شهداء الأيمان في كنيسة المشرق
مسعود هرمز النوفلي
مقدمة
كنيستنا هي كنيسة الشهداء ، ولكن ماهو السبب الذي يجعلنا أن نقول ذلك ؟ لننظر الى الرب له المجد الذي أعطى جسده طوعاً وقُرباناً على الصليب ونال العقوبة التي ما كان يستحقها ، انه الشهيد الأول وبكر الشُهداء في الجسد ، أطاع الجلادين ولم يرفض الحكم الصادر بحقه من أجل اكمال مُخطط أبيه السماوي ، هكذا هو كلُّ شهيدٍ أعطى جسده من أجل الأيمان المسيحي عندما التحق مع الرب في نفس المعنى من أجل المحبة الخالصة للمسيح ومن أجل الوفاء لأسمهِ المُمجّد وعدم نكران الكلمة الحقّة لأجل اكمال المشوار الزمني الذي خططه الرب لنا.
بدأ اضطهاد المؤمنين بالمسيحية منذ ظهورها
لقد بدأ أضطهاد المسيحيين في البداية من بعض أبناء المجتمع اليهودي الصغير آنذاك وخاصة من قبل رجال الدين والكتبة والفريسيين والعشارين الذين كانوا ينظرون الى المسيح نظرات الأستهزاء والإهانة ، انتقلت إهاناتهم لجميع أتباع المسيح ومنذ ذلك التاريخ بدأت حملات الملاحقة والمضايقة لكل من آمن بالرب وقد استشهد من استشهد وإنزوى الآخرين في العبادة بسرية تامة خوفاً من القتل والتصفية . بدأ الرسل في التبشير ووصلت المسيحية الى بلدنا في القرن الميلادي الأول على يد مار توما الرسول ومار أدي وتلميذه مار ماري الذي قام بتشييد أول كنيسة في بلدة كوخي في المدائن أيام الحكم الفرثي للعراق وذلك في الثمانينات من القرن الميلادي الأول ، وفي نهاية ذلك القرن بدأ كسرى ملك الفرس بمضايقة المسيحيين وقتلهم واستمر المسلسل قروناً عديدة الى أن تتوج الحقد الأعمى بالأضطهاد الذي استمر أربعون سنة والمشهور بالأضطهاد الأربعيني الذي راح ضحيته ألآلاف من إخوتنا وأخواتنا شهداء قديسين يشكون الى الرب الظلم والقسوة ومختلف أنواع التعذيب الجسدي . كانت الكارثة الكبرى تلك في حدود سنة 339م . وقد أعطى المؤمنين شهداء آخرين بعد وصول الحكم الأسلامي وانتشاره ولم يتوقف الى أن جاءت الفترة المظلمة بالكراهية بحق الأيمان والمؤمنين وهذه المرة من المغول والتتر الذين حرقوا الكنائس والأديرة والقرى وسكانها وحدثت مآسي لا توصف من حيث التدمير والتخريب بحق المسيحية حيث كان يتوقع كل مسيحي الأستشهاد الفوري . والى فترة أخرى وأقسى بعد التبشير الكاثوليكي ودعم البعض من جيران العراق وابنائه من الأتراك والأكراد للهجوم والتنكيل بكل ماهو مسيحي وخاصة في الموصل وشمال العراق وجنوب تركيا وأعطت المسيحية مرة أخرى الآلاف من أبنائها البررة مع شديد الأسف (المصدر 1) ولم تتوقف حملات الأبادة وإنما استمرت الى قبل أقل من قرن والى يومنا هذا ودماء أعزائنا تروي أرض بين النهرين (المصدر 2). وعلينا ومن حقنا أن نسأل هل سيستمر النزيف ؟ نتمنى أن لا يكون ذلك ولكن ليس في اليدِ حيلة كما يقول المثل ، طريق الآلام والجلجثة مفتوح ولا هناك في الأفق من ينقذ شعبنا العظيم الصابر المتألم .
الشهيد يحبُّ الرب أكثر من حُبِّهِ لنفسهِ
لماذا تُراق الدماء وطريق الشهادة مُستمر بدون انقطاع ؟ وهل الذين يُكرّسون حياتهم للمسيح ويُدافعون عن بذور الأيمان ونشر الخير عليهم أن يدفعوا ثمن ذلك ويستحقون الموت ؟
أسئلة عديدة ومعانيها عظيمة ولا تُحصى والأجوبة عليها مُعقدة ومتشابكة لأن مُعاناتنا مع الشر والأشرار مُستمرة بلا انقطاع ، هكذا ستستمر الأرواح البريئة بتقديم التضحيات الى ما لا نهاية في سبيل الحق والطريق والحياة والسبب الجوهري هو ما يقوله الرب لنا في لوقا 14 : 26 ” مُنْ يأتي اليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وإخوانه وأخواته وامرأته وأبناؤه وحتى نفسه, لا يستطيع أن يكون تلميذا لي.”[i] كم هو عظيم قول الرب الذي يعطينا الدليل وبدون أية مُناقشة ، لا يوجد انسان يكره نفسه ومهما يكُن أعتزازه في مقدرته وصورته ومحبته للآخرين فانه سيكون مُقصراً وناقصاً إذا لم تكن محبته للمسيح أكثر وأشمل من أي حُبٍ آخر ، وعندما يتحلى بتلك الصفة فانه حقاً سيصبح تلميذ المسيح لأنه سيتعامل مع الأرادة الربانية التي تُقرر ذلك . التصاق الأنسان بهذه الفكرة وتطبيقها بايمان وقناعة ستقوده الى تحمُّل كافة أنواع العذاب والجلجثة من أجل المسيح وبالتالي سيندفع لنيل الشهادة بكل فرح وسرور ، هكذا كان شهداء كنيستنا المشرقية بصفاتهم وتحدّياتهم وانتصاراتهم عبر التاريخ ، كان أحدهم يُشجّع الآخر لنيل اكليل الأستشهاد وعدم التخلي عن الأيمان منذ فجر المسيحية مروراً بكافة القرون المظلمة والى الوقت الحاضر كانوا ينكرون ذواتهم ويُقدّمون أرواحهم كالشمع الذي يحترق في النار والظلام ولنا أمثلة كثيرة من شهداء سميل وصوريا . (المصدر 3) .
كيف تعامل القتلة مع الشهداء؟
عند النظر الى تاريخ كنيستنا نقرأ ونلاحظ بأن الحُكام الوثنيين والمسؤولين عن الشعوب قد استخدموا كافة انواع التعذيب وأبشعها صورة في القتل الجماعي والفردي . كان القتلة يستخدمون السلاسل لربط الشهداء الأبرياء ، يضربون القديسين بالحبال والأخشاب والسكاكين والخناجر والسيوف ويسرعون بالضرب على السيقان الطرية والأفخاذ والجوانب والوجوه والرؤوس ويتبارون وكأنهم يصطادون الفريسة في الغابة وما كانوا يشبعون من ذلك وإنما كانوا يستعملون أنواع الحروق والكيات الجسدية والألقاء في النار المتقدة لهذا الغرض الى أن ينتهي الجسد ويتمزق إرباً إربا ، هكذا كان يتعامل الحاقدين على المسيحية وأتباع المسيح الحي . أحياناً كانوا يتهمون الشهداء بعدم الولاء للحاكم وأحياناً اخرى بعدم السجود للأصنام واحياناً بالتلفيق ضدهم بانهم جواسيس الرومان والكثير من التبريرات الأخرى المتنوعة التي كانوا يقومون بتأليفها من أجل النيل من عزيمة الشهداء والأنقضاض عليهم بالسيوف والتلذذ بدمائهم . (المصدر 4) .
لماذا يستمر الأضطهاد والكراهية للمؤمنين في كنيستنا ؟
1- ظلم الحكام الغير المؤمنين وتحيّزهم الى عقيدة ضد الأخرى مما يعطي المُبررات القوية لأعداء المسيحة بالتحرك وتنفيذ المآرب الخاصة التي تصل الى القتل والأغتصاب.
2- عدم الأيمان بحرية الفكر والعبادة عند البعض حيث تؤدي الحالة الدكتاتورية عندهم الى تمزيق كل من هو مُخالف لهم في الرأي أو من دينٍ آخر .
3- كثرة العقائد الدينية في البلدان التي لا تؤمن بالتعددية يخلق حالة من الفوضى وعدم استطاعة الدولة الغير المُستقرة لضبط حركة الشعب وبالتالي يبدأ التمزق والقتل على الهوية الدينية .
4- اطلاق البعض من الراديكاليين والمتعصبين الدعوات والحجج من أجل الحاق وضم المسيحيين لخانة ايمانهم ودينهم . يكون هؤلاء في أغلب الأحيان من القبائل والعشائر الذين يكرهون كل ماهو جديد من عمل وتطوير وطرق العبادة الخاصة بالغير . حيث يقوم البعض منهم بتفسير ما ورد في كُتبهم عن غير المؤمنين بدينهم بأنهم من الكفرة والضّالين ويستحقون أقسى العقوبات مما يعطي الكثير من المبررات للبعض بتنفيذ مآربهم الدنيئة ضد المسيحيين .
5- غياب الديمقراطية وعدم الأعتراف بمساواة المواطنين ، حيث توجد مجاميع كثيرة لا تؤمن بالنهج الديمقراطي وتنظر الى الآخرين من أديان أخرى وكأنهم من الدرجة الثانية وعليهم دفع الغرامات وما يُسمى بالجزية من أجل الحماية والدفاع عنهم والذي لا يلتزم بقوانينهم يكون مصيره القتل والخطف والأعدام أو التهجير .
الخلاصة
كما كان ينحني الشهداء امام جلاديهم وقاتليهم ، هكذا نحن ننحني اليوم أمام ذخائرهم القديسة وقبورهم التي تحوي عظامهم المباركة ، طالبين منهم الشفاعة والتضرع إلى الرب بدلاً عنا لكي تُساعد صلواتهم وشفاعاتهم المؤمنين وتعطيهم القوة والصبر الى الأخير من أجل نشر الأيمان ، وكما رفع الرب خطيئة العالم بالصليب هكذا أصبح شهداء كنيستنا يحملون كل خطايا الملوك والرؤساء والمتعصبين وحاملي الرايات الشيطانية انهم أعظم من عندنا جميعاً وعلينا أن ندعو الرب لمساعدة الجميع وغفران الخطايا كما غفر الى الذين ضربوه وصلبوه وأغرزوا الرمح في جنبه ، كما غفر لهم وهو على الصليب وقال ” انهم لا يعلمون ماذا يفعلون ” هكذا نحن لنغفر الى من يسيء الينا كما تُعلّمنا الصلاة التي علّمنا أياها الرب .
وختاماً تقول الصلاة ” عمل الشهداء الجبابرة اعجوبة عظيمة عندما شاهدوا السيوف تلمع والجلادين ينحنون فلم يخافوا ولا ينثنوا من الحُب الكبير لربِّهم وقبلوا الموت وكأنه تكريماً لهم ولم يتركوا ايمانهم ” . المصدر (4) صلوات الخميس عصراً . صلوا من أجل شعبنا أيها الشهداء القديسين الكرام ليحفظه ويوحّده في كنيسته المشرقية الى الأبد آمين .
28/9/2010
المصادر:
(1) : سير أشهر شهداء المشرق القديسين ، ترجمة أدي شير ، طبع الموصل 1906م.
(2) : شهداء المشرق ج1 ، البير أبونا ، بغداد 1985م .
(3) : من مآسي المسيحيين في العراق ، سرمد القس ، لندن – مجلة القيثارة 2009م .
(4) : كتاب الصلوات قذام واثر ، طبع بغداد 1998م .Listen
Read phonetically
Dictionary – View detailed dictionary
[i] الترجمة عن الفشيطتا