطوبة، إلا لنفس الأسباب التي بها يتم الإنفصال أو الطلاق في الزواج[5]؛ لان مؤسس الخطوبة هو الله، كما أن الخطوبة هي رمز لخطوبة المسيح مع الكنيسة المقدسة، بواسطة يوحنا المعمذان في نهر الأردن[6].

إلا أن على الرغم من القوة القانونية للخطوبة ومراسيمها الكنسية والطقسية، إلا أن الخطيبين لا يستطيعان أن يشتركا فيه معاً في الحياة الزوجية الكاملة إلا بعد إتمام المرحلة الثانية، أي بعد العرس.

 

أهمية الخطبة

تعريف الخطبة يبين لنا ان أهمية الخطبة عند مار عبديشوع هي لتجسيد أو زيادة التفاهم والمحبة بين الخطيبين، ولفهم معنى الزواج جيداً وغايته لتأسيس حياة وزواج مقدس مدى الحياة؛ كما وفي هذه المرحلة يتم البحث جيداً على ان لا يكون هناك مانع يمنع الزواج.

الخطبة مهمة بل إلزامية قبل الزواج، اولاً: لأنها مرحلة من مراحل الزواج، كما أنها متساوية له قانونيأً من حيث الإحتفال  ومن حيث الطلاق؛ حيث بالأحرى يتكلم مار عبديشوع في “مختصر القوانيين السهنادوسية” عن صيغة الإحتفال  بالخطبة أكثر من تكلمه عن صيغة الإحتفال  بالعرس؛ حيث ذكر تفاصيل الخطبة، سواء التقليدية أو الطقسية، ولكنه لم يتكلم أي شيء عن مراسيم العرس. ثانياً: لان مؤسس الخطبة هو الله، وذلك في سفر الخلقة عندما قسم الله خلق الأبوين الأولين إلى مرحلتين، حيث خلق اولاً ادم ثم صنع حواء من ضلعه ” لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ[7]؛ فكما ان خلقة الأبوين الأولين مقسمة إلى مرحلتين هكذا ايضاً الزواج يجب ان يقسم إلى مرحلتين، الخطبة والعرس. ثالثاً: لأنها على مثال خطبة المسيح مع الكنيسة المقدسة بواسطة يوحنا الكاهن في معموديته في نهر الأردن بحلول الروح القدس وشهادة بكلام الله.

 

ما هي العناصر الأساسية المؤسسة لصيغة الإحتفال  بالخطبة والزواج؟

أي العناصر التي يجب أن تكون موجودة في كل خطبة أو زواج وإلا فإن الزواج باطل أو غير معترف به كنسياً، ما عدا حالات إستثنائية التي سنتحدث عنها لاحقاً؛

العناصر الأساسية هي:

  • الصيغة الطقسية والقانونية: قلنا إن الخطبة تتضمن مرحلتين[8]؛ المرحلة الأولى هي المرحلة التقليدية، التي يمكن ان نسميها مرحلة تسليم الخاتم للفتاة والتي فيها تأخذ الرضى الشفهي منها؛ تسليم الخاتم تتم اولاً من الخطيب إلى الكاهن ثم يرسله الكاهن إلى الخطيبة عن طريق 4 نساء وقورات أو بنث قياما(راهبات)، حيث يسلمون الخاتم إلى الفتاة ويقولون لها إن هذا خاتم لفلان إبن فلان يريد أن يخطبك؛ هنا يعطي مار عبديشوع كامل الحرية للفتاة للموافقة أو الرفض، حيث إذا رفضت الخاتم، معناه رفضت الخطبة من الولد والمراسم تنتهي هنا؛ اما إذا تسلمت أو قبلت الخاتم وهي ساكتة معناها رضيت بالولد، عندها تكمل الخطبة بالمرحلة الثانية، التي هي المرحلة الطقسية، حيث تتضمن صلوات وبركات الكاهن ومباركة الخاتم نفسه والكأس والخنانا والصليب، بحضور الشهود والمؤمنين في الكنيسة وأمام المذبح المقدس، عندها يشرب الخطيب والخطيبة من الكأس ويرسم في جبين الإشبين والإشبينة علامة الصليب، بهذا الفعل تصل الخطبة إلى ذروتها.
  • حضور الكاهن: إن أهمية حضور الكاهن في الخطبة والزواج تظهر في ثلاث مرات في ثلاث مراحل متفرقة، وبأدوار مختلفة؛ اولاً: هو بمثابة وسيط لتوصيل خاتم الخطيب إلى الخطيبة لأخذ الرضى الشفهي التي تتم في المرحلة التقليدية؛ إذاً الخطبة لا تتم عن طريق الوالدين أو عن طريق الخطيب مباشرة كما تمارس في الوقت الحالي وإنما تتم من خلال الكاهن. ثانياً: بركة الخطيبين تتم في المرحة الطقسية، وذلك حسب الصلوات والبركات المحددة في الطقس التي تتم في الكنيسة وأمام المذبح وبحضور الشماس والشهود والمؤمنين. ثالثاً: الكاهن يكون وكيلاً لمن ليس لديها الأهل والأقارب؛ في هذه الحالة كون الكاهن “الأب الروحي للكنيسة” يحل محل الأب لها ويكون وكيلها في الخطبة[9].

حضور الكاهن في الحالة الثانية، أي المباركة، مهم لصحة الخطبة. إذاً على الرغم من ان الكاهن هو شاهد على الرضى الطرفين في المرحلة التقليدية، إلا أن بركته في المرحلة الطقسية مهمة لصحة الخطبة[10].

  • حضور أربعة أو خمسة شهود: للشهود دور مهم في الخطبة والزواج، فهم ليسوا فقط شهوداً على الخطبة والزواج وإنما هم أيضاً ممثلين عن المؤمنين جميعاً، لذلك فحضورهم مهم سواء في الحالات العادية أي الطبيعية المألوفة أو في الحالات الإستثنائية غير المألوفة[11]. مهمتهم تبدأ من تقديم الخاتم إلى القس والقس إلى النساء واخيراً الشهود لتسجيل الرضى التحريري.

نرى إذاً ان الكاهن والنساء في المرحلة التقليدية و4-5 شهود في المرحلة الطقسية كلهم شهود على الزواج سواء شفهياً أو تحريرياً.

  • تسجيل الرضى: رأينا كيف اعطي الخطيبان رضاهما الشفهي في المرحلة التقليدية من طريق الكاهن وأربع نساء، لكن بالإضافة إلى ذلك، مار عوديشوع يلزم الطرفين على تسجيل رضاهما تحريرياً في المرحلة الطقسية في نسختين واحدة فيها رضى الخطيب والثانية رضى الخطيبة، وذلك أمام المذبح والكاهن والشمامسة و 4 أو 5 شهود وبحضور المؤمنين.

 

الصيغة الإستثنائية أي الغير المألوفة

   العناصر الذي ذكرناها أعلاه هي مهمة لاجراء مراسيم أي خطبة أو زواج حسب الطقس والقوانين الكنسية، وبعكسه تعتبر الخطبة والزواج باطلين ولا تعترف بهما الكنيسة؛ وذلك، يقول مار عبديشوع، حتى نفرق بين زواجاتنا وزواجات الغير المؤمنين.

لكن على رغم من ذلك، هناك حالات إستثنائية يمكن إجراء هذه المراسيم بغياب عنصر أو أكثر من هذه العناصر؛ ففي “مختصر القوانيين السهنادوسية” ذكر إستثناء واحد وهو في حالة غياب الكاهن؛ أي في حالة كونهما في منطقة أو مكان بعيد فيها مؤمنين لكن لا يوجد فيها كاهن ولا يمكنهم الوصول اليه؛ ففي هذه الحالة اعطى مار عبديشوع الموافقة للخطيبين على الإحتفال  بالخطبة بطقس خاص، حيث تتم بتلاوة (ابانا الذي في السماوات…، وقدوس انت يالله…) بحضور4-5 شهود والصليب والخاتم والخنانا[12].

وإذا لم يحضر أو لا يمكن الوصل للكاهن في وقت العرس، فهكذا يعمل ايضاً للإحتفال  به، أي الإحتفال  بالعرس.

لكن حتى في هذه الحالة يجب ان يصلوا إلى الكاهن بأقرب وقت ممكن ليكمل ما نقص من الصلوات والبركات، بمعنى انه في النهاية يلزم كل خطبة أو عرس أن يتم بمعرفة الكنيسة ومن خلالها.

بينما في كتابه “نظام الأحكام الكنيسة” يذكر إستثناءً آخر، حيث إذ لا يكون الكاهن فقط غائباً وإنما المؤمنين ايضاً. كأن وجدوا في مكان لا يوجد فيه لا كاهن ولا شهوداً وظروفهم تمنعهم من الوصول إليهم[13]؛ فيقول في هذه الحالة بإمكانهم الزواج، لكن من أجل صحة الزواج يجب عليهم فيما بعد عندما يلتقون بالكاهن والمؤمنين ان يعلنوا عن زواجهم[14]؛ حيث يتم ذلك بإظهار الزوج قبوله وموفقته أمام الكاهن والمؤمين في الكنيسة، أي يجب ان يجاهر علناً ان الفتاة هي زوجته؛ عندها فقط يكون الزواج صحيحاً.

الزواج

عرَّف عبديشوع في كتابه “نظام الأحكام الكنسية” الزواج الشرعي على انه: ” إنسجام أو إتفاق وألفة أو معايشة بين رجل وامرأة، بالشهادة والصلاة الكهنوتية، والوحدة والمشاركة الطبيعية من أجل المساعدة المتبادلة بين الطرفين المؤسسة مدى الحياة من أجل ارتباط ضروري، ومن أجل إنجاب البنين الذين يولدون منهما[15].

من هذا التعريف يمكننا أن نرى أن العنصر الضروري والأساسي في الزواج هو الإتفاق الشخصي المتبادل بين الرجل والمرأة، لتأسيس علاقة  الوحدة والمشاركة الطبيعة مدى الحياة لخير الزوجين ولخدمة العائلة وإنجاب البنين.

أهداف الزواج

يعتبر مار عبديشوع المؤلف الوحيد بين المؤلفين القانونيين والمجامع الكنسية الذي حدد أهداف الزواج بصورة واضحة وصريحة وذلك في كتابه “نظام الأحكام الكنسية” في قانون خاص تحت عنوان “عن أهداف الزواج الشرعي[16]. فبالنسبة له أهداف زواج هي:

  • إنجاب البنين: هو هدف من أهداف الزواج وهو ثمرة الحياة الزوجية ونتيجة الهدف الثاني، استناداً إلى كلام الرب في التكوين، وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: “أَثْمِرُوا وَأكثروا وَامْلأُوا الأَرْضَ[17]. فلا يجوز الإنجاب قبل أو خارج الزواج، أي ان الزواج هو الطريق الشرعي الوحيد لإنجاب الأطفال، لان الله بارك ادم وحواء اولاً ثم قال لهم أَثْمِرُوا وَأكثروا وَامْلأُوا الأَرْضَ.
  • المساعدة المتبادلة بين الزوجين: الهدف الثاني من أهداف الزواج هو المساعدة والتعاون المتبادل بين الزوجين في تحمل أعباء الحياة، وتحقيق ذاتهما من خلال تحقيق دعوتهما للحب. الحب نفسه الذي دفع المسيح لإعطاء ذاته حتى الموت من أجل خطيبته كنيسته المقدسة، حسب كلام الرب، “لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ[18].

هكذا اسس الله أهداف الزواج من بداية خلقة الانسان وهي مرتبطة فيما بينها، للحفاظ على النسل البشري و على العائلة وتأسيس حياة مبنية على الحب والتعاون المشترك بين الزوجين: من اجل إنجاب الأولاد ومساعدة في تربيتهم في مخافة الله.

إلا ان، مار عبديشوع يضيف هدفاً آخر إلى هذين الهدفين، وهو قتل الشهوة؛ حسب قول الرسول بولس  وَلكِنْ أَقُولُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجِينَ وَلِلأَرَامِلِ، إِنَّهُ حَسَنٌ لَهُمْ إذا لَبِثُوا كَمَا أَنَاوَلكِنْ إِنْ لَمْ يَضْبُطُوا أَنْفُسَهُمْ، فَلْيَتَزَوَّجُوا. لأَنَّ التَّزَوُّجَ أَصْلَحُ مِنَ التَّحَرُّقِ[19].

لذلك فالمشاركة الجسدية الشرعية الوحيدة بين الرجل والمرأة هي في الزواج، هذه المشاركة تكون هدفاً آخر بالإضافة إلى الهدفين السابقين للذين يعيشون ويحترقون في الشهوه الجسدية، فتكون كعلاجاً لهم. كما يقول الرسول بولس، “لكِنَّكَ وَإِنْ تَزَوَّجْتَ لَمْ تُخْطِئْ. وَإِنْ تَزَوَّجَتِ الْعَذْرَاءُ لَمْ تُخْطِئْ[20].

خصائص الزواج

في قاعد عامة وأساسية، الزواج له خاصيتان أساسيتان هي  الوحدة وعدم الإنحلال:

  • الوحدة[21]: هي ضد تعدد الزوجات والأزواج، وتدعو إلى الإخلاص المتبادل بين الزوجين، لأن الله خلق إمرأة واحدة لرجل واحد بالعمل وبالقول؛ بالعمل، خلق رجلاً واحداً وامرأة واحدة، وبالقول، قال “ليكونوا جسدأ واحداً”. فتعدد الزوجات تنفي خطة الله وهي ضد الكرامة الشخصية المتبادلة بين الرجل والمرأة، حيث في الزواج يسلَّمون نفسيهما بعضهما للبعض بحب كلي، فريد وحصري .
  • عدم الإنحلال[22]: هي ضد الطلاق، لأن الإنسان لا يمكن أن يحل ما ربطه الله. في العهد القديم سمح لهم الله لقساوة قلوبهم لكن، يقول الرب، من البداية لم تكن كذلك. قَالَ لَهُمْ يسوع: “إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا“.[23]

هذه الخصائص هي مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بأهداف الزواج، حيث لا يمكن ان تتحقق أهدافه بدون الوحدة وعدم الإنحلال. مار عبديشوع يشبه الوحدة بين الرجل والمرأة كوحدة المسيح مع الكنيسة. فكما أن المسيح متحد مع الكنيسة وأحبها وقدسها، هكذا يجب ان يتحد الرجل بزوجته بالحب وبحبه وإخلاصه لها يقدسها.

حتى وإن لم يعتبر مار عبديشوع الزواج سراً من أسرار الكنيسة السبعة[24]، إلا أنه يعتبره رباطاً مقدساً، لأن الله منذ البداية اعتبره شيء مقدس، بالإضافة إلى أن الرباط بين الزوجين هو مثل خطبة الكنيسة للمسيح، وعن قدسية الرباط يشير إلى كلام بولس “هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ عنَ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ”[25].

لذلك هناك قاعدة أساسية للزواج غير قابل للإنحلال إلا في الحالات الإستثنائية لأسباب قانونية محددة سنأتي إلى ذكرها فيما بعد.

موانع الزواح:

أي الحالات التي يمنع القانون فيها الزواج لسبب ما، فإذا زال هذا السبب أو المانع يمكن الزواج.

  • السن القانونية: إن المقصود بمانع السن القانونية، أن الشخص لا يستطيع الزواج قبل بلوغ سن معينة حددتها القوانين؛ مار عبديشوع في “مختصر القوانيين السهنادوسية” قرر سن البلوغ القانونية للبنت فقط التي يسمح بها الزواج، حيث اعتبرها بالغة في 12 من عمرها[26]؛ أما للرجل يذكر فقط سن البلوغ القانونية في حالة عدم رضى الوالدين، حيث أعطى الموافقة على مباركة زواج الولد البالغ من العمر 16 سنة إذا أراد الزواج برضاه وإرادته الحرة حتى وإن كان بدون رضى والديه[27]. إنما في كتابه “نظام الأحكام الكنيسة” فقد قرر سن البلوغ القانوني للولد في السنة السادسة عشر من عمره[28]، اما البنت في سن الثانية عشرة من عمرها أي كما حددها في “مختصر القوانيين السهنادوسية“. سن الزواج مهم، حيث يجب ان يُحدد سن يكون فيها الشخص قد وصل إلى النضوج العقلي والجسدي بها يستطيع أن يعطي موافقته الشخصية الحرة والمسؤولة لتأسيس حياة يمكن أن يحقق فيها أهداف الزواج[29].
  • عقد خطبة أو زواج شرعي[30]: هذا المانع مرتبط بخصائص الزواج وبالأخص بوحدة الزواج واستمراريته وديمومته، حيث يعتبر تعدد الزوجات مانعاً للزواج. بمعنى الشخص المرتبط بخطبة أو زواج شرعي مستمر لا يمكنه عقد خطبة أو زواج آخر. لأن كما ذكرنا سابقاً حتى الخطبة المحتفل بها حسب القوانين المقررة لها القوة القانونية نفسها للزواج.
  • المرض[31]: هل إصابة أحد الطرفين بمرض ما يمنع به الزواج؟، كتاب “نظام الأحكام الكنسية” حدد بعض الأمراض التي إذا كان مصاباً بها أحد الطرفين تمنعه من الزواج؛ حيث يقول مار عبديشوع إنه يجب أن يبحث أو يفحص قبل الخطبة عن 8 نقاط يمكن أن تمنع الزواج؛ من بين هذه النقاط هو المرض، حيث تعتبر الأمراض مثل مرض الجذم أو الروح الشريرة أو الخنثى وغيرها من موانع الزواج. لكن لا يوجد في “مختصر القوانيين السهنادوسية” مانع يمنع الزواج بسبب المرض كما لا يعطي الطلاق بسبب المرض كما سنرى لاحقاً[32].
  • مع غير المسيحي[33]، هذا المانع يعني أنه لا يمكن عقد زواج صحيح مع شخص غير معمد؛ مار عبديشوع منع فقط المرأة الزواج من غير مسيحي، أما الرجل فأعطيت له موافقة لزواج بغير مسيحية على أمل أن يجعل زوجته أو أولاده أو كليهما مسيحيين؛ إذا نرى ان إعطاء موافقة للرجل بالزواج، أولاً، إن الإلتزام تغيير دين الزوجة والأولاد ليس مطلقاً وإنما على أمل تغيرها، وثانياً، ليس الإلتزام بتغير ديانة كليهما، أي الزوجة والأولاد، وإنما واحد منهما[34]. أسباب عدم السماح بهذه الزواجات: لأن الزواج ليس هو فقط وحدة في الجسد وإنما هو وحدة في الايمان ايضاً، فالواجب الأساسي للمؤمن هو أن يحافظ على إيمانه ويمارسه ويضمن أيضاً ان يربي أولاده حسب الإيمان المسيحي القويم؛ والزواج مع غير المعمد قد يعيقه عن إتمام ذلك كما أن هناك خوفاً من ترك الإيمان للزوجة أو لأولادها.
  • الرهبنة[35]: هل يحق لراهب أو راهبة ان يترك التَّرَهُّبوتتزوج؟ مار عوديشوع في كتابه “مختصر القوانيين السهنادوسية” أعطى الموافقة أو الرخصة للراهب، للراهبة و بنث قياما لترك الدير والزواج لكن بشروط: أولاً، أن يطلبوا موافقة الأسقف لكي يستطيعوا الإحتفال  بالزواج؛ ثانياً، الإحتفال  الطقسي بالزواج أو المباركة تكون خاصة وفي البيت وليس في الكنيسة؛ ثالثاً، يشترط عدم وجود علاقة عاطفية بينهما أثناء العيش بالدير أو بالرهبنة.
  • المخطوفة[36]: أي خطف فتاة بهدف عقد الزواج منها. يجب أن نميز في هذا المانع نقطتين، أولاً، إذا كان قد تم الخطف بإرادة المرأة أو بعدم أرادتها، ثانياً، إذا كانت مخطوبة أو متزوجة أم غير مخطوبة وغير متزوجة.

كقاعدة عامة، إذا كانت الفتاة مخطوبة وخطفت بدون إرادتها فيجب دائماً أن ترجع إلى خطيبها؛ أما إذا كانت غير مخطوبة وخطفت بدون إرادتها، فمار عبديشوع سمح لخاطفها الزواج منها لكن بشروط: أولاً، ان تحرر، أي يجب ان تنقل المخطوفة إلى مكان آخر تكون فيه حرة؛ ثانياً، إذا وافقت هي ووالداها على ذلك. أما إذا كانت البنت قد خطفت بإرادتها، فإذا كانت متزوجة أو مخطوبة تستطيع ان ترجع إلى زوجها أو خطيبها إذا وافقوا على ذلك؛ بينما إذا الخطيب أو الزوج لا يريد إرجاعها، فالمرأة لا تستطيع الزواج من خاطفها؛ بينما في كتابه “نظام الأحكام الكنسية” لم يعطِ أي إمكانية للمخطوفة بإرادتها (بالأحرى الهاربة معه) رجوعها إلى خطيبها أو زوجها وإنما اعتبرها زانية ويجب توقيفهما من الكنيسة.

  • القرابة[37]: هناك نوعين من القرابة، القرابة الدموية وقرابة المصاهرة. القرابة الدموية أو الطبيعية، هي القرابة الناتجة عن رباط الدم القائم بين الأشخاص المتناسلين أحدهم عن الآخر؛ هذه القرابة قد تكون ذات خط مستقيم كالأب والجد وإن علا والإبن وإبن الإبن وإن نزل، أو قد تكون من خط منحرف وهم المتناسلين من أصل قريب كالأخوة وأولاد العم والعمة والخال والخالة وغيرهم؛ لذلك أساس القرابة ليس الزواج، وإنما الجيل أو الأصل. اما قرابة المصاهرة، فهي القرابة القانونية الناتجة عن الزواج الشرعي الصحيح الذي هو أساسه الحصري، وينشأ بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة وليس له علاقة بالدم[38].

ذكر مار عبديشوع في كتبه القانونية 65 حالة لرجل و 65 حالة لبنت لا يستطيعون الزواج بسبب القرابة الدموية والقرابة المصاهرة؛ إذا فحصنا هذه الحالات نراى أن هناك فقط  13 حالة قرابة دم  بينما لديه 49 حالة قرابة المصاهرة، بمعنى أنه أعطى أهمية لقرابة المصاهرة أكثر من قرابة الدم.

أسباب تحديد هذا المانع: الأسباب الرئيسية التي دفعت الكنيسة لمنع الزواج من هذه الأقارب، بعضها ذكرها عبديشوع[39]، هي، المرض: الزواج من الأقراب ينشيء في الأغلب تشوهًا في الأولاد؛ الميراث: لأن أملاك العائلة كانت الأرض فلم يكونوا يرغبون ان تنتقل إلى الغريب لذلك كانوا يزوجون بناتهم أقربائهم ولا يزوجوهنَّ للغريب؛ زيادة أعضاء العائلة: فإذا تزوج من البعيدين يصبحون أقرباء لهم بالزواج ويزيد عددهم ويساعدون ويدعمون بعضهم البعض، اما إذا تزوجوا من القريب فيبقى عددهم نفسه ولا يزيدون؛ الحب وحل المشاكل وإبعاد الكره بين العوائل بزواج مع البعض: الزواج يحل الكره والخلافات بين العوائل، كما كانوا الملوك والرؤساء يتزوجون مع بعضهم فيحل الخلاف ولا يقام القتال بينهم. العيش مع بعضهم: أغلب العوائل، القريبين كالأعمام وأولادهم كانوا يعشون مع بعضهم في بيت واحد يتربون ويكبرون مع بعضهم، لذلك فاكنوا يعتبرون مثل الأخوة. يمنع القتل بين أعضاء العائلة للزواج، لربما شخص يقتل أخاه أو والده أو أبناء العم ليتزوج من زوجته، خاصة في القديم عندما كان يزوجون زوجة الأخ المتوفي إلى أخيه. زيادة اعضاء المسيحيين: بحيث البعيدون يصبحون قريبين بالزواج، فهكذا الغرباء أو البعيدون يكونون موحدين بالإيمان والقرابة ايضأ.

  • القرابة الروحية[40]: القرابة الروحية هي القرابة الناتجة بين الإشبين (العراب) والمعمد من جهة، ووالديهم من جهة آخرى. هذه القرابة لا يعتبرها مار عوديشوع مانعاً من موانع الزواج في “مختصر القوانيين السهنادوسية”؛ بينما اعتبرها مانعاً في كتابه “نظام الأحكام الكنسية”، حيث قال إن الأبناء الروحيين من المعمودية أو العراب كالأبناء الطبعيين وزوجاتهم. لذلك بالنسبة له العلاقة الناتجة من المعمودية هي مشابهة للعلاقة الناتجة عن القرابة، لذلك يمنع الزواج بينهم. المانع ليس فقط مع الأم والأب وإنما أيضاً مع الأولاد والأحفاد.
  • موت أحد الزوجين[41]، هناك مانع آخر يمكن أن نسميه مانع الإحترام، يكون في حالة وفاة أحد الزوجين؛ ففي هذه الحالة القانون يمنع الطرف الثاني الزواج من آخر حتى مضي 10 اشهر إحتراماً للطرف المتوفى.
  • الزنا[42]: الزنا هو مانع من موانع الزواج لكن فقط في الزواج الثاني. حيث يقول مؤلفنا إن الرجل أو المرأة المطلقين بعلة الزنى لا يمكنهما الزواج ثانية؛ إستناداً إلى كلام الرب “من تزوج بزانية فهو يزني”[43].
  • العبد[44]: العبودية في “مختصر القوانيين السهنادوسية” هي إحدى موانع الزواج. مار عبديشوع أعطى الموافقة على زواج السيد مع الأمة، لكن بشرط تحريرها علنياً قبل الزواج منها. أما فيما يتعلق بزواج العبيد فيما بينهم، فقرر بأنه يجب ان يكون بموافقة رئيسهم. لكن إذا تزوجوا لا يمكن لرئيسهم فصلهم عن بعضهم فيما بعد.

الطلاق

كما رأينا سابقاً، عبديشوع اعتبر الزواج رباطاً مقدساً وغير قابل للإنحلال؛ لكن على الرغم من ذلك لم يعمل به بالشكل المطلق، لأنه أعطى موافقة الطلاق في حالات خاصة حددها القانون؛ لأسباب:

  • السبب الرئيسي التي سمحت كنيسة المشرق أو أعطت موافقة الطلاق من الزواج، هو ما أشار اليه الكتاب المقدس نفسه: في متي 9:19، 32:5. أي بسبب علة الزنا. “أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلا بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِآخرى يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي“.
  • لم يفسروا الزنا تفسيراً ضيقاً بحيث يكون الزنى الجسدي فقط، وانما فسروه تفسيراً واسعاً أي بمعنى واسع حيث شمل الزنى الروحي ايضاً، فقد اعتبروا رفض المسيح، السحر والقتل بالزنى الروحي؛ كما اعتبروا غير العذراء والمخطوفة بإرادتها زانية.
  • ثم حددوا أسباباً آخرى، حيث فسر “ما عدا حالة الزنى” لأي سبب قانوني.

حالات الطلاق

  • الزنى: الزنى الجسدي يعتبر سبب الأول والأقدم والأهم للطلاق؛ لأن الأصل الذي اعتمدته هذه الحالة هو كلام الرب في متي 5: 32، و 9: 19، الذي ذكرناه اعلاه؛ ولأهمية ذلك ذكر مار عبديشوع أربعة قوانين تخص هذه الحالة في “مختصر القوانيين السهنادوسية[45]، وثلاث قوانين في “نظام الأحكام الكنسية[46]؛ حيث أن الزانية، بإرادتها قد هدمت وحدة الزواج باتحادها مع شخص آخر.

اما بالنسبة لكيفية إثبات أو كشف الزنى؟ فمار عبديشوع يذكر بعض الحالات التي تبين ذلك، هي:

إذا كانت المرأة حاملاً وزوجها في مكان بعيد لفترة طويلة؛

أو في حالة الزنى العلني، أي تم كشفهم علناً متلبسين بفعل الزنى؛

أو باعتراف شخصي، عندما تعترف الزوجة أمام القاضي أو أمام شهود موثوق بهم بأنها قد قامت بفعل الزنى؛

أو شهادة الشهود، لكن يجب ان يكونوا 4 أو 6 شهود، ففي كل الحالات العادية يطلب شاهدان أو ثلاثة لكن في حالة الزنى يطلب 4 أو 6 شهود وذلك لخطورتها ولأنها تتم بإرادة الطرفين؛ بالإضافة إلى ذلك، يجب ان لا يكون للشهود قرابة أو صداقة أو عداوة مع المدعي والمدعى عليه؛ أو إذا سافرت إلى مكان بعيد لوحدها بدون ان يرافقها أبوها أو أخوها أو زوجها (سوف نرى هذه الحالة ، في نقطة خاصة)؛ أو زيارة رجل غريب عنها أو زيارتها إلى رجل غريب بشهادة الجيران.

نرى هنا الحالات التي تكشف وتثبت زنى الزوجة ولا يتكلم عن الزنى الزوج؛ فهناك عدم المساواة واضحة بين زنى الزوجة والزنى الزوج، حيث يعطي حق الطلاق من الزوجة الزانية ولا يتكلم عن الطلاق من الزوج الزاني. يبرر هذا الشيء بان الزوج يمكن ان يزني مع الغير لكن لا يعتبر الأولاد المولودين كأولاد الزوجة الشرعية ولن يشاركوا في الميراث، ولا يدبرهم ويعيلهم؛  بينما عندما تزنى الزوجة، الأولاد الذين يولدون من الزنى سوف يعتبرون اولاد شرعيين كما سيكون لهم حق الميراث، ويربيهم ويعيلهم. كما ويضيف ايضاً بان الزوجة إذا زنت تكون متأكدة بأن الأولاد المولودين منها هم أولادها، بينما إذا زنى الزوج فلا يعرف ولن يتأكد بأن الأولاد المولودين من المرأة التي زنى معها أنهم أولاده أم أولاد غيره.

لكن في كتابه الثاني “نظام الأحكام الكنيسة” أعطى الحق للزوجة الطلاق من زوجها الزاني كما أعطى لها أيضاً حق الزواج من غيره، إذا أرادت، واخذ (%10) من الميراث؛ كما ومنع الزوج الزاني من الزواج من غيرها مرة آخرى.

  • الردة أو رفض المسيح والسحر[47]: إعتبر مار عبديشوع الردة زنى وسماها بزنى الروحي، فأعطى الموافقة على الطلاق في هذه الحالة لأن من رفض الله يستطيع الطرف الثاني رفضه، القانون يطبق على الرجل والمرأة إذا رفضوا المسيح. هنا ربط مار عبديشوع الردة بالسحر والاثنين ربطهم بالزنا الروحي؛ لانه يقول إن السحر هو رفض الله، لان لا يقترب احدٌ إلى هذا العمل الشنيع إلا إذا كان اولاً قد أنكر الله نفسه.
  • القتل[48]. القتل هو أحد أسباب الطلاق، لأنه يقول كما بقتله للإنسان يفصل جسده عن روحه الذي خلقه الخالق؛ هكذا إذاً يجب ان ينفصل الطرف الثاني من وحدة الزوج الذي يعتبره مكان الروح والحياة. هنا يتكلم عن القتل بصورة عامة دون تحديد ما إذا كان يقصد به قتل العمد، العرضي أو عن غير قصد. كما أنه حددها للمرأة فقط كأنما الرجل فقط هو الذي يقتل.
  • مخاصمات[49]: اعطى مار عبديشوع موافقة الطلاق بسبب الخصام بين الزوج والزوجة لكن بشروط: أولاً، أن تطول الخصامات 10 سنوات وخلال هذه السنوات تعطى لهم الإرشادات والنصائح لمصالتحهم؛ ثانياً، يجب ان لا يكون لهم أطفال. فإن كان لهم أطفال فلا تعطى موافقة الطلاق أبداً، لأن وجود الأولاد يكفيهم عزءاً، كما وأنه يجب الأخذ بالإعتبار الألم الذي يصيبهم من طلاق والديهم.
  • السبي[50]: السبي هو سبب آخر من أسباب لطلاق، ففي حالة سبي أحد الطرفين فبإمكان الطرف الثاني الطلاق منه لكن يشترط إنتظار ثلاث سنوات ومن ثم طلب الطلاق، لأن الصبر يظهر علامة العفة والمحبة بين الزوجين.
  • الغياب[51]: يعد ترك الزوجة والذهاب إلى مكان بعيد والغياب عنها لفترة طويلة سبباً من أسباب الطلاق، لكن القانون يشترط لإعطاء موافقة الطلاق فترة إنتظار للزوجة رجوع زوجها، هذه الفترة تعتمد على إرسال المصاريف للزوجة أم لا؛ فإذا غاب الرجل 7 سنوات بدون إرساله المصاريف لزوجته، أو غاب 10 سنوات مع إرساله المصاريف، ودائماً بشرط ان لا يكون لهم أطفال؛ للزوجة حق الطلاق من زوجها.
  • الرهبنة[52]: يمكن للزوجيين الطلاق من اجل الترهب لكن بشروط. أولاً، يجب أن يكون باتفاق الطرفين؛ وثانياً، يجب على الإثنين ان يترهبا؛ أما إذا كان فقط احد الطرفين يرغب بالترهب، فيجب أن يكون بموافقة الطرف الثاني وأن يدفع 400 زوزه و 3 قطع ثياب له. كل ذلك بشرط أن لا يكون لهم أولاد أو والدين أوأخوة يعيلاهما. سمح القانون بهذا النوع من الطلاق لأنه يعتبر الحياة الرهبانية أعلى من الحياة الزوجية.
  • الخطف[53]: المخطوفة بإراتها هي سبب من أسباب الطلاق، فإذا هربت زوجة بإدرادتها مع شخص آخر يمكن للزوج ان يطلقها، لأنها تعتبر زانية؛ هي في الحقيقة هاربة معه بإرادتها وليست مخطوفة.
  • غير العذراء[54]: عندما تكون الفتاة غير عذراء عند الزواج فيحق للزوج الطلاق منها، لان القانون إعتبرها زانية؛ لكن حق الزوج في الطلاق له شروط، هي: عدم معرفته بحالتها قبل الزواج وان تكون قصتها معروفة للجميع. أما إذا كان يعرف بحالتها وتزوجها والقصة غير معروفة للجميع فلا يمكنه الطلاق اًبداً.
  • المرض[55]: متى يكون المرض سبباً للطلاق؟ يكون المرض سبباً للطلاق بشروط: أولاً، يجب أن يكون أحد الطرفين مصاباً بالمرض قبل الزواج؛ ثانياً، أن يكون المرض غير معلوم للطرف الثاني عند الزواج؛ ثالثاً، أن يكون المرض غير قابل للشفاء. فأي مرض يأتي بعد الزواج مهما كان حتى وان كان غير قابل للشفاء لا يمكن الطلاق لأجله ابداً.
  • ملوك اليونان[56]: مار عبديشوع ذكر قانوناً من قوانين ملوك اليونان الذي أعطى الحق للزوج فقط الطلاق من زوجته في حالات محددة هي: الحالة الأولى، إذا ذهبت الزوجة إلى قرية آخرى بدون ان يرافقها زوجها أو أخوها أو والدها؛ الحالة الثانية، إذا نامت الزوجة في بيت غيرها، الحالة الثالثة، إذا ذهبت الزوجة إلى المسرح أو السينما[57].

الخلاصة:

على الرغم من أن مار عبديشوع أعطى حق الطلاق في الحالات التي ذكرناها أعلاه، لكن في كل هذه الحالات الطلاق يجب أن يتم عن طريق الكنيسة حصراً، والكنيسة عليها ان لا تحكم حسب اهوائها ورغباتها أو رغبة الطرفين، وإنما يجب عليها ان تحكم حسب القوانين السنهادوسية.

كما ينبغي على الكنيسة قبل ان تحكم بالطلاق ان تقوم بإجراءات ومحاولات كثيرة لمنع وقوع الطلاق بكل الطرق لأن، كقاعدة أساسية، الزواج غير قابل للإنحلال؛ بحيث عليها أن تقوم بجمع أدلة دقيقة تؤكد بان الحالة هي من ضمن الحالات المسموحة بها للطلاق. ثم أخذ شهادة شهود ويشترط ان يكونوا شهوداً موثوقين، للوصول إلى حقيقة الواقع والحالة، بعد فحص الحالة والتدخل ومحاولة الإصلاح بكل الطرق لمنع حدوث الطلاق؛ ثم عليها إعطاء مجال لهما للتفكير والرجوع لبعضهما مدة قد تصل إلى 10 سنوات، بعدها عندما يصلان إلى طريق مسدود وإلى يقين من عدم إستطاعتهما إصلاح بعضهما والعيش معاً عندها فقط يعطى لهم الطلاق.

لأن القيام بهذه الاجراءات قد تغير الحالة والوضع ويرجع كل شيء على وضعه الطبيعي ولا يحدث الطلاق، فالنصائح والتدخل أو إعطاء فترة كافية للتفكير قد يرجعون إلى أنفسهم و يغيرون تفكيرهم فيعودوا لبعضهم؛ كما ان المدة قد تساعد في تغيير وضع بعض الحالات كالغائب أو الذي سبي يمكن خلال هذه المدة ان يرجع إلى بيته وزوجته، كما أن المريض يمكن ان يشفي من مرضه.

من الجدير بالذكر هنا أنه في كل الحالات عندما يكون لهم أولاد لا يعطى لهم الطلاق أبداً.

كما أن إعطاء الطلاق لا يعني ان الطرفين لهم حق الزواج مرة ثانية وإنما في الأغلب يعطى الحق بالزواج مرة ثانية فقط للطرف الذي ليس له ذنب في الطلاق.

القس الدكتور ابريم الخوري

راعي كنيسة مار عوديشو ومار قرداغ/ بغداد

المقال نشر أيضاً في مجلة بين النهرين، العدد 175-176 (44) 2016

[1] هي سارية المفعول ايضاً في كنيسة الشرقية القديمة.

[2] عبديشوع, الجوهرة, الباب 5, الفصل 2.

[3]عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, الفصل 2, قانون 2؛ عن المرحلتين راجع ايضاً, عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, الفصل 3, قانون 7-8؛  ايشوعبوخت, الفصل 3, قانون1؛ ابن الطيب, الفقه النصرانية1, الفصل 3, قانون 1, صفحة 165.

[4]عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف 3, ق7.

[5]عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, الباب 2, الفصل 7.

[6] المصدر نفسه, الباب 2, الفصل 2.

[7] التكوين 2: 18.

[8] تكلم عن المرحلتين مؤلفان اخران قبله, أول من ميز بين فترتين ولزوم حضور الكاهن فيها هو مار نرساي حيث قال بأنه “لا يمكن ان تخطب بنت لولد بدون حضور الكاهن, ولا ان تتزوج بدون بركته” إلا ان بعض الباحثين يقولون بان هذه الجملة قد لا تكون أصلية وانما قد تم إضافتها فيما بعد في ميامره.  MINGANA Alphonsi D., Narsai, Homily XVII, vol. I, 289.

[9] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف2, ق6.

[10]المصدر نفسه, ف2, ق2.

[11]المصدر نفسه, ف2, ق2-3.

[12] المصدر نفسه, ف2, ق3.

[13] هنا يثبت لنا ان الشهود يجب ان يكونوا دائماً مؤمنين.

[14] عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق8؛ انظر ايضاً ايشوع بوخت في ساخاو 3, ف 3, ق1.

[15] عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق1.

[16]  عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق2؛ أول مؤلف في كنيسة المشرق تكلم عن أحد أهداف الزواج هو مار أفرام في شرحه لسفر التكوين, عندما خلق الله ادم واخضع كل الحيوانات تحت سيطرته, لكن لم يرَ فيه مساعداً حقيقياً له لذلك خلق الله حواء لتساعده. قانونياً يعتبر مجمع اقاق (485) أول مجمع تكلم عنها في القانون (3) عندما تكلم عن الزواج الشرعي قبل او بعد الكهنوت, حيث يتكلم عن الهدف الأول ويقول ان انجاب الأطفال, قبل الكهنوت أو بعده, شيء جيد ومقبول عند الله.

[17] تكوين 1: 28.

[18] تكوين 2: 18.

[19] كورنثوس 7: 8-9.

[20] 1كورنثوس 7: 28.

[21]عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 3 وق5؛ شابو, مجامع كنيسة المشرق, مجمع بيث لافاط, 623-624؛ ساخاو3, ايشوع بوخت, ف2, ق9؛ ابن الطيب, الفقه النصرانية 2, ق3, ص1.

[22]عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق1, 3, 15؛ عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية,ف2, ق1, ن63؛ ساخاو3, ايشوع بوخت, ف2, ق10.

[23]  متي 9: 8.

 [24]كنيسة المشرق لا تعتبر الزواج احد اسرار الكنيسة السبعة, لعدة اسباب اهمها: اولاً, الزواج غير مرتبط ومهم لتدبير الإلهي؛ ثانياً, لا يوجد اي ” epiclesis” في طقس الزواج؛ ثالثاً, في حالات خاصة ومحددة يمكن حله وزواج من الغير مرة ثانية. اسرار كنيسة المشرق السبعة هي: الكهنوت, المعمودية, زيت المسحة, القربان “افخارستيا”, مغفرة الخطايا, الخمير المقدس “ملك”, علامة الصليب المحي.

[25] افسس 5: 32.

[26] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف2, ق4.

[27]عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف2, ق9؛ ساخاو2, ايشوعبرنون,ص128-129؛ طيماثيوس, ق30, ص78-79؛ ابن الطيب, فقه النصرانية، ق7,ص4.

[28]عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية,ف3, ق9.

[29] كنيستنا غيرت هذا القانون في مجمع مار ايشاي شمعون حيث حددت سن البنت 16 او حسب قانون الدولة.

[30] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف2, ق1, 3, 7؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق3, 9؛

[31]عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف2، ق17؛ ساخاو2, طيماثيوس1, ق34-35؛ ايشوع بوخت,ف3، ق6؛ ايشوع برنون, ق34, ق80؛ ابن الطيب, فقه النصرانية 1, ق9, فقه النصرانية 2, ق9.

[32] نرى هنا تعارض بين كتابيه.

[33] عبديشوع، مختصر القوانيين السهنادوسية, ق 14,15؛ ساخاو, طيمثيوس, ق26, 27؛ ايشوع برنون ق 10, 11, 119؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق15 ص 7.

[34]  قوانين النيقية العربية فقط تسمح بزواج الرجل من غير مسيحية, قانون 34؛ لكن مجمع مار دنخا سنة 1994 منع الرجل والمرأة من الزواج من غير مسيحي الا اذا تعمد الطرف الغير المسيحي.

[35]  عبديشوع , مختصر القوانيين السهنادوسية, ق 11, 10؛ عبديشوع، نظام الاحكام الكنسية, ف3, ق20؛ ساخاو, ايشوع برنون، ق22؛ طيماثيوس, ق37؛ ايشوع برنون, ق19؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2، ق7, ص5.

[36] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية,ف2, ق12؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3,ق11؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ف3, ق5؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق10,ص5.

[37] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية, ف3, ق3؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق3.

[38]  هذا المانع بدء في كنيسة المشرق من مار ابا سنة 544 حيث اعتمد على ما جاء في الكتاب المقدس في العهد القديم سفر اللاويين 18: 7-18.

[39] عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق4.

[40] عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق3, ن8.

[41]عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق16.

[42]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق1؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ف3, ق18؛

[43] متي 5: 32.

[44] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق24-25؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق22.

[45] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 19.20.23.27.

[46] عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق3, 15, 16؛ انظر ايضاً: ساخاو, طيماثيوس1, ق36, 44؛ ايشوع بوخت, ف2, ق 12, 15.

[47] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 1, 3, 17؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 1, 15؛ ابن الطيب، فقه النصرانية2, ق6, ص2؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ف2, ق10-12؛ ايشوع برنون, ق19؛ طيماثيوس 1, ق 36, 44.

[48]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 17؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق15؛ ساخاو, طيماثيوس1، ق31؛ ايشوع بوخت, ف2, ق11.

[49]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 18؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق3,ص4؛ هذا القانون تم تغيره في مجمع الثاني لطيب الذكر مار دنخا الرابع سنة 1978, حيث اصبحت الفترة انتظار 2 سنوات للذين ليس لهم اولاد و4 سنوات للذين لهم اولاد؛ اذا غير المدة وغير عندما لهم اولاد اعطى الرخصة للطلاق.

[50]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 21؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 13؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق11, ص11؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ف3, ق8.

[51] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 26؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 12؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق14, ص7؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ف3, ق9؛ طيماثيوس 1, ق33.

[52] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 10؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 15, 20؛  ساخاو, ايشوع برنون, ق19, 16-18، 22.

[53]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 5؛ ساخاو, ايشوع بوخت, ق80-83؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق10, ص5؛

[54]  عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق 14؛ ساخاو, ايشوع بوخت,ف3, ق4؛ ايشوع برنون, ق79؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق13, ص6.

[55] عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق 17, 26؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية، ف3, ق  14, 15؛ ابن الطيب, فقه النصرانية2, ق9, ص5؛ ساخاو, طيماثيوس1,ص82-85؛ ايشوع بوخت,ف2, ق11.

[56]  عبديشوع, مختصر القوانيين السهنادوسية، ف2, ق17.

[57] هذا القانون ملغي حالياً في كنيسة المشرق منذ سنة 1970 في مجمع مار ايشاي شمعون.

السنهادوس (ܣܘܢܗܕܘܣ) حسب قوانين كنيسة المشرق

السنهادوس (ܣܘܢܗܕܘܣ) حسب قوانين كنيسة المشرق

 

القس الدكتور أبريم الخوري فيليبوس

ܣܘܢܗܕܘܣ (ܟܢܘܫܝܐ المجمع: عرفه الآباء في مجموعاتهم القانونية على أنه اجتماع كنسي، فيه يجتمع الرؤساء مع بعضهم او يجتمعون مع  المؤمنين، وقد شرحوه ووضحوه بمثال من الطبيعة، عندما قالوا عنه، انه كاجتماع الشمس او القمر مع النجوم[1].

حسب القوانين هناك شكلان من الاجتماع:

 الاول، اجتماع المؤمنين مع رؤسائهم، من أساقفة ومطارنة، مثلاً.

والثاني، اجتماع رؤساء الكنيسة فيما بينهم، كاجتماع الاساقفة والمطارنة مع بعضهم، اواجتماعهم مع رئيسهم البطريرك.

ويسمى كلا شكلي هذا الاجتماع، بالمجامع السنهادوسية[2]، الا أن المجامع السنهادوسية التي تتضمن الاساقفة والمطارنة مع البطريرك غالباً ما تدعى بالمجامع الكبيرة، العظيمة او المقدسة[3]، وعليه نستنتج ان العنصر الاساسي لكي يدعى اجتماع ما بالسنهادوس بان يكون مع الرئيس الكنسي سواء كان رئيساً محلياً كالاسقف اوالمطران او رئيساً عاماً كالبطريرك.

 

متى تسمى القوانين سنهادوسية وتكون سارية المفعول؟ هل القوانين او الكتب القانونية التي يضعها احد المؤلفين القانونين، الاساقفة، المطران او البطريرك تُسمّى قوانين سنهادوسية؟

 

إنّ أيّ قانون لا يتم إقراره او لا تتم الموافقة عليه في مجمع سنهادوسي، لا يعتبر قانوناً سنهادوسياً، وليس له مفعول على المؤمنين. فاذا كتب مؤلف ما، قانوناً او مجموعة قوانين، ووافق عليها الاساقفة والبطريرك في مجمعهم السنهادوسي، فعندها يتم إدراجها ضمن القوانين السنهادوسية للكنيسة، وتكون سارية المفعول على الجميع، مثل القوانين التي كتبها كل من ” مار طيماثيوس الاول، ايشوعبرنون، ايشوعبوخت، عبديشوع الصوباوي وغيرهم” والتي وافق عليها المجمع فيما بعد، وأُدرجت ضمن القوانين الرسمية للكنيسة، مع القوانين الأخرى التي تم اقرارها في المجامع الكنسية)[4].

 

غاية او اهمية المجمع: للمجمع دور مهم وأساسي في الكنيسة حيث يعتبر السلطة التشريعية الوحيدة في سَنّ، تغيير او إبطال القوانين الكنسية واصدار القرارات والتوجيهات حولها، كما وله سلطة قضائية حيث ،تصدر منه الاحكام النهائية بالاخص في القضايا المتعلقة بالاكليروس، كما وله دور تنظيمي وراعوي وايماني حيث من خلاله يتم وضع وتنظيم الطقوس و يُعنى بتنظيم الشؤون الإدارية والراعوية للأبرشيات ويتناول مسائل تخص الإيمان وتثبيت الإيمان القويم؛ وكما تناقش وتصلح فيه كل القضايا الخاصة والمهمة للبطريركية ولبقية ابرشيات والمؤمنين، وفيه تبطل كل الخلافات والشكاوي[5]. كما ومن خلاله يتم ترشيح واختيار البطريرك.

حدّدت القوانين السنهادوسية لكنيسة المشرق ثلاثة أنواع من المجامع، وهي: المجامع الأسقفية، المجامع المطرابوليطية و المجامع البطريركية.

ا- المجمع الأسقفي (الأبرشي): هو المجمع الذي يجتمع فيه الأسقف مع مؤمني أبرشيته أو مع الرهبان في الأديرة التي هي تحت سلطته الإدارية. وتقع على عاتق خورأسقف الابرشية إعلام وجمع المؤمنين والرهبان في هذا المجمع.

عدد المجامع وأوقاتها : أوجبت القوانين كل أبرشية من أبرشيات كنيسة المشرق أن يجتمع أسقفها مع مؤمني أبرشيته مرتين في السنة في مجمع رسمي، على أن يكون الاجتماع الأول في الشتاء والثاني بعد عيد القيامة[6]. بينما عليه أن يجتمع مرة واحدة في السنة مع رئيس ورهبان الأديرة الخاضعة لسلطته، وكلما رأى الخورأسقف أنّ ذلك ضروري[7].

المشاركون في المجمع:  من حق وواجب المؤمنين واكليروس الأبرشية جميعاً أن يشاركوا فيه، كما ويجب أن يكون مع الأسقف في هذا المجمع أركذياقونه وخورأسقفه، أمّا مع الرهبان فيجتمع الأسقف مع الخورأسقف ورئيس الدير والرهبان.

غاية المجمع: غاية المجمع هي بالدرجة الاولى تنظيمية وراعوية، ففيه تصدر التوجيهات للمؤمنين وللكنائس ورعاياها لتنظيم الأمور المهمة والضرورية للأبرشية، وفيه يقدم المؤمنون الاحترام للأسقف ويشاركون معه في الأسرار الإلهية ويقبلون منه البركة[8]، و يقرأ عليهم الخورأسقف القوانين الكنيسة وقوانين الاديرة[9]. وإن أُهمل هذا النوع من المجامع في كنيستنا إلا أنه ضروري جداً للمؤمنين وللأبرشية والكنيسة بصورة عامة، ففيه تُنظم القضايا المهمة لخدمة الأبرشية وتُحلّ جميع الإشكالات وفيه يكون الأسقف قريباً من المؤمنين والاكليروس فتستمع الرئاسة الكنسية الى اقتراحاتهم وحاجاتهم إلى المجمع المطرابوليطي او المجمع العام مع البطريرك، فبهذا يشترك المؤمنون أيضاً بصورة غير مباشرة في المجمع العام برئاسة البطريرك من خلال توصيل حاجاتهم ومقترحاتهم.

ب- المجمع المطرابوليطي: بعد اجتماع أساقفة المدن الصغيرة مع مؤمني أبرشياتهم ومع الرهبان فقد أوجبت عليهم القوانين ان يجتمعوا مع مطرانهم في مكان يحدده المطران[10].

عدد وأوقات المجمع: حسب المجامع الشرقية ينعقد المجمع مرة واحدة في السنة وذلك في شهر أيلول[11]؛ وحسب القوانين الغربية والمسكونية فيكون المجمع مرتين في السنة؛ وقد حددت اوقات عقدها بعض القوانين، حيث أنّ الأول يكون بعد ثلاثة أسابيع من عيد الفصح، والثاني في منتصف تشرين الأول[12].

المشاركون في المجمع: يشارك في هذا المجمع كلّ أساقفة الأبرشية مع مطرانهم، كما يحق بل يجب ان يشارك فيه أيضا الخورأسقف والأركذياقون؛ حيث يوضع كرسي في وسط الأساقفة عليه الإنجيل والصليب، ويجلس الأركذياقون من اليمين والخورأسقف من اليسار[13] ، وبدون مشاركتهم لا يمكن للأسقف أو المطران عقد مجمع فيما بينهم أو مع المؤمنين[14].  لكن لا يحق للقساوسة وما دون درجتهم أن يشاركوا او يتنصتوا إلى المجمع وذلك تحت طائلة العزل والحرم[15].

غاية المجمع: ترتيب، تنظيم وإصلاح كل القضايا التي تخص الأبرشيات والأساقفة وفض وحل النزاعات والخلافات والمشاكل في الأبرشيات بين الأساقفة أو بينهم وبين الاكليروس والمؤمنين وإصدار الأحكام بحق المخالفين[16].

ج- المجمع البطريركي: بعد اجتماع أساقفة كل أبرشية مع المطران رئيس أبريشيتهم، فقد ألزمتهم القوانين ان يجتمعوا جميعاً في مجمع عام يجتمع فيه أساقفة ومطارنة كل الأبرشيات مع البطريرك رئيسهم الأعلى.

عدد وأوقات المجمع: هناك اختلاف بأوقات المجامع البطريركية وعددها بين القوانين الشرقية والغربية أو المسكونية؛ حيث يكون مرة بالسنة حسب القوانين الغربية[17]؛ أما القوانين الشرقية فنتيجة الاضطهادات وبعد المسافات ومخاوف الطرق فقد حددته القوانين كل أربع سنوات[18]. وكلما اقتضت الأمور او الحاجة التي يدعى اليها البطريرك. على أن يكون دائماً قبل الصوم الكبير من تلك السنة[19].

المشاركون في المجمع: يشارك في هذا المجمع كل الأساقفة والمطارنة في كل الأبرشيات، ففي هذا المجمع لا يحق للكاهن المشاركة فيه ولا حتى الخورأسقف والأركذياقون[20]. حيث يقوم الأسقف قبل البدء بالمجمع وينادي بصوت عال ومسموع كلّ من ليس أسقفاً ويبقى في هذا المكان موقوفاً بكلمة الله، كما ويكون موقوفاً كل من يسمع من الأبواب والنوافذ، عندها يغلق الباب ويبدأ المجمع[21].

إلزامية الحضور: تشترط القوانين السنهادوسية على الأساقفة والمطارنة جميعاً الحضور والمشاركة في المجمع وذلك تحت طائلة العزل، إلا في الحالات الاستثنائية المنصوص عليها في القوانين، أهمّها المرض والعجز وبعد المسافة[22]. ومع ذلك فكثيراً ما كانت ظروف البلاد القاسية وبعد المسافات وصعوبة الموصلات وعمر الأساقفة المتقدم تمنع حضور الكثير منهم[23].

هناك ستة مطارين أوجبت عليهم القوانين الحضور دائماً دون عذر، هم: مطران عيلام، مطران نصيبين، مطران البصرة، مطران آثور، مطران بيث كرماي، مطران حلوان. ومن الجدير بالذكر ان السنهادوس قد أكرم هذه الكراسي بان جعل رسامة البطريرك على يدهم[24].

المطارنة البعيدون: في حال كون المطارين البعيدين لا يمكنهم الحضور للمشاركة في المجمع البطريركي، نتيجة الاضطهادات أو مخاوف الطريق أو تقدم العمر مثل (الصين، الهند، فارس، ماروزايي، شام، بيث رازيقايي، سمرقند)، فهم ملزمون أن يرسلوا كلّ 6 سنوات رسالة الوحدة والطاعة والخضوع إلى البطريرك، وفيها يبينون أيضاً نشاطات وحالة أبرشياتهم والأمور التي تحتاج الى الإصلاح[25].

إلزامية القوانين والقرارات: إن القرارات والقوانين التي تصدر من المجمع يجب أن تُوقّع خطّيا وتُختم[26] من قبل جميع المشاركين، كما ويجب أن يحتفظ كل عضو من أعضاء المجمع المقدس بنسخة من القوانين والقرارات والأعمال، وعليه أن يسهر على تنفيذ وتطبيق ما تتضمنه[27]. وقرارات وقوانين المجمع تكون ملزمة أعضاء المجمع المقدس ولجميع الاكليروس والمؤمنين، ولا يحق لأحدهم أن يُظهر الموافقة إبان انعقاد المجمع، ثم يتنصل من مسؤولية التأييد والتنفيذ بعدئذ بحجة أنّه لم يكن موافقاً، لأنّ حرية إبداء الرأي مطلوب في المجامع. وقد وضعت المجامع عقوبات صارمة ضد من يعارض المجامع وقراراتها، فثمة الحطّ من الدرجة والتجريد من المنصب والإيقاف عن الخدمة وثمة الشجب والقطع عن الشركة والحرم[28].

القس الدّكتور أبريم الخوري فيليبوس

كاهن كنيسة مار عوديشو ومار قرداغ- بغداد

[1]  ابن الطيب2, ق1, ص78؛ عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف1, ق1؛ عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, ف 4, ق2.

[2] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف1, ق1.

[3] مجامع كنيسة المشرق, مار اسحق, ق1؛ مار يهبالاها ص 41-43؛ مار ابا, ق 14؛عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية، ف 8, ق19.

[4] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف1, ق1؛ ابن الطيب, فقه النصرانية ج2, ق1, ص78.

[5] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف 8, ق19؛ ابن الطيب, ج1, ق15 ص115؛ ابن الطيب ج2, ق25 ص 126؛ مجامع كنيسة المشرق, مار اسحق, ق6؛ مار كوركيس الاول, مقدمة؛ مار طيماثيوس الاول, ق4..

[6] مجمع نيقية حددها قبل صوم الكبير وفي الخريف, قانون 5؛ ابن الطيب ج1, ق 5 ص 26؛ اما مجمع انطاكيا فقد حددها الاول بعد ثلاث اسابيع من عيد القيامة اما الثاني ففي 15 تشرين الاول: ابن الطيب ج1, ق 20 ص 64.

[7] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف 9, ق 10.

[8] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف 9, ق 10.

[9] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف6, ق7؛ مجامع كنيسة المشرق, مجمع ايشوعياب, ق31.

[10] ابن الطيب, ق19, ص80؛ مجامع كنيسة المشرق, مجمع مار باباي 11.

[11] مجامع كنيسة المشرق, مجمع مار باباي ومجمع مارخزقيال ق 16؛ ابن الطيب2, ق22, ص126.

[12] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف9, ق11؛ مجمع نيقية ق9, انظر عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, الباب1 الفصل 6 ق 9؛ ابن الطيب 1, ق20, ص64.

[13] ابن الطيب2, ق27, ص127.

[14] ابن الطيب2, ق27, ص127؛ ابن الطيب1, ق 67, ص 52؛ قوانين مار ايليا, قانون 68 من نيقية العربية.

[15] عبديشوع, نظام الاحكام الكنيسة القانون, الباب 1 الفصل 6, القانون 67.

[16] مجامع كنيسة المشرق, مجمع مار يوسف, ق 16؛ مجمع حزقيال, ق 16؛ عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, الفصل 8, ق19.

[17][17] مجمع نيقية, ق 9, انظر عبديشوع, نظام الاحكام الكنسية, الباب1, الفصل 6, ق 10.

[18] هناك تغير مستمر بعدد المجامع البطريكية في تأريخ كنيسة المشرق حيث تغير من مرتين في السنة الى مرة كل سنة او سنتين ثم واخيراً كل اربع سنوات, الا ان الكنيسة لم تلتزم بهذه المواعيد لاسباب التي تم ذكرها. انظر ابن الطيب2, ق28, ص128؛ مجامع كنيسة المشرق, مار اسحق, ق6 , مار باباي , مار حزقيال ق16, ايشوعياب, ق30.

[19] بعض القوانين في المجامع الاولى حدده في التشرين الثاني, الا ان مار باباي هو اول من جعله قبل الصوم الكبير؛ عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف 8, ق 19؛ مجامع كنيسة المشرق, مجمع مار باباي؛ ق11, مار حزقيال, ق15؛ مار ايشوعياب, ق 30.

[20] قديما كانوا المؤمنين وبقية الاكليروس ايضاً يشاركون فيه سواء ممثلين عن اسقفهم او عن الشعب, راجع, مجامع كنيسة المشرق الموقعون في نهاية المجامع, ابن الطيب2, ق27, ص127.

[21] ابن الطيب1, ق67, ص 52؛ قوانين ايليا, ق 68 من نيقية العربية؛ عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف8, ق19.

[22] ابن الطيب1, ق40, ص69؛ ابن الطيب2, ق26 ص 127؛ مجمع باباي في ابن الطيب1, ص94؛ مجامع كنيسة المشرق, مجمع ايشوعياب, ق27, ص30.

[23]  ابن الطيب2, ق28, ص128.

[24] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية، ف 8, ق 19.

[25] ابن الطيب2, ق28, ص128

[26],انظر نهاية كل المجاميع.

[27] مجامع كنيسة المشرق, مار اسحق, ق 10؛ مار يوسف, ق6؛ مجمع ايشوعياب, ق34- 35.

[28] عبديشوع, مختصر القوانين السنهادوسية, ف 8, ق 19؛ نيقية, ق 3؛ ابن الطيب 2, ق26, ص127.

أناجيل مار عبديشوع الصوباوي الْمُسَجَّعَة

لتحميل الملف بصيفة بي دي أف، يرجى الضغط على الرابط التالي:

https://bethkokheh.assyrianchurch.org/wp-content/uploads/2016/07/16-06-30.pdf

 

 

16-06-30

عبد الله بن الطيب

عبد الله بن الطيب

الاب يوسف جزراوي

هو ابو الفرج عبد الله ابن الطيب البغدادي[1]. ابصر النور في بغداد سنة 980 م. نال العلوم على يد ابن زرعة[2] وابن الخمار[3].

عُرف منذ صباه بحبه للمعرفة، فأجهد نفسه على الدراسة والتعلم ومال إلى التدين والزهد حتى صار قسيسًا[4]. ونظرا لعلمه ومنزلته ولما تحلى به من صفات نبيلة اتخذه الجاثاليق ( البطريرك بلغة اليوم ) يوحنّا بن نازك[5] جاثاليق كنيسة المشرق (ت 1022 م ) كاتبًا له وأمينًا لسرّه. وبقيَّ في هذا المنصب حتّى في عهد الجاثاليق ايليا الأول[6]. حضيَّ بمحبة حاكم بغداد والبصرة جلال الدين البويهي المتوفي سنة 1044 م.

عاش ابن الطيب في بغداد على أيام الخليفة القادر ( 991 – 1031 م )[7]. والخليفة القائم ( 1031 – 1075 م ) من السلالة البويهية. تجمع المصادر التي في حوزتنا على ان ابن الطيب هو واحد من أبرز رجال مدرسة بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي. وإنه علم من أعلام تلك المدرسة العريقة التي قدمت الكثير والكثير في زمانها.

إنه القسيس الفاضل والطبيب والمُعلم والفيلسوف الحكيم، اللاهوتي والمُشرّع القانوني والمُصنّف القدير والمترجم البارع. إنّه إذا جاز التعبير موسوعة بكل ما في الكلمة من معنى، فلم يقتصر نشاطه على مجال واحد من مجالات العلوم والمعارف.

عرف عنه بانه ذو احساس مُرهف كما امتاز بصفة التفنيد، بحيث كان يُفند الغاز أعدائه.

وصفه ابن أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ” بأنه كاتب الجاثاليق ( البطريرك ) ومن المتميزين بين نصارى بغداد، نال عن جدارة لقب شيخ الأطباء “. كما وصفه القفطي في كتابه تاريخ الحكماء ( ص 23 ) بما يلي: ” …. فيلسوف عراقي فاضل مطلع على كتب الأوائل واقاويلهم، مُجتهد في البحث والتفتيش، وبسط القول، اعتنى بشرح الكتب القديمة في المنطق وأنواع الحكمة من تواليف ارسطو طاليس، ومن الطب كتب جالينوس، وبسط الكتب التي تولي شرحا بسيطًا شافيًا قصد به التعليم والتفهيم “.

كما انه فسر الكتاب المقدس بكامله ووضع مقالات أملتها عليه الظروف[8]. من هذا نفهم بأن صاحبنا كان مُطلعًا على امهات وبطون المصادر وعرف كيف يقرأ حاضره على ضوء كتاباته وحكمة القدماء، وبالذات حكمة اليونان، فقد كان أشبه بهمزة الوصل في نقل الثقافة اليونانية إلى العربية بواسطة شقيقتها السريانية.

تذكر المصادر انه صاحب حلقة درس في المستشفى العضدي يُدرّس فيها طلبة العلم ومنه ينهلون العلوم والمعارف. وفيه يُعالج المرضى ايضًا. كما كان له أيضًا حلقة درس في بيت الحكمة البغدادي يُعلم فيها الفلسفة والمنطق والطبيعة[9].

كان يُتقن اللغة السريانية والعربية واليونانية، وقد أخطأ من قال بإجادته للغة اللاتينية.

لبراعته في السريانية وتمكنه منها قام بنقل كتاب الدياطسرون[10] من السريانية إلى العربية، علاوة على ذلك، نقل بعض من الترجمات المكتوبة بالسريانية الى العربية، تسهيلاً للمُطالعين الذين لا يحسنون قراءة السريانية. ومن اهم كتبه التي وضعها بالعربية هي ” فقه النصرانية ” وكتبًا في الإرث وشرحًا للعهدين القديم والجديد أسماه ” فردوس النصرانية “[11].

له قدرة كبيرة على التصنيف في شتى فنون المعرفة. وما هو مُتفق عليه بأن مُعظم تصانيفه كانت مُتداولة والتي مازال العديد منها لم يرى النور هي من إملاء لفظه على طلبته وليست بخط يده.

حظيت مؤلفاته بالشهرة وتداولت بين الأطباء والفلاسفة والحكماء ووصلت شهرته إلى أقاصي الأرض حتّى بات محبو العلم والبحث والحكمة يقصدونه من سائر البلدان والإستفادة منه والإشتغال عنده، وفي هذا الصدد له قصّة جميلة مع رجلين طالبي علم من بلاد العجم[12].

عالج المرضى في بيمارستان العضدي[13] وعلم فيه سنين عديدة علوم الطب وكان الخليفة القائم بأمر الله ( ت 1075 م ) قد عينه رئيسًا على الأطباء فيه. عُرف ايضًا عن ابن الطيب بحبه للكنيسة، كنيسة المشرق العريقة، فقد حمل همّها، إذ يعرف هذا الكاهن الفاضل في مُقدمة كتابه فردوس النصرانية حال الكنيسة التي كانت تُعاني من الجهل واللامبالاة، فكتب كلمات تعكس ما كان يجول في فكره إزاء واقع كنيسته في عصره فيقول: ” لما شاهدتُ علوم الكنيسة المقدسة وقد دثرت ولم يبق احدًا من الكهنة الأكابر يفتح كتابًا ولا يقرأ تفسيرًا ولا عالمًا، إلا النفر القليل، فرأيتُ أن أجمع سائر تفاسير الكتب الحديثة والعتيقة باختصار في العربية “[14].

توفيّ ابن الطيب في بغداد سنة 1043 م ودفِن في كنيسة دُرتا[15]. ويذكر العلامة الأب يوسف حَبّي ( رحمه الله)، انه كان قد كُتبت على قبره عبارة فيلسوف شهير، وقد خربته الفيضانات سنة 1300 م[16].

انتقل ابن الطيب إلى دار البقاء عن عمر ناهز الثالثة والستين عامًا ( 980 – 1043 م )، لكنه ترك بعده إرثًا عميقًا، قد حفر لاسمه البقاء المجيد.

ترك بصماته في اكثر من حقل وله آثار خلّدت اسمه إلى يومنا هذا، ومن الممكن تقسيم آثاره إلى أربعة أقسام أساسية وهي: الطب، الفلسفة، الفقه والتفاسير الكتابية، متفرقات[17]. ولا نميل للتوسع بها لأن اكثر من باحث كان قد تصدى لها مُسبقًا، لذا تلافينا الإعادة والتكرار، وإيمانًا منّا بأننا لن نضيف إليها شيئًا جديدًا، فاكتفينا بذكرها فقط.

من تفاسيره الكتابية الأخيرة التي رأت النور هي تفسيره (تعليقه) على سفر الأمثال (حكمة سليمان)[18]، الذي لم يُقدم فيه شروحات واسعة، بل تفاسير قصيرة وأحيانًا يقدمها بدون أي تسلسل منطقي، ويكتفي أحيانًا بشرح بعض الكلمات التي قد تكون غامضة المعاني إن كانت عربية أو سريانية[19]. كذلك تفسيره لرسالة بولس الأولى إلى الكورنثيين[20]. ويشير البعض إلى أن ابن الطيب لم يكُن متمكنًا من اللغة العربية، زاعمين ان مَن يطّلع على كتاباته أو تفاسيره التي هي في مُتناول اليد سيرى بأنها لم تخلُ من الأخطاء! ولعل السبب يكمن بأن معظم آثاره التي وصلت إلينا هي عبارة عن دروس قدمها لتلاميذه، أو إجابات شفهية عن أسئلة تلاميذته، فمثلا: تفسيره لسفر الامثال قد وصل إلينا عبر ملاحظات تلاميذه المُدونة تحريريًا. ومن يطّلع على آثاره سيرى انها لم تخلُ من التكرار والإجترار ايضًا، هذا ما إلتمسناه في قرائتنا لمقالته في ” التثليث ” التي عمل على تحقيقها ونشرها الأب سمير خليل اليسوعي، وكذلك من تفسيره لسفر الأمثال ( النص العربي ) الذي ذكرناه سلفًا. ومهما يكن من أمر فان ابن الطيب كما أسلفنا يُعد أحد أعمدة النهضة الفكرية والثقافية والروحية لبغداد ولكنيسة المشرق في عصره.

ابن الطيب ودوره في النهضة الفكرية والثقافية لبغداد

وضع ابن الطيب حجارة رائعة في صرح الحضارة العربية في عصرها الذهبي إبّان العهد العباسي، إذ اتسمت هذه الفترة بالإستقرار، مما شجع على تقدم الفكر والعلوم بسبب انفتاح خلفاء بني العباس. ففي عهدهم دخلت مسيحية المشرق عصرًا جديدًا، بعد اضطهادات وسفك دماء وظروف صعبة في أيام حكم ملوك الفرس، ومن يتتبع تاريخ هذه المرحلة سيرى ان كل شيء كان يبدو مُهيئًا لانفتاح عهد حضاري جديد، فانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب الفكر والعلم والأدب، فتمكنوا من إظهار مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان خلفاء بني العباس لهم.

فيشهد لنا التاريخ بان اطباء الخلافة العباسية كانوا عادًة من المسيحيين، وكانت العلاقة بينهم وبين الخلفاء علاقة ود واعتزاز. ولا مغالاة ان قلت: بأن أغلب الخلفاء كانت تربطهم باطبائهم علاقة صداقة واحترام، ويطيب لنا أن نتساءل: هل كان ابن الطيب طبيبًا شخصيًا للخليفة القائم؟ ولمَ لا! فنحن نرجح ذلك، فهذا الخليفة بالذات كان يكن له احتراما جمًا ويثق به ثقة مُطلقة، لذا كان قد عينه رئيسا على الاطباء في بيمارستان العضدي، وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على مكانة الرجل بين أطباء عصره وتقدمه عليهم. فليس من المعقول أو من المقبول أن لا يستشيره الخليفة في اموره الصحية المُستعصية وهو من ابرز أطباء عصره وأجهدهم[21].

ويفيدنا التاريخ ايضًا بأن الخلفاء بذلوا اموالاً طائلة للحصول على كتب العلوم والفلسفة من بلاد الروم ومن الحضارة اليونانية، فقاموا بجمع النصوص القديمة وقام المشتغلون بتحقيقها ونقل محتواها إلى السريانية والعربية بعد إجراء التعديلات وليست “تحريفات “، لاسيما فيما يخص المُعتقد. وتجدر الإشارة ان طبيعة العمل كانت جماعية، عمل أسهم فيه الكثيرون.

ختامًا

سيبقى ابن الطيب واحدًا من اولئك الذين ساهموا في إثراء الأدب السرياني والتراث العربي، فقد كان جسر الصلة بين اليونانية والسريانية والعربية، ويمكننا التأكيد على أن العصر العباسي الذي اتسم بتفتح عقلية الفاتحين والحاكمين واحتضانهم للعلماء واصحاب الفكر قد مرَّ بحقبتين كمّلت إحداهما الأخرى، فالحقبة الأولى كانت كانت عصر الغرس وبذر البذور، فجاءت الحقبة الثانية للحصاد وجَني الثمار، واننا نضع ابن الطيب في الحقبة الثانية، فقد عمل على قراءة النصوص المُترجمة من قِبل المُترجمين الأوائل وتفسيرها وجني الثمار الناضجة، إذ كان أبو الفرج قد صب جهده لتصحيح الترجمات السابقة لما احتوته من أخطاء، والسبب في ذلك ان الذين ترجموا من اليونانية لم يكونوا يدركوا بشكل ممتاز الكتب التي يعملون على نقلها من اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية، ناهيك عن التحريف الذي تم خلال عملية النقل هذه التي تتم عبر اللغات الثلاثة التي تم ذكرها قبل قليل.

وما هو مُتفق عليه ان الترجمة فن شاق، فهي اصعب من التاليف لأن المؤلف حرّ في تصوير وتجسيد وتنسيق ألفاظه وافكاره. أما المُترجم والناقل فهو مُقيّد بمعاني النص الأصلي وألفاظه، ولا مغالاة ان قلت ان ابن الطيب كان من اولئك الذين استوعبوا اللغة الفلسفية وتمكنوا من سبر اغوارها مُستفيدًا من ضبطه للغة الفلسفية المُترجم منها وإليها.

كثيرًا ما غالى المؤرخون والباحثون فنسبوا كل فكر وعلم ونهضة تمت إلى الحقبة الأولى! نحن هنا لا نريد أن نُقلل من شأن هذه الحقبة وننكر فضلها في بعث حركة الترجمة، لكننا نود تعميم حقيقة جلية مفادها: ان جهود الحقبة الأولى نضجت، بل ازدهرت في الحقبة الثانية، وفي هذه الحقبة بالذات غدت بغداد أم العلوم[22]. ولا يمكن أن تكتمل ملامح اللوحة الزاهية التي رسمها علماء ومُترجمي وأطباء بغداد دون الوقوف على جهود (مسيحيّ بغداد)[23] وخصوصًا على جهود ابن الطيب الذي ترك بصماته في أكثر من حقل، خلال هذه الحقبة المُشرقة.

أخيرًا، ابن الطيب، الكاهن الفيلسوف، الطبيب والمُفسر المسيحي العراقي المُبدع، قد عرفناه طبيبًا أمينًا لمهنته وكاهنًا مُحبًا لدعوته وكنيسته، وعراقيًا أصيلاً لبلده، وحكيمًا مولعًا بحب الفلسفة والمنطق، ولاهوتيًا ومُفكرًا كتابيًا، ومُصنفًا ومُترجمًا، انه والحق يُقال صرح حضاري ذو قيمة كبرى، ليس من السهولة نكرانه أو التخلّي عنه. إنه متعة للدارسين وزاد لطريقهم.

[1] ذكر الاب سمير خليل اليسوعي في تحقيق مقالة ابن الطيب في التثليث المنشور في مجلة بين النهرين عدد 1976، 16 ص 365، بأنه من عباد. من المحتمل ان جذوره تعود لهذه القبيلة المسيحية، لكنه بغدادي الاصل.

[2] هو ابو علي بن اسحق بن زرعة بن مرقس بن زرعة من مسيحي بغداد البارزين في عصره. كان ماهرًا في علم المنطق والفلسفة وواحدًا من النقلة الجيدين. رأى النور في بغداد سنة 941 م. كان العامة يكنون له احترامًا جمًا تقديرًا لمنزلته العالمية، فتتلمذ على يده كبار الاطباء مثل ابن كشكر والحراني وابن الطيب. توفي سنة 1006 م بحسب رواية ابن النديم.

[3] (( وهو الطبيب ابو الخير)) ابصر نور الحياة في بغداد سنة 942 م تميز باتقانه السريانية والعربية. وامتاز ايضًا بحذاقته بصناعة الطب والتبحر في الحكمة. تتلمذ على يد يحيى بن عدي، نقل كتبًا كثيرة من السريانية الى العربية. وصفه ابن ابي صبيعة: ” لقد وفى صناعته ( الطب ) حقها بتواضع للضعفاء وبتعاظم على العظماء “. وصفه الأب لويس شيخو اليسوعي في كتابه علماء النصرانية في الاسلام بما يلي: انه في نهاية الذكاء والفطنة والاطلاع بعلوم اصحابه. (علماء النصرانية ص 63 ).

[4] ذكر الأب ( المطران ) جاك اسحق في تحقيق مقالة في التوبة لابن الطيب: تؤكد مخطوطات عدّة بأنه راهب وقسيس. ( انظر مجلة بين النهرين ع 67، 1989، ص 41 ). وكذلك اتت على ذكر هذا الرأي الاخت لوسي شماس في اطروحتها عن تفسير حكمة سليمان ( سفر الأمثال ) لابن الطيب، 1999 ص 3. لكننا لا نميل إلى هذا الرأي، لان ابن الطيب وبحسب ما فهمناه من المصادر كان يعيش في بيته الخاص به. وهنا نتساءل: أليس الرهبان يعيشون في صوامعهم داخل أديرتهم؟ لذا فابن الطيب كاهنًا من كهنة كنيسة المشرق وليس راهبًا ولم أطالع مصدرًا قديما أو حديثًا يروي خبرًا عن ترهب ابن الطيب، أو ينعته بالراهب، بل قسيسًا فاضلاً. ومع ذلك نحن لا نجزم الراي وندع الباب مفتوحًا للباحثين الأفاضل.

[5] من معلثا، ترهب في دير ايشوعياب ثم أقيم رئيسًا للدير نفسه. رسمه الجاثاليق ماري بن طوبا أسقفًا على الحيرة وعلى أثر وفاة الجاثاليق يوحنّا بن عيسى انتُخب جاثاليقًا ونُصب في 19 تشرين الثاني 1012 م. توفيّ بتاريخ 21 تموز 1012 م. بعد سنوات من الخدمة شهد خلالها ظروفًا صعبة.

[6] أبصر نور الحياة في كرخ جذان، تلقى العلوم في مدرسة المدائن ثم رُسم كاهنًا. أقامه الجاثاليق يوانيس أسقفًا على ابرشية الطيرهان. انتُخب جاثاليقا في 16 حزيران سنة 1028 م على اثر وفاة الجاثاليق ايشو عياب الرابع. عرف عنه بعمق الثقافة وحسن الإدارة. وضع مقالات في الحق المدني والإرث والزواج. توفيّ في 6 أيار شنة 1049 م ودفن في دار الروم في كنيسة السيدة. وتذكر المصادر انه قضى أواخر حياته مُقعدًا ( جالسًا ) لا يقوى على الحركة، حتّى انه رسم احد الاساقفة وهو جالس على الكرسي.

[7] هو القادر بالله ابو العباس أحمد بن اسحق ابن المقتدر. عرف بمحبته للعلوم، فهو الذي أوعز سنة 993 م إلى الوزير ابي نصر سابور بن أردشير أن يبتاع دار في الكرخ ويعمرها وقد سمّاها ” دار العلم ” وجعلها في خدمة العلماء ووقف بها كتبًا كثيرة. اتسمت فترة خلافته بالفوضى وكانت أحوال المسيحيين لا تُحسد عليها. توفي سنة 1031 م.

[8] انظر مقال النفيس للأب د. يوسف حَبّي: أبو الفرج عبد الله بن الطيب، مجلة المجمع العلمي العراقي، المُجلد 33، ج 2، 1982، ص 252.

[9] د. علي حسين الجابري: أبو الفرج بن الطيب البغدادي، بغداد 2002، ص 180.

[10] الانجيل الذي جمعه ططيانوس الآشوري من البشائر الأربعة في القرن الثاني الميلادي وجعله في كتاب واحد بالدياطسرون.

[11] نقلا عن كتاب الأب البير أبونا: تاريخ الكنيسة الشرقية ج 2، 225.

[12] راجع الكتاب النفيس للأب د. بطرس حداد: عِبر من كتب التراث، بغداد 2003، ص 22 – 25.

[13] أسسه عضد الدولة بن بويا الذي كان محبًا للعلم والثقافة، فجمع الأطباء والعلماء والحكماء فيه. وكلمة بيمارستان فارسية مركبة من كلمتين الأولى ( بيمار ) وتعني مريض أو مرضى والثانية ( ستان ) التي تعني مكان أو دار، فهي إذا مكان أو دار للمرضى فقط، بل كانت ايضًا معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب. ( للمزيد انظر كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام لاحمد بك عيسى، دمشق 1929 ).

[14] من مقدمة الكتاب ص 1- 2 في مخطوطة الفاتيكان العربية التي تحمل الرقم 37.

[15] بالضم ثم السكون وتاء مثناة من فوق … وموضعها غربي دجلة مما يلي قطربل، أي من الشمال الشرقي من مشهد الكاظمين. ( للمزيد انظر كتاب الأب د. بطرس حداد: كنائس بغداد ودياراتها، بغداد 1994، ص 77 ).

[16] حَبّي: مصدر سابق، ص 215.

[17] ذكر الأب سمير خليل اليسوعي في تحقيق مقالة التثليث لابن الطيب: له مباحث عديدة في شتى الميادين من طب وفلسفة وتفسير للكتاب المقدس، وقانون كنسي ولاهوت ومؤلفات لاهوتية ايضًا مُتنوعة. إلا ان اثبات عقيدة الثالوث وهي كنه الإيمان المسيحي، شغله قبل كل شيء، ( المقالة المذكورة في الهامش 1 ، ص 365 ).

[18] نزولاً لرغبة مثلث الرحمات مار روفائيل الول بيداويد ( رحمه الله )، قامت الأخت لوسي شماس بتحقيق هذا العمل وتحليله والتعليق عليه استنادًا إلى مخطوطتين، احداهما محفوظة في مكتبة الفاتيكان، والأخرى في مكتبة نابولي الوطنية ( ولا أعلم كيف وصل النص إلى هناك ) ؟! ويُعد هذا النص الجزء الثاني من كتاب فردوس النصرانية لابن الطيب.

[19] انظر لوسي شماس، مصدر سابق، ص 18 وما يليها …. .

[20] انظر التفسير في مجلة بيبليا، ع 3، تموز – ايلول 1999، ص 45 وما يليها تحقيق الأب أيوب شهوان.

[21] نقلا عن كتابنا: عبد الله بن الطيب شمس لا تعرف الغروب ( مخطوط لم يُنشر بعد ).

[22] عن بغداد مدينة السلام وتسميتها ودورها في التاريخ، طالع مقالنا المنشور في مجلة ” نجم بيث نهرين “، المُجلّد العاشر، ع 4، شباط 2004، ص 59 – 63.

[23] ينبغي على القاريء العزيز ألا يخلط بين النصارى والمسيحيون، فالمسيحيين هم أتباع المسيح من الأمميين، اما النصارى حصرًا فهم اتباع المسيح من اليهود، لذلك فالنصرانية غير المسيحية. (طالع الأب البير ابونا: تاريخ الكنيسة الشرقية، ج 2، ص 1، 1993. والأستاذ حداد في مجلة المسَرّة اللبنانية، كانون الثاني، 1972، عدد 571، ص 74).

“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

الشماس سامي القس شمعون

ترك لاهوتيو كنيسة المشرق العظام وقديسوها تراثا عظيما لنا وللاجيال القادمة، من خلال كتابات روحية وفكرية أخذت موقعها المؤثر في الكتب الطقسية، ولتشدو بها الكنيسة في كل زمان ومكان، ولتصبح محورا لحياتها المسيحية. دخل الكلمة الى العالم بطريقة عجيبة من خلال التجسد والولادة من مريم العذراء من اجل رؤية امجاد ” صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة” ( كول 1: 15 )، و من خلال ابعاد فعل تجسد “إله الدهر خالق أطراف الأرض ” (اش 40 :28)، ادركنا صورة الانسان الحقيقية، بعد ان ظهرت دلائل بشرية والهية في شخص يسوع المسيح.

يسوع المسيح كان عظماً من عظامنا، ولحماً من لحمنا نحن البشر. كان طفلاً ضمن العائلة البشرية، ينمو ويتقدم “في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” ( لو 2: 52) لتحقيق الوعد المعطى لأبينا ابراهيم، بافتداء ابنائه. فمثلنا كان يركع ويصلي، (لو 6: 12 )، يعطش ( يو 19: 28 )، يجوع ( مت 4: 2 )، يبكي ( لو 19: 41 )، يحضر افراحا (يو 2 : 2 ) ينام مثلنا (مت8: 24 )، يتعب ( يو 4: 6 )، يحزن (مت 26: 37 )، يتألم (اش 53: 5)، واخيراً يصلب ويموت (مت 27: 50)، فهو بهذا انسان مثلنا، يشبهنا، في كل شيء ما عدا الخطيئة.

الا ان هذا الذي صلب قد قام، وبطبيعته الإلهية يدرك ما يدور في خُلدنا وخلد الاخرين. فهو ان كان مثلنا “من نسل المرأة” الا انه جاء ليسحق رأس الحية (تك 3: 15)، ويعلن بتجسده، قمة محبة الله للبشر من خلال مخطط لخلاص البشر واعادة صورته الممجدة لكن المفقودة لدى البشر.

المسيح، اذن هو الكلمة (يو 1 : 1 – 4 )، الاله المبارك إلى الابد (رو 9: 5 )، هو الله معنا (مت 1:23 )، إلـهنا (يو 20: 28 )، الرب ( يو 14: 9 )، رب السبت ( مت 12: 8 )، رب المجد (1كو 2: 8 )، رب الارباب ( تث 10: 17 )، يجلس عن يمين الآب (مز 110 : 1 )، منح البصر للمولود أعمى (يو 1:7- 9 )، غصن الرب ( اش 4: 2)، غصن البر ( ار 33: 15 )، تظهر الصفات الالهية في رئاسته ( مي 5 : 1 – 5 )، وغيرها الكثير من الالقاب والأوصاف.

ان القول بيسوع المسيح انسان فقط، هو نصف الحقيقة، والقول ان اله فقط هو النصف الاخر للحقيقة. فاذن يسوع المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد، وهذا هو سر التقوى العظيم (1 تي 3: 16 ). وايضاً هو قد عاش بيننا حياته البشرية الاعتيادية في بلدة الناصرة. يسوع المسيح هو الاله الكامل، والانسان الكامل، وهذا اللاهوت الذي يحمله، ليس ضد الناسوت، وان الاخير ليس ضد الاول ايضاً، وان مرَّت على صفحات التاريخ خلافات وانشقاقات حول فهم العلاقة بين هاتين الطبيعتين، او بين الأقانيم الالهية، فهي كانت نتيجة طبيعة البشر وقدرته على استيعاب وفهم هذه العلاقة.

لذا قام آباء كنيسة المشرق بوضع مؤلفات ضخمة ومتنوعة صارت دعامة أساسية في الكتب الطقسية، لتصبح ترسانة روحية وفكرية عظيمة لايمان الكنيسة. فعمل وجاهد كل فطحل من هؤلاء الاباء القديسين الذين وصلت اليهم دفة قيادتها، للتأثير في مسارها واعطائها زخماً روحياً وتراثياً مخلداً عبر الزمان. كانت نقطة انطلاق آباء الكنيسة هي يسوع المسيح لانه لم يكن انساناً فقط، بل إلها ايضاَ. وانصبت اجتهاداتهم بطرق كل سبيل لمعرفة الله عن طريق يسوع المسيح، فكتاب الخوذرا مثلاً، من الكتب الاساسية للسنة الطقسية ويعتبر في اللحظة نفسها كنزاً لاهوتياً يحوي اضافة إلى الصلوات، تعابير لتوضيح المقاصد الالهية ولفهم اسرارها، والحفاظ على استقامة ايمان الكنيسة.

مار باباي الكبير

واحد من كبار رجالات اللاهوت في كنيسة المشرق هو مار باباي الكبير (551- 628م). إنه أحد أهم من تعرض الى اللاهوت في اسهاماته الكبيرة في القرنين السادس والسابع، فقد وضع ركائز هذا اللاهوت وبلور مفهوم المسيحانيةChristology بصيغة سلسة ومفهومة لعامة الناس.

درس مار باباي الكبير في مدرسة نصيبين وتلقى فيها علومه الدينية والفلسفية قبل ان يصبح راهباً في الدير الذي اسسه ابراهيم الكشكري عام 571م، ثم انتخب رئيساً لهذا الدير. وبعد وفاة البطريرك مار غريغوريوس الاول عام 609م، عين بمنصب نائباً عاماً على اديرة كنيسة المشرق للاعوام من 611 الى وفاته، حيث شهدت فترته ازدهاراً للاديرة والمكرسين فيها.

ترك لنا مار باباي الكبير اربعة وثمانين مجلداً لعل اهمها كتاب الاتحاد والذي فيه يتحدث عن لاهوت المسيح بنهج فلسفي منطقي، حيث يعتبر ان الكتاب المقدس هو القاعدة الرئيسية لدراسة اللاهوت الذي يعده سراً يتعدى ادراك الناس ويتطلب فهمه تقصي آثار علاقة الله مع الانسان ومعرفة يسوع المسيح في الاناجيل.

ومن مؤلفات مار باباي الكبير والتي اخذت مكانها في كتاب الخوذرا مثلاً، ترتيلة بريخ خنانا “تبارك الحنّان” والتي تتلى في احد البشارة والميلاد ” الخوذرا الجزء الاول؟؟ ص 7777″، حيث يسلط مار باباي الكبير الضوء على الولادة العجيبة ليسوع المسيح التي حدثت في فترة نورانية ممجدة من تأريخ البشر، كتحفيز للتـَيـَقــُّظْ والسهر من قبل المؤمنين لاستقبال ” سر التقوى” (1 تي 3: 16 ) طيلة ايام حياتهم. ويشرح مار باباي ايضاً العلاقة المميزة بين الاقانيم الالهية ويقدم ايمان كنيسة المشرق ومعتقدها بهذا الخصوص، حيث يشدد على العلاقة المتكاملة بين اللاهوت والناسوت. ولا تخلو هذه الترتيلة من عناصر تأملية في التدبير الالهي وهي دعوة الى رفع المؤمن الى مراتب روحية سامية، تمهيداً لتذوقه العقلي في حضن اللاهوت، ولا تخلو هذه الترتيلة من شرح عقائدي للعلاقة بين أقنومي المسيح الانساني واللاهوتي.

“تبارك الحنان الذي بنعمته، دبّر حياتنا بالنبوءة * بعين الروح رأى اشعيا، ابن العذراء العجيب * من دون زواج أنجبت مريم، عمانوئيل ابن الله * منها جبل له الروح القدس، جسداً مسجودا كما هو مكتوب * ليكون مسكناً وهيكلاً مسجود له، مع شعاع الآب في بنوّة واحدة * مع بداية الحبل به العجيب، وحّدَه معه بكل وقار[1]* ليتم من خلاله كل ما له “تدبيره”، لخلاص الكل كما يشاء* في يوم بشارته (او ولادته) سبحت له الملائكة، بتهاليلهم في السماء العليا* وكذلك قدم الارضيون السجود، بقرابينهم بكل وقار* واحد هو المسيح ابن الله، يسجد له الجميع في طبيعتيه * وُلد بألوهيته (بلاهوته) من الآب، منذ الأزل وقبل الازمنة* ووُلد بناسوته من مريم، في ملء الازمنة في وحدة الجسد* فلا لاهوته من كيان(طبيعة) الأم، ولا ناسوته من كيان (طبيعة) الآب* محفوظة الطبيعتين في ذاتيهما، بشخص واحد وبنوة واحدة* اينما تكون يكمن اللاهوت، ثلاثة اقانيم في جوهر”كيان” واحد* هكذا هي بنّوة الابن، بطبيعتين شخص واحد* هكذا تعلمت الكنيسة المقدسة، الاعتراف بالابن الذي هو المسيح* نسجد يا رب للاهوتك، ولناسوتك بلا انقسام* واحد هو القوة ربوبية واحدة، مشيئة واحدة ومجد واحد* للاب والابن والروح القدس، إلى ابد الابدين آمين وآمين.

ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ. ܕܡܸܬ̣ܐܲܡܪܵܐ ܥܕܲܡܵܐ ܠܕܸܢܚܵܐ.

ܒܪܝܼܟ݂ ܚܲܢܵܢܵܐ ܕܲܒ݂ܛܲܝܒܘܼܬܹܗ. ܦܲܪܢܸܣ ܚܲܝܲܝ̈ܢ ܒܲܢܒ݂ܝܼܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܒܥܲܝܢܵܐ ܕܪܘܼܚܵܐ ܚܙܵܐ ܐܹܫܲܥܝܵܐ. ܠܝܲܠܕܵܐ ܬܡܝܼܗܵܐ ܕܲܒ݂ܬ̣ܘܼܠܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܕܠܵܐ ܙܘܼܘܵܓ݂ܵܐ ܝܸܠܕܲܬ̤ ܡܲܪܝܲܡ. ܠܥܲܡܲܢܘܼܐܹܝܠ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ ܀ ܕܡܸܢܵܗ̇ ܓܲܒ݂ܠܹܗ ܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܦܲܓ݂ܪܹܗ ܡܚܲܝܕܵܐ ܐܲܟ݂ܡܵܐ ܕܲܟ݂ܬܢܒ݂ ܀ ܕܢܸܗܘܸܐ ܥܘܼܡܪܵܐ ܘܗܲܝܟ̇ܠܵܐ ܣܓ݂ܝܼܕܵܐ. ܠܨܸܡܚܹܗ ܕܐܲܒ݂ܵܐ ܒܲܚܕܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܥܲܡ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܕܒܲܛܢܹܗ ܬܗܝܼܪܵܐ. ܚܲܝܕܹܗ ܥܲܡܹܗ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܕܲܢܡܲܠܹܐ ܒܹܗ ܟܠܗܹܝܢ ܕܝܼܠܹܗ. ܠܦܘܼܪܩܵܢ ܓܵܘܵܐ ܐܲܝܟ݂ ܕܲܫ̣ܦܲܪ ܠܹܗ ܀ ܒܝܘܿܡ ܣܘܼܒܵܪܹܗ (ܐܵܘ ܡܵܘܠܵܕܹܗ) ܫܲܒ̇ܚܘܼܗܝ ܥܝܼܪܹ̈ܐ. ܒܗܘܼܠܵܠܲܝ̈ܗܘܿܢ ܒܪܵܘܡܵܐ ܕܲܠܥܸܠ ܀ ܘܐܵܦ ܐܲܪ̈ܥܵܢܹܐ ܩܲܪܸܒ݂ܘ ܣܸܓ݂ܕܬ̣ܵܐ. ܒܩܘܼܪܒܵܢܲܝܗܘܿܢ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ. ܣܓ݂ܝܼܕ ܡ̣ܢ ܟܠܵܐ ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܀ ܕܒܲܐܠܵܗܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܐܲܒ݂ܵܐ. ܕܠܵܐ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܠܥܸܠ ܡ̣ܢ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܀ ܘܲܒ݂ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܡܲܪܝܲܡ. ܒܫܘܼܠܵܡ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܒܦܲܓ݂ܪܵܐ ܡܚܲܝܕ݂ܵܐ ܀ ܠܵܐ ܐܲܠܵܗܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܸܡܵܐ. ܘܠܵܐ ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܲܒ݂ܵܐ ܀ ܢܛܝܼܪܝܼܢ ܟܝܵܢܹ̈ܐ ܒܲܩܢܘܿܡܲܝ̈ܗܘܿܢ. ܒܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܕܲܚܕ݂ܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܐܲܝܟܲܢ ܕܐܝܼܬܹܝܗ̇ ܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܐ. ܬܠܵܬ̣ܵܐ ܩܢܘܿܡܹ̈ܐ ܚܕ݂ܵܐ ܐܝܼܬ̣ܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܐܝܬܹܝܗ̇ ܒܪܘܼܬܹܗ ܕܲܒ݂ܪܵܐ. ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܝܸܠܦܲܬ̤ ܥܹܕܲܬ̣ ܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܕܬ̣ܵܘܕܸܐ ܒܲܒ݂ܪܵܐ ܕܗܘ̤ܝܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܀ ܣܵܓ݂ܕܝܼܢܲܢ ܡܵܪܝ ܠܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܟ݂. ܘܲܠܐ݇ܢܵܫܘܼܬ̣ܵܟ݂ ܕܠܵܐ ܦܘܼܠܵܓ݂ܵܐ ܀ ܬܢܝܼ: ܓ: ܙܲܒ݂ܢ̈ܝܼܢ. ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܚܲܝܠܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܡܵܪܘܼܬ̣ܵܐ. ܚܲܕ݂ ܨܸܒ݂ܝܵܢܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ ܀ ܠܐܲܒ݂ܵܐ ܘܲܒ݂ܪܵܐ ܘܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܥܵܠܲܡ ܥܵܠܡܝܼܢ ܐܵܡܹܝܢ ܘܐܵܡܹܝܢ ܀

كرستولوجيا كنيسة المشرق تقاليد و تراث الشرق المسيحي

كرستولوجيا كنيسة المشرق، تقاليد و تراث الشرق المسيحي

د.افينوجنوف و أ.مورافيف.

موسكو:اسداتلستفو “اندريك” 1996.

ترجمة: ياسمين اسحق

مقدمة:

ان الصياغات الكلاسيكِية لكرستولوجيا كنيسة المشرق نجدها في المقام الأول في خلاصات وافية تعود الى القرون الوسطى، مثال (الجوهرة) لمؤلفه عبد يشوع النصيبيني (1318)م وفيه يبين التعاريف المتضاربة للمجتمعات الكنسية الثلاث: كنيسة الشرق الأدنى، السريان الأرثوذكس ( اليعقوبيين) والتي تؤمن بكيان واحد أو (طبيعة واحدة) و أقنوم واحد في جسد المسيح. الكنيسة الخلقدونية أو (الملكانية) التي تؤمن بكيانين وأقنوم واحد. و كنيسة المشرق (النسطورية) التي علّمت بوجود كيانين وأقنومين. الجميع اتفق في ) proposon) واحد. بما أن أصول هذه الصياغة أو (الصيغة) تعود الى القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، فإن هذه الدراسة (المقالة) ستقتصر على هذه الفترة. وأهمّ مصدر لنا هنا هي مجموعة سينودس الكنيسة الشرقية وقد تم جمعها في عام 800 م وتُعرف اليوم بشكل عام بالسنوديكون الشرقي.

ضمن هذه المصادرالسنودسية لدينا عدد كبير من النصوص العقائدية (المسيحية) ومن بينها، وفيما يخدم موضوعنا، يأتي أولاً نص يعود إلى العام 486 م.

في ضوء ندرة المصادر الاخرى للنصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، فإن كتابات (نرساي) في صيغة مواعظ، تعتبر ذات أهمية خاصّة. وبعض مواعظه ذات طابع لاهوتي جدلي ولذا فهي تحتوي على العديد من الفقرات التي تهتم بالكرستولوجيا.

من الممكن انه في الفترة التي تبعت السلام مع الفُرس نحو نهاية حكم (جاستنيان)، كانت هنالك مناقشات رسمية بين الكنيستين اليونانية والفارسية، وقد تم تدوينها و(حفظها) في مخطوطات سريانية ذات الاتجاه الذي يؤمن بناسوت ولاهوت المسيح معاً.

إلى حد بعيد فإن العرض الأكثر تفصيلاً عن كرستولوجيا كنيسة المشرق خلال هذه الفترة هو(كتاب الاتحاد) لمؤلفه باوَي العظيم 628 م. وقد أقرّت كنيسة المشرق في تعليمها الرسمي بنظريته التي تؤيد وجود أقنومين في المسيح المتجسد.

هنالك عدد من الكتّاب السريان الآخرين خلال القرن السابع الميلادي ممن يجدر ذكرهم مثال الجاثليق إيشوعياب الثاني و إيشوعياب الثالث و كيوركيس. وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى ان المقتطفات الأدبية لنصوص كرستولوجية لما بعد تلك الفترة، قد تُرجمت ونُقّحت من قِبل برامورسكي و جودمان.

 

 

الخلفية التأريخية

 

لقد نمت المسيحية (الناطقة بالسريانية) ومنذ وقت مبكّر، إلى شرق أي خارج الإمبراطورية الرومانية. علماً بأننا لم نبدأ بالحصول على المصادر الجيّدة الى حد مقبول إلّا من القرن الرابع وما بعده، وهي تتعلق بتأريخ الكنيسة إذ نمت في عهد الإمبراطورية الساسانية.

إنّ حقيقة كون كنيسة المشرق تنتمي جغرافياً إلى خارج الإمبراطورية الرومانية كان لها أثر بالغ الأهمية؛ بما أن المجامع الكنسيّة العظمى في الإمبراطورية الرومانية كان يدعو إلى انعقادها الامبراطور رسمياً وكانت تقتصر على حضور الأساقفة من ضمن الإمبراطورية الرومانية، فإنّ مصطلح (مسكوني) في هذا المضمون يجب أن يُفهم بمعنى ” ألذي ينتمي إلى مسكونة روما” و بناءً على ذلك فإنّ هذه المجامع الكنسية لم تكن مصدر اهتمام مباشر من قِبل الكنيسة في امبراطورية فارس..أي كنيسة المشرق. ولكن بمرور الزمن، لم يكن من المستغرب أن تُعرب كنيسة المشرق عن رأيها بشأن المجامع الكنسية الرئيسية التي برزت كمعالم في تأريخ الكنيسة ضمن الإمبراطورية الرومانية.

وبالتالي فإنّ كنيسة المشرق في المجلس الكنسي (السينودس) ألذي انعقد في مدينة ساليق- قطيسفون عام 410 م، قبلت رسميّاً بمجمع نيقية بعد انعقاده بخمسة وثمانين عاماً بالتّمام. وفي مجمع كنسي آخر عُقد سنة 420 م أُعطيَت الموافقة على تشريعات سلسلة من المجامع الكنسية (الغربية) ومنها مجمع نيقية وللمرّة الثانية، مجمع أنقره، مجمع قيصرية الجديدة، مجمع غانغرا، مجمع إنطاكية ومجمع اللاذقيّة. إلاّ أن الإدارة الغير المنظمة لمجمع أفسس، والمعاملة الرثّة التي عومل بها (يوحنا الأنطاكي وأتباعه) كانت كفيلة بعدم تقبّل كنيسة المشرق لهذا المجمع. أمّا بالنسبة الى مجمع خلقيدونية فقد كان أمراً مختلفاً، حيث كان يُنظر إليه على أنه نقلة في الإتجاه الصحيح على الأقل. رغم أن تعريفه المذهبي للإيمان أُعتبر إنه غير كافٍ وغير منطقي.

تعليق الجاثليق إيشوياب الثاني (628م-646م) بهذا الشأن كان نمطياً:

” على الرغم من أن الذين اجتمعوا في مجمع خلقيدونية قد اتّشحوا بنيّة الحفاظ على الإيمان، إلاّ انّهم هم أيضاً زلّوا عن الإيمان القويم وبسبب عباراتهم الواهنة أصبحوا حجر عثرة للكثيرين رغم أنهم وفقا لرأيهم قد حافظوا على الإيمان القويم باعترافهم بالطبيعتين، إلّا انهم بوضعهم لصيغة وحدة الأقنوم (الهيبوستاسيس) فإنّهم، على ما يبدو، أغروا ضعاف العقول. نتج عن هذه المسألة أن حدث تناقض، فبصيغة (وحدة الأقنوم) حرّفوا الاعتراف (بطبيعتين)، بينما باعترافهم (بطبيعتين) دحضوا ( وحدة الأقنوم). وبالتالي وجدوا أنفسهم على مفترق طرق وتذبذبوا ومالوا عن الفكر الأرثوذكسي. لم ينضمّوا حتى الأن الى مجالس المهرطقين، لكن كلاهما هدّما و بنَيا مفتقرَين إلى الآساس اليقين الذي يقفان عليه. فالى اي جانب يمكن ان نصنفهم؟ أنا لست أعلم. لآنّ مصطلحاتهم لا تستند الى شيء كما شهدت الطبيعة والكتاب المقدّس: ” من الممكن تواجد عدّة أقانيم في طبيعة واحدة لكن القضية لم تكن هكذا أبداً، ولم يُسمَع من قبل انّه يجب أن تتواجد أكثر من طبيعة في (أقنوم) واحد.”

سنعود مرة أخرى إلى شكوى الجاثليق إيشوعياب حول لا منطقية استعمال المصطلح (أقنوم) في التعريف الخلقيدوني.

في العقود التي سبقت انعقاد المجمع الخلقيدوني، قام أساقفة من المقاطعات الشرقية للإمبراطورية الرومانية والذين كانوا يخدمون كمبعوثين إمبراطوريين لدى المحكمة الساسانية، بجلب معارف القرن الرابع إلى مجامع الكنيسة التي عقدت في 410 م و 420 م. غير انّه في المجمع الكنسي الذي انعقد عام 424 م نجد أنّ حظراً قد فُرض على مناشدات للأساقفة الغربيين. من الواضح أنّ مناشدات بعض الأساقفة كانت وسيلة لإضعاف سلطة أسقف ساليق- قطيسفون. مما جعل مدرسة الرها (أديسّا) أو المدرسة الفارسية (كما سُمّيت من قِبل العديد من طلبة الإمبراطورية الفارسية الذين كانوا يدرسون هناك) أن تصبح القناة الرئيسية التي من خلالها كانت كنيسة المشرق تعلم بالتطورات اللاهوتية في الإمبراطورية الرومانية.

بما أنّ مدرسة الرها ومنذ بدء المجادلات اللاهوتية قد حبّذت الوقوف وبصرامة مع الرأي القائل بوجود (طبيعتين) في اللاهوت، فإنّه ليس من المُستغرب انّ الكنيسة في فارس مالت إلى رؤية الأمور المطروحة من وجهة نظر إنطاكيّة وإلى التعاطف القليل مع تقليد الاسكندرية في اللاهوت.

من ناحية أخرى فإن مدرسة الرها الفارسية قد قامت بترجمة عدة مؤلفات لـ ( ثيودورس الذي من مصيصة) إلى اللغة السريانية خلال الثلاثينات من القرن الرابع الميلادي. و بفضل هذه الترجمات فقد أصبح ثيودورس من أكثر الآباء اليونان تأثيراً فيما يتعلق باللاهوت والتفسير. حتّى إنّ (باوَي العظيم) ذهب إلى أبعد من ذلك إذ لقّبه ب” التلميذ المثالي للرّسل” و ” ضريح الروح القدس”.

بعد إغلاق مدرسة الرها عام 489 م من قِبل الإمبراطور زينون، تم نقلها فعلياً عبر الحدود إلى نصيبين. وهكذا وخلال القرن السادس ومطلع القرن السابع عندما كانت مدرسة نصيبين في أوجها، تمّ نشر تعليم لاهوتي إنطاكي صارم ضمن الإمبراطورية الساسانية

مكانة الكنيسة ضمن أطياف اللاهوت:    

في أغلب الأحيان، كان يطرح تأريخ العقيدة قديما عن طريق نموذج ثلاثي؛ حيث نرى العقيدة الأرثوذكسية الخلقيدونية محاطة من جهة بمدعي الطبيعة الواحدة (مونوفيزيين) وبمدعي العقيدة النسطورية من جهة أخرى. الا أن كلا من الدراسات الحديثة وحوارات المجالس الكنسية تشير إلى أي مدى يُعتبر هذا النموذج المُبسّط خادعاً ومُضلاًّ. وبناءاً على ذلك فإن تبنّي نموذج بديل بالغ الدّقة للتدرّجات بين قطبي اللاهوت؛ الإنطاكي والاسكندري يعتبر أمراً في غاية الأهمية.

لغرضنا الحالي، سأقترح نموذجاً ذي سبعة أبعاد (أنظر الجدول المرفق)؟ بدءاً من الطرف الإسكندري للتدرّج فإنّ المرتبة الأولى يأتي فيها أوطيخا الذي اقتر إنّ المسيح كان جوهرياً فقط مع (الآب) ولهذا الموقف الهرطوقي يمكننا أن نلتزم مصطلح ( أحادي الطبيعة- مونوفيزي). يتميّز عنه و بوضوح في المرتبة الثانية موقف الكنائس الشرقية الأورثوذكسية اليوم. وهنا من المهم، لإبعاد الغموض ومن ثم التضليل الذي يسببه مصطلح (مونوفيزي أو الطبيعة الواحدة، فأقترح استعمال مصطلح (ميافسايت) عوضاً عنه. في المرتبة الثالثة في التدرّج يأتي الخلقيدونيون الجدد والذين لا يقبلون بمقولة الخلقيدونيين ((بطبيعتين)) والسيرلاين ( بتجسد واحد لطبيعة الله في الكلمة.) ثم ننتقل إلى مرتبة السكوت الخلقيدوني القلق، متمثلاً في الـ (هينوتيكون) منشور زينون ومجموعة الكتابات التي تُنسب إلى ( ديونيسيوس الأريوباغي).

بينما ننتقل من التقليد اللاهوتي الأسكندري إلى الأنطاكي، نجد لدينا مرتبتان متقاربتان بوضوح؛ الأولى الديوفيزيين المتزمّتين ( مدعي الطبيعتين) ضمن الإمبراطورية الرومانية ويمثّلهم أشخاص مثل (ثيودورس)، الرهبان والكنيسة الرومانية. والمرتبة الثانية هي الديوفيزيين خارج الإمبراطورية الرومانية – بعبارة أخرى- موقف كنيسة المشرق. وأخيراً لدينا الموقف الإنطاكي المتطرف الذي يُعلّم بوجود إثنان ( برسوبا) والذي من الممكن أن يكون معتقد (نسطورس).

 

بنموذج كهذا من الممكن أن نرى بسهولة إنّ المعايير اللاهوتية المختلفة تؤدي إلى تشكيل مجموعات مختلفة. فلو أُخذ تعريف مجلس (مجمع) خلقيدونية للإيمان كمعيار للأرثوذوكسية، فإنّ المراتب الثلاث الوسطى هي فقط ستكون مقبولة؛ هذا لو كنا نحكم على أساس إدماج معيارين آخرين للاهوت بمعنى واحد في المسيح، والمسيح كجوهر في الآب وفي الإنسان، لكانت لدينا صورة أكثر شمولية لأن هذا سيسمح لنا بإدراج الأرثوذوكسية الشرقية وكنيسة المشرق.

 

بالنظر من خلال هذا التدرّج الأوسع ستتضح صعوبة القبول بالحكم على التعليم اللاهوتي لأي من الكنيستين، كنيسة المشرق أو الأرثوذوكسية الشرقية بالأخذ فقط بالتعريف الخلقيدوني كمعيار للأرثوذوكسية.

في هذه العلاقة توجد نقطتان مهمتان واجب ذكرهما. الأولى هي أن صيغة معالجة موضوع اللاهوت المستعملة من قبل المجمع الخلقيدوني ليست بالضرورة الوحيدة المقبولة لشرح لغز التّجسد. والنقطة الثانية هي أنّ مصطلحا (طبيعة) و (أقنوم) ممكن فهمهما بعدة معانٍ. وقد باتت مشكلة الإبهام (الغموض) أكثر وضوحاً عندما تمت ترجمة المصطلحين إلى اللغة السريانية.

كنيسة كوخي

كنيسة كوخي

كنيسة في بلاد ما بين النهرين أسست على يد متلمذ المشرق مار ماري في القرن الاول الميلادي. تقع الى الجنوب من بغداد في منطقة المدائن عاصمة الفرثيين، التي كان سكانها اشد الناس تمسكاً بالوثنية.

تعود قصة بناء الكنيسة الى معجزة شفاء اخت الملك ارطبان الثالث واسمها (قنّي)، والتي كانت مصابة بمرض عضال يصعب الشفاء منه. فمنح الملك ارضاً في ضاحية قطيسفون اسمها كوخي ( وتعني الاكواخ) ليقيم فيها الرسول كنيسة كوخي، اصبحت لاحقاً، وبعد ان اكتسبت اهمية كبرى، مقراً لكرسي جثالقة المشرق.

تعرضت الكنيسة للتدمير ابان الاضطهاد الاربعيني على يد شابور الثاني، عام 341 وهي السنة التي استشهد بها مار شمعون برصباعي.

اعيد بناؤها لاحقاً لتصبح مقراً للكرسي البطريركي حتى عام 799 حيث قام البطريرك مار طيمثاوس الاول بنقل مقر البطريركية الى بغداد، عاصمة الدولة العباسية في عهد الخليفة المهدي (775-785) ليكون قريباً من بلاط الخلافة العباسية.

بسبب عدم استخدامها، تعرضت كنيسة كوخي الى الدمار وبقيت مندثرة لعدة قرون قبل اعادة اكتشافها من قبل بعثات اجنبية في القرن الماضي.

عام ألفين، أقامت كنيسة المشرق الاشورية قداساً في منطقة قريبة من كوخي بمناسبة الالفية الثالثة للمسيح بمشاركة رؤساء جميع كنائس المشرق.

المصادر:

  • كتاب المجدل – ماري بن سليمان
  • كتاب شهداء المشرق – الاب البير ابونا

مجادلة الراهب الجرجاني مع الشيخ عمر الصيني

مجادلة الراهب الجرجاني مع الشيخ عمر الصيني

الشماس نجيب دنخا

قال الشيخ عمر: اني مررت براهب وهو في صومعته فجرى بيني وبينه مؤانسة.

فقلت له: يا راهب لمن تعبد.

فقال: اعبد الله الذي خلق العالم بقدرته وألــَّفَ نظامه بحكمته. وقد حوت عظمته كل شيء. لا تبلغ الألسن وصف قدرته. ولا العقول لج رحمته. له الشكر على ما نتقلب فيه من نعمته التي صَحَّتْ بها الأبصار. وَرَعَتْ بها الأسماع. ونطقت بها الألسن. وسكنت بها العروق وامتزجت بها الطبائع.

فقلت يا راهب ما أفضل الحكمة؟

فقال: خوف الله؟

فقلت: وما أكمل العقل؟

قالَ: معرفة الانسان بقدرته.

قلت: ما يعين على التخلص من الدنيا؟

قال: ان تجعل بقية يومك انقضاءَ أملك.

فقلت: وما حملك على ان عقلت على نفسك في هذه الصومعة؟

فقال: لاحبس هذا السَّبع عن الناس ( وأوما بيده الى لسانه).

فقلت: من اين تعيش؟

قال: من تدبير اللطيف الخبير الذي خلق الرحى وهو يأتيها بالطحين.

قلت: لم لا تنزل الينا وتخالطنا؟

فقال: لان الأشياء الموبقة بأسرها بينكم والسلامة من ذلك انما تكون في الوحدة.

قلت: وكيف صبرت على الوحدة؟

فقال: لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت اليها من نفسك.

قلت: كيف لبست السواد؟

فقال: لان الدنيا دار مأتم وأهلها في حداد. وإذا حزنت الثكلى لبست السواد.

فقلت: كيف تذكر الموت؟

فقال: ما أطـرِفُ طرفة عين الا ظننت اني مُتٌّ.

قلت: مالنا نحن نكره الموت؟

فقال: لانكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم. فانتم تكرهون النقلة من العمران الى الخراب.

قلت: يا راهب عظني.

فقال: ابلغ العظات النظر الى محلة الأموات. وفي تغيير الساعات والآجلات. وان شيعت جنازة فكن كانك المحمول مثل ذلك. ولا تنس من لا ينساك. واحسن سريرتك. يحسن الله علانيتك. واعلم ان من خاف الله اخاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. واطلب العلم لتعمل به ولا تطلبه للتباهي اوتماري به السفهاء. وإياك والأهواء فإنها موبقة. والهرب الهرب من الجهل. والهرب الهرب ممن يمدح الحسنات فيتجنبها ويذم السيئات فيرتكبها. ولا تشرب المسكر فان عاجلته غرامة. وعاقبته ندامة. ولا تجالس من يشغلك بالكلام ويزين لك الخطأ ويوقعك في هذه الغموم. ويتبرأ منك وينقلب عليك. ولا تتشبه في طعامك وشرابك ولباسك بالعظماء ولا في مشيتك بالجبابرة. وكن ممن يرجى خيره. ولا تكن ممن يخاف شره. واعلم ان من أحبه الله ابتلاه. ومن صبر رضي الله عنه. وإذا اعتللت فأكثر من ذكر الله وحمده وشكره. واياك والنميمة فانها تزرع في القلوب الضغائن وتفرق بين المحبين. وانظر ما استحسنته من غيرك فامتثله لنفسك. وما أنكرته من غيرك فتجنبه. وارض للناس ما ترضاه لنفسك. فانه كمال الوصال والصلاح في الدين والدنيا. ثم قال اني استودعك لله واقرأُ عليك السلام. ثم انه نهض الى صلاته فسمعته يقول: الهنا تقدس اسمك تأتي ملكوتك. تكون مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض. وارزقنا الكفاف يوما بيوم. واغفر لنا خطايانا وآثامنا. ولا تدخلنا في التجارب وخلصنا من إبليس لنسبحك ونمجدك الى الدهر الداهرين. ثم جعل يقول أيضا اللهم ان رحمتك كعظمتك. اللهم ان نعمتك أعظم من رجائنا وصنعك أفضل من آمالنا. اللهم اجعلنا شاكرين لنعمائك حتى تشتغل بذكرك جوارحنا وتمتلئ قلوبنا. اللهم أعنا على ان نحذر من سخطك ونبتغي طاعتك ورضاك. اللهم وفقنا للعمل بما نفوز به من ملكوتك. من اجل انه ينبغي لك العز والسلطان والقدرة.

قال الشيخ: فاستحسنت ذلك منه. وسألته ان يدعو لنا وانصرفت وانا متعجب من حسن مقاله.

من كتاب

مجاني الادب في حدائق العرب

الاب لويس شيخو اليسوعي – الجزء الثالث

شهداء الأيمان في كنيسة المشرق

شهداء الأيمان في كنيسة المشرق

مسعود هرمز النوفلي

مقدمة

كنيستنا هي كنيسة الشهداء ، ولكن ماهو السبب الذي يجعلنا أن نقول ذلك ؟ لننظر الى الرب له المجد الذي أعطى جسده طوعاً وقُرباناً على الصليب ونال العقوبة التي ما كان يستحقها ، انه الشهيد الأول وبكر الشُهداء في الجسد ، أطاع الجلادين ولم يرفض الحكم الصادر بحقه من أجل اكمال مُخطط أبيه السماوي ، هكذا هو كلُّ شهيدٍ أعطى جسده من أجل الأيمان المسيحي عندما التحق مع الرب في نفس المعنى من أجل المحبة الخالصة للمسيح ومن أجل الوفاء لأسمهِ المُمجّد وعدم نكران الكلمة الحقّة لأجل اكمال المشوار الزمني الذي خططه الرب لنا.

بدأ اضطهاد المؤمنين بالمسيحية منذ ظهورها

لقد بدأ أضطهاد المسيحيين في البداية من بعض أبناء المجتمع اليهودي الصغير آنذاك وخاصة من قبل رجال الدين والكتبة والفريسيين والعشارين الذين كانوا ينظرون الى المسيح نظرات الأستهزاء والإهانة ، انتقلت إهاناتهم لجميع أتباع المسيح ومنذ ذلك التاريخ بدأت حملات الملاحقة والمضايقة لكل من آمن بالرب وقد استشهد من استشهد وإنزوى الآخرين في العبادة بسرية تامة خوفاً من القتل والتصفية . بدأ الرسل في التبشير ووصلت المسيحية الى بلدنا في القرن الميلادي الأول على يد مار توما الرسول ومار أدي وتلميذه مار ماري الذي قام بتشييد أول كنيسة في بلدة كوخي في المدائن أيام الحكم الفرثي للعراق وذلك في الثمانينات من القرن الميلادي الأول ، وفي نهاية ذلك القرن بدأ كسرى ملك الفرس بمضايقة المسيحيين وقتلهم واستمر المسلسل قروناً عديدة الى أن تتوج الحقد الأعمى بالأضطهاد الذي استمر أربعون سنة والمشهور بالأضطهاد الأربعيني الذي راح ضحيته ألآلاف من إخوتنا وأخواتنا شهداء قديسين يشكون الى الرب الظلم والقسوة ومختلف أنواع التعذيب الجسدي . كانت الكارثة الكبرى تلك في حدود سنة 339م . وقد أعطى المؤمنين شهداء آخرين بعد وصول الحكم الأسلامي وانتشاره ولم يتوقف الى أن جاءت الفترة المظلمة بالكراهية بحق الأيمان والمؤمنين وهذه المرة من المغول والتتر الذين حرقوا الكنائس والأديرة والقرى وسكانها وحدثت مآسي لا توصف من حيث التدمير والتخريب بحق المسيحية حيث كان يتوقع كل مسيحي الأستشهاد الفوري . والى فترة أخرى وأقسى بعد التبشير الكاثوليكي ودعم البعض من جيران العراق وابنائه من الأتراك والأكراد للهجوم والتنكيل بكل ماهو مسيحي وخاصة في الموصل وشمال العراق وجنوب تركيا وأعطت المسيحية مرة أخرى الآلاف من أبنائها البررة مع شديد الأسف (المصدر 1) ولم تتوقف حملات الأبادة وإنما استمرت الى قبل أقل من قرن والى يومنا هذا ودماء أعزائنا تروي أرض بين النهرين (المصدر 2). وعلينا ومن حقنا أن نسأل هل سيستمر النزيف ؟ نتمنى أن لا يكون ذلك ولكن ليس في اليدِ حيلة كما يقول المثل ، طريق الآلام والجلجثة مفتوح ولا هناك في الأفق من ينقذ شعبنا العظيم الصابر المتألم .

الشهيد يحبُّ الرب أكثر من حُبِّهِ لنفسهِ

لماذا تُراق الدماء وطريق الشهادة مُستمر بدون انقطاع ؟ وهل الذين يُكرّسون حياتهم للمسيح ويُدافعون عن بذور الأيمان ونشر الخير عليهم أن يدفعوا ثمن ذلك ويستحقون الموت ؟

أسئلة عديدة ومعانيها عظيمة ولا تُحصى والأجوبة عليها مُعقدة ومتشابكة لأن مُعاناتنا مع الشر والأشرار مُستمرة بلا انقطاع ، هكذا ستستمر الأرواح البريئة بتقديم التضحيات الى ما لا نهاية في سبيل الحق والطريق والحياة والسبب الجوهري هو ما يقوله الرب لنا في لوقا 14 : 26 ” مُنْ يأتي اليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وإخوانه وأخواته وامرأته وأبناؤه وحتى نفسه, لا يستطيع أن يكون تلميذا لي.”[i] كم هو عظيم قول الرب الذي يعطينا الدليل وبدون أية مُناقشة ، لا يوجد انسان يكره نفسه ومهما يكُن أعتزازه في مقدرته وصورته ومحبته للآخرين فانه سيكون مُقصراً وناقصاً إذا لم تكن محبته للمسيح أكثر وأشمل من أي حُبٍ آخر ، وعندما يتحلى بتلك الصفة فانه حقاً سيصبح تلميذ المسيح لأنه سيتعامل مع الأرادة الربانية التي تُقرر ذلك . التصاق الأنسان بهذه الفكرة وتطبيقها بايمان وقناعة ستقوده الى تحمُّل كافة أنواع العذاب والجلجثة من أجل المسيح وبالتالي سيندفع لنيل الشهادة بكل فرح وسرور ، هكذا كان شهداء كنيستنا المشرقية بصفاتهم وتحدّياتهم وانتصاراتهم عبر التاريخ ، كان أحدهم يُشجّع الآخر لنيل اكليل الأستشهاد وعدم التخلي عن الأيمان منذ فجر المسيحية مروراً بكافة القرون المظلمة والى الوقت الحاضر كانوا ينكرون ذواتهم ويُقدّمون أرواحهم كالشمع الذي يحترق في النار والظلام ولنا أمثلة كثيرة من شهداء سميل وصوريا . (المصدر 3) .

كيف تعامل القتلة مع الشهداء؟

عند النظر الى تاريخ كنيستنا نقرأ ونلاحظ بأن الحُكام الوثنيين والمسؤولين عن الشعوب قد استخدموا كافة انواع التعذيب وأبشعها صورة في القتل الجماعي والفردي . كان القتلة يستخدمون السلاسل لربط الشهداء الأبرياء ، يضربون القديسين بالحبال والأخشاب والسكاكين والخناجر والسيوف ويسرعون بالضرب على السيقان الطرية والأفخاذ والجوانب والوجوه والرؤوس ويتبارون وكأنهم يصطادون الفريسة في الغابة وما كانوا يشبعون من ذلك وإنما كانوا يستعملون أنواع الحروق والكيات الجسدية والألقاء في النار المتقدة لهذا الغرض الى أن ينتهي الجسد ويتمزق إرباً إربا ، هكذا كان يتعامل الحاقدين على المسيحية وأتباع المسيح الحي . أحياناً كانوا يتهمون الشهداء بعدم الولاء للحاكم وأحياناً اخرى بعدم السجود للأصنام واحياناً بالتلفيق ضدهم بانهم جواسيس الرومان والكثير من التبريرات الأخرى المتنوعة التي كانوا يقومون بتأليفها من أجل النيل من عزيمة الشهداء والأنقضاض عليهم بالسيوف والتلذذ بدمائهم . (المصدر 4) .

لماذا يستمر الأضطهاد والكراهية للمؤمنين في كنيستنا ؟

1- ظلم الحكام الغير المؤمنين وتحيّزهم الى عقيدة ضد الأخرى مما يعطي المُبررات القوية لأعداء المسيحة بالتحرك وتنفيذ المآرب الخاصة التي تصل الى القتل والأغتصاب.

2- عدم الأيمان بحرية الفكر والعبادة عند البعض حيث تؤدي الحالة الدكتاتورية عندهم الى تمزيق كل من هو مُخالف لهم في الرأي أو من دينٍ آخر .

3- كثرة العقائد الدينية في البلدان التي لا تؤمن بالتعددية يخلق حالة من الفوضى وعدم استطاعة الدولة الغير المُستقرة لضبط حركة الشعب وبالتالي يبدأ التمزق والقتل على الهوية الدينية .

4- اطلاق البعض من الراديكاليين والمتعصبين الدعوات والحجج من أجل الحاق وضم المسيحيين لخانة ايمانهم ودينهم . يكون هؤلاء في أغلب الأحيان من القبائل والعشائر الذين يكرهون كل ماهو جديد من عمل وتطوير وطرق العبادة الخاصة بالغير . حيث يقوم البعض منهم بتفسير ما ورد في كُتبهم عن غير المؤمنين بدينهم بأنهم من الكفرة والضّالين ويستحقون أقسى العقوبات مما يعطي الكثير من المبررات للبعض بتنفيذ مآربهم الدنيئة ضد المسيحيين .

5- غياب الديمقراطية وعدم الأعتراف بمساواة المواطنين ، حيث توجد مجاميع كثيرة لا تؤمن بالنهج الديمقراطي وتنظر الى الآخرين من أديان أخرى وكأنهم من الدرجة الثانية وعليهم دفع الغرامات وما يُسمى بالجزية من أجل الحماية والدفاع عنهم والذي لا يلتزم بقوانينهم يكون مصيره القتل والخطف والأعدام أو التهجير .

الخلاصة

كما كان ينحني الشهداء امام جلاديهم وقاتليهم ، هكذا نحن ننحني اليوم أمام ذخائرهم القديسة وقبورهم التي تحوي عظامهم المباركة ، طالبين منهم الشفاعة والتضرع إلى الرب بدلاً عنا لكي تُساعد صلواتهم وشفاعاتهم المؤمنين وتعطيهم القوة والصبر الى الأخير من أجل نشر الأيمان ، وكما رفع الرب خطيئة العالم بالصليب هكذا أصبح شهداء كنيستنا يحملون كل خطايا الملوك والرؤساء والمتعصبين وحاملي الرايات الشيطانية انهم أعظم من عندنا جميعاً وعلينا أن ندعو الرب لمساعدة الجميع وغفران الخطايا كما غفر الى الذين ضربوه وصلبوه وأغرزوا الرمح في جنبه ، كما غفر لهم وهو على الصليب وقال ” انهم لا يعلمون ماذا يفعلون ” هكذا نحن لنغفر الى من يسيء الينا كما تُعلّمنا الصلاة التي علّمنا أياها الرب .

وختاماً تقول الصلاة ” عمل الشهداء الجبابرة اعجوبة عظيمة عندما شاهدوا السيوف تلمع والجلادين ينحنون فلم يخافوا ولا ينثنوا من الحُب الكبير لربِّهم وقبلوا الموت وكأنه تكريماً لهم ولم يتركوا ايمانهم ” . المصدر (4) صلوات الخميس عصراً . صلوا من أجل شعبنا أيها الشهداء القديسين الكرام ليحفظه ويوحّده في كنيسته المشرقية الى الأبد آمين .

28/9/2010

المصادر:

(1) : سير أشهر شهداء المشرق القديسين ، ترجمة أدي شير ، طبع الموصل 1906م.

(2) : شهداء المشرق ج1 ، البير أبونا ، بغداد 1985م .

(3) : من مآسي المسيحيين في العراق ، سرمد القس ، لندن – مجلة القيثارة 2009م .

(4) : كتاب الصلوات قذام واثر ، طبع بغداد 1998م .Listen

Read phonetically

Dictionary – View detailed dictionary

[i] الترجمة عن الفشيطتا