“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

“بريخ خنانا” ايقونة مار باباي الكبير

الشماس سامي القس شمعون

ترك لاهوتيو كنيسة المشرق العظام وقديسوها تراثا عظيما لنا وللاجيال القادمة، من خلال كتابات روحية وفكرية أخذت موقعها المؤثر في الكتب الطقسية، ولتشدو بها الكنيسة في كل زمان ومكان، ولتصبح محورا لحياتها المسيحية. دخل الكلمة الى العالم بطريقة عجيبة من خلال التجسد والولادة من مريم العذراء من اجل رؤية امجاد ” صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة” ( كول 1: 15 )، و من خلال ابعاد فعل تجسد “إله الدهر خالق أطراف الأرض ” (اش 40 :28)، ادركنا صورة الانسان الحقيقية، بعد ان ظهرت دلائل بشرية والهية في شخص يسوع المسيح.

يسوع المسيح كان عظماً من عظامنا، ولحماً من لحمنا نحن البشر. كان طفلاً ضمن العائلة البشرية، ينمو ويتقدم “في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” ( لو 2: 52) لتحقيق الوعد المعطى لأبينا ابراهيم، بافتداء ابنائه. فمثلنا كان يركع ويصلي، (لو 6: 12 )، يعطش ( يو 19: 28 )، يجوع ( مت 4: 2 )، يبكي ( لو 19: 41 )، يحضر افراحا (يو 2 : 2 ) ينام مثلنا (مت8: 24 )، يتعب ( يو 4: 6 )، يحزن (مت 26: 37 )، يتألم (اش 53: 5)، واخيراً يصلب ويموت (مت 27: 50)، فهو بهذا انسان مثلنا، يشبهنا، في كل شيء ما عدا الخطيئة.

الا ان هذا الذي صلب قد قام، وبطبيعته الإلهية يدرك ما يدور في خُلدنا وخلد الاخرين. فهو ان كان مثلنا “من نسل المرأة” الا انه جاء ليسحق رأس الحية (تك 3: 15)، ويعلن بتجسده، قمة محبة الله للبشر من خلال مخطط لخلاص البشر واعادة صورته الممجدة لكن المفقودة لدى البشر.

المسيح، اذن هو الكلمة (يو 1 : 1 – 4 )، الاله المبارك إلى الابد (رو 9: 5 )، هو الله معنا (مت 1:23 )، إلـهنا (يو 20: 28 )، الرب ( يو 14: 9 )، رب السبت ( مت 12: 8 )، رب المجد (1كو 2: 8 )، رب الارباب ( تث 10: 17 )، يجلس عن يمين الآب (مز 110 : 1 )، منح البصر للمولود أعمى (يو 1:7- 9 )، غصن الرب ( اش 4: 2)، غصن البر ( ار 33: 15 )، تظهر الصفات الالهية في رئاسته ( مي 5 : 1 – 5 )، وغيرها الكثير من الالقاب والأوصاف.

ان القول بيسوع المسيح انسان فقط، هو نصف الحقيقة، والقول ان اله فقط هو النصف الاخر للحقيقة. فاذن يسوع المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد، وهذا هو سر التقوى العظيم (1 تي 3: 16 ). وايضاً هو قد عاش بيننا حياته البشرية الاعتيادية في بلدة الناصرة. يسوع المسيح هو الاله الكامل، والانسان الكامل، وهذا اللاهوت الذي يحمله، ليس ضد الناسوت، وان الاخير ليس ضد الاول ايضاً، وان مرَّت على صفحات التاريخ خلافات وانشقاقات حول فهم العلاقة بين هاتين الطبيعتين، او بين الأقانيم الالهية، فهي كانت نتيجة طبيعة البشر وقدرته على استيعاب وفهم هذه العلاقة.

لذا قام آباء كنيسة المشرق بوضع مؤلفات ضخمة ومتنوعة صارت دعامة أساسية في الكتب الطقسية، لتصبح ترسانة روحية وفكرية عظيمة لايمان الكنيسة. فعمل وجاهد كل فطحل من هؤلاء الاباء القديسين الذين وصلت اليهم دفة قيادتها، للتأثير في مسارها واعطائها زخماً روحياً وتراثياً مخلداً عبر الزمان. كانت نقطة انطلاق آباء الكنيسة هي يسوع المسيح لانه لم يكن انساناً فقط، بل إلها ايضاَ. وانصبت اجتهاداتهم بطرق كل سبيل لمعرفة الله عن طريق يسوع المسيح، فكتاب الخوذرا مثلاً، من الكتب الاساسية للسنة الطقسية ويعتبر في اللحظة نفسها كنزاً لاهوتياً يحوي اضافة إلى الصلوات، تعابير لتوضيح المقاصد الالهية ولفهم اسرارها، والحفاظ على استقامة ايمان الكنيسة.

مار باباي الكبير

واحد من كبار رجالات اللاهوت في كنيسة المشرق هو مار باباي الكبير (551- 628م). إنه أحد أهم من تعرض الى اللاهوت في اسهاماته الكبيرة في القرنين السادس والسابع، فقد وضع ركائز هذا اللاهوت وبلور مفهوم المسيحانيةChristology بصيغة سلسة ومفهومة لعامة الناس.

درس مار باباي الكبير في مدرسة نصيبين وتلقى فيها علومه الدينية والفلسفية قبل ان يصبح راهباً في الدير الذي اسسه ابراهيم الكشكري عام 571م، ثم انتخب رئيساً لهذا الدير. وبعد وفاة البطريرك مار غريغوريوس الاول عام 609م، عين بمنصب نائباً عاماً على اديرة كنيسة المشرق للاعوام من 611 الى وفاته، حيث شهدت فترته ازدهاراً للاديرة والمكرسين فيها.

ترك لنا مار باباي الكبير اربعة وثمانين مجلداً لعل اهمها كتاب الاتحاد والذي فيه يتحدث عن لاهوت المسيح بنهج فلسفي منطقي، حيث يعتبر ان الكتاب المقدس هو القاعدة الرئيسية لدراسة اللاهوت الذي يعده سراً يتعدى ادراك الناس ويتطلب فهمه تقصي آثار علاقة الله مع الانسان ومعرفة يسوع المسيح في الاناجيل.

ومن مؤلفات مار باباي الكبير والتي اخذت مكانها في كتاب الخوذرا مثلاً، ترتيلة بريخ خنانا “تبارك الحنّان” والتي تتلى في احد البشارة والميلاد ” الخوذرا الجزء الاول؟؟ ص 7777″، حيث يسلط مار باباي الكبير الضوء على الولادة العجيبة ليسوع المسيح التي حدثت في فترة نورانية ممجدة من تأريخ البشر، كتحفيز للتـَيـَقــُّظْ والسهر من قبل المؤمنين لاستقبال ” سر التقوى” (1 تي 3: 16 ) طيلة ايام حياتهم. ويشرح مار باباي ايضاً العلاقة المميزة بين الاقانيم الالهية ويقدم ايمان كنيسة المشرق ومعتقدها بهذا الخصوص، حيث يشدد على العلاقة المتكاملة بين اللاهوت والناسوت. ولا تخلو هذه الترتيلة من عناصر تأملية في التدبير الالهي وهي دعوة الى رفع المؤمن الى مراتب روحية سامية، تمهيداً لتذوقه العقلي في حضن اللاهوت، ولا تخلو هذه الترتيلة من شرح عقائدي للعلاقة بين أقنومي المسيح الانساني واللاهوتي.

“تبارك الحنان الذي بنعمته، دبّر حياتنا بالنبوءة * بعين الروح رأى اشعيا، ابن العذراء العجيب * من دون زواج أنجبت مريم، عمانوئيل ابن الله * منها جبل له الروح القدس، جسداً مسجودا كما هو مكتوب * ليكون مسكناً وهيكلاً مسجود له، مع شعاع الآب في بنوّة واحدة * مع بداية الحبل به العجيب، وحّدَه معه بكل وقار[1]* ليتم من خلاله كل ما له “تدبيره”، لخلاص الكل كما يشاء* في يوم بشارته (او ولادته) سبحت له الملائكة، بتهاليلهم في السماء العليا* وكذلك قدم الارضيون السجود، بقرابينهم بكل وقار* واحد هو المسيح ابن الله، يسجد له الجميع في طبيعتيه * وُلد بألوهيته (بلاهوته) من الآب، منذ الأزل وقبل الازمنة* ووُلد بناسوته من مريم، في ملء الازمنة في وحدة الجسد* فلا لاهوته من كيان(طبيعة) الأم، ولا ناسوته من كيان (طبيعة) الآب* محفوظة الطبيعتين في ذاتيهما، بشخص واحد وبنوة واحدة* اينما تكون يكمن اللاهوت، ثلاثة اقانيم في جوهر”كيان” واحد* هكذا هي بنّوة الابن، بطبيعتين شخص واحد* هكذا تعلمت الكنيسة المقدسة، الاعتراف بالابن الذي هو المسيح* نسجد يا رب للاهوتك، ولناسوتك بلا انقسام* واحد هو القوة ربوبية واحدة، مشيئة واحدة ومجد واحد* للاب والابن والروح القدس، إلى ابد الابدين آمين وآمين.

ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ. ܕܡܸܬ̣ܐܲܡܪܵܐ ܥܕܲܡܵܐ ܠܕܸܢܚܵܐ.

ܒܪܝܼܟ݂ ܚܲܢܵܢܵܐ ܕܲܒ݂ܛܲܝܒܘܼܬܹܗ. ܦܲܪܢܸܣ ܚܲܝܲܝ̈ܢ ܒܲܢܒ݂ܝܼܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܒܥܲܝܢܵܐ ܕܪܘܼܚܵܐ ܚܙܵܐ ܐܹܫܲܥܝܵܐ. ܠܝܲܠܕܵܐ ܬܡܝܼܗܵܐ ܕܲܒ݂ܬ̣ܘܼܠܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܕܠܵܐ ܙܘܼܘܵܓ݂ܵܐ ܝܸܠܕܲܬ̤ ܡܲܪܝܲܡ. ܠܥܲܡܲܢܘܼܐܹܝܠ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ ܀ ܕܡܸܢܵܗ̇ ܓܲܒ݂ܠܹܗ ܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܦܲܓ݂ܪܹܗ ܡܚܲܝܕܵܐ ܐܲܟ݂ܡܵܐ ܕܲܟ݂ܬܢܒ݂ ܀ ܕܢܸܗܘܸܐ ܥܘܼܡܪܵܐ ܘܗܲܝܟ̇ܠܵܐ ܣܓ݂ܝܼܕܵܐ. ܠܨܸܡܚܹܗ ܕܐܲܒ݂ܵܐ ܒܲܚܕܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܥܲܡ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܕܒܲܛܢܹܗ ܬܗܝܼܪܵܐ. ܚܲܝܕܹܗ ܥܲܡܹܗ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܕܲܢܡܲܠܹܐ ܒܹܗ ܟܠܗܹܝܢ ܕܝܼܠܹܗ. ܠܦܘܼܪܩܵܢ ܓܵܘܵܐ ܐܲܝܟ݂ ܕܲܫ̣ܦܲܪ ܠܹܗ ܀ ܒܝܘܿܡ ܣܘܼܒܵܪܹܗ (ܐܵܘ ܡܵܘܠܵܕܹܗ) ܫܲܒ̇ܚܘܼܗܝ ܥܝܼܪܹ̈ܐ. ܒܗܘܼܠܵܠܲܝ̈ܗܘܿܢ ܒܪܵܘܡܵܐ ܕܲܠܥܸܠ ܀ ܘܐܵܦ ܐܲܪ̈ܥܵܢܹܐ ܩܲܪܸܒ݂ܘ ܣܸܓ݂ܕܬ̣ܵܐ. ܒܩܘܼܪܒܵܢܲܝܗܘܿܢ ܒܚܲܕ݂ ܐܝܼܩܵܪܵܐ ܀ ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܒܪܵܐ ܕܐܲܠܵܗܵܐ. ܣܓ݂ܝܼܕ ܡ̣ܢ ܟܠܵܐ ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܀ ܕܒܲܐܠܵܗܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܐܲܒ݂ܵܐ. ܕܠܵܐ ܫܘܼܪܵܝܵܐ ܠܥܸܠ ܡ̣ܢ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܀ ܘܲܒ݂ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܝܠܝܼܕ݂ ܡ̣ܢ ܡܲܪܝܲܡ. ܒܫܘܼܠܵܡ ܙܲܒ݂ܢܹ̈ܐ ܒܦܲܓ݂ܪܵܐ ܡܚܲܝܕ݂ܵܐ ܀ ܠܵܐ ܐܲܠܵܗܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܸܡܵܐ. ܘܠܵܐ ܐ݇ܢܵܫܘܼܬܹܗ ܡ̣ܢ ܟܝܵܢ ܐܲܒ݂ܵܐ ܀ ܢܛܝܼܪܝܼܢ ܟܝܵܢܹ̈ܐ ܒܲܩܢܘܿܡܲܝ̈ܗܘܿܢ. ܒܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܕܲܚܕ݂ܵܐ ܒܪܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܘܐܲܝܟܲܢ ܕܐܝܼܬܹܝܗ̇ ܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܐ. ܬܠܵܬ̣ܵܐ ܩܢܘܿܡܹ̈ܐ ܚܕ݂ܵܐ ܐܝܼܬ̣ܘܼܬ̣ܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܐܝܬܹܝܗ̇ ܒܪܘܼܬܹܗ ܕܲܒ݂ܪܵܐ. ܒܲܬ̣ܪܹܝܢ ܟܝܵܢ̈ܝܼܢ ܚܲܕ݂ ܦܲܪܨܘܿܦܵܐ ܀ ܗܵܟܲܢ ܝܸܠܦܲܬ̤ ܥܹܕܲܬ̣ ܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܕܬ̣ܵܘܕܸܐ ܒܲܒ݂ܪܵܐ ܕܗܘ̤ܝܘܼ ܡܫܝܼܚܵܐ ܀ ܣܵܓ݂ܕܝܼܢܲܢ ܡܵܪܝ ܠܐܲܠܵܗܘܼܬ̣ܵܟ݂. ܘܲܠܐ݇ܢܵܫܘܼܬ̣ܵܟ݂ ܕܠܵܐ ܦܘܼܠܵܓ݂ܵܐ ܀ ܬܢܝܼ: ܓ: ܙܲܒ݂ܢ̈ܝܼܢ. ܚܲܕ݂ ܗ݇ܘܼ ܚܲܝܠܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܡܵܪܘܼܬ̣ܵܐ. ܚܲܕ݂ ܨܸܒ݂ܝܵܢܵܐ ܚܕ݂ܵܐ ܬܸܫܒܘܿܚܬܵܐ ܀ ܠܐܲܒ݂ܵܐ ܘܲܒ݂ܪܵܐ ܘܪܘܼܚܵܐ ܕܩܘܼܕ݂ܫܵܐ. ܠܥܵܠܲܡ ܥܵܠܡܝܼܢ ܐܵܡܹܝܢ ܘܐܵܡܹܝܢ ܀

تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق

تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق

أدور هرمز ججو النوفلي

   أن إيمان كنيسة المشرق بالثالوث هو مثل إيمان الكنائس الأخرى، المستند بخاصة إلى تعاليم مجمع نيقية الأول المسكوني (سنة 325)، إله واحد وثلاثة أقانيم. وهذا ما أقرته مجامع كنيسة المشرق، منذ مجمع مار اسحق (سنة 410)، وهذا ما يردده الجاثليق مار آبا الأول الكبير في منتصف القرن السادس، في إحدى رسائله، حيث يقول :” إن هذا الثالوث موجود من الأزل، وهو الذي خلق جميع المنظورات وغير المنظورات، وهو بغير بدء ولا تغيير ولا انفصال، في ثلاثة اقانيم، الآب والابن والروح القدس”.

   لنلق نظرة سريعة على تعاليم كنيسة المشرق، الواردة لدى كتابها ولاهوتييها، لكي نواكب تطور التعليم اللاهوتي فيها، منذ ظهوره حتى بلوغه النضج التام في القرن السابع.

   في القرنيين الأولين للميلاد، كان المسيحيون مهتمين بالتعمق في ديانتهم، والاعتصام بمبادئها السامية، والذود عنها بأقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم الشجاعة التي غالباً ما أدت إلى استشهادهم في سبيل إيمانهم. وكانت لغة التعبير عن هذه الديانة، وهي الآرامية في معظم مناطق بين النهرين، تستقطب اهتمامهم. فما أن انتصف القرن الثاني، حتى قطعت هذه اللغة شوطاً كبيراً نحو الاكتمال، فأخذوا ينقلون أليها معظم أسفار العهدين القديم والجديد، ويضعونها في متناول الشعب المسيحي.

   وأول من برز في القرن الثاني في هذا المجال هو “ططيانس”، وربما نجد عنده العروض اللاهوتية الأولى. فلقد تلقى علموه الدينية في روما على يد القديس يوستينس في القرن الثاني. ومع كونه متأثراً بالغنوصية المنشرة في زمانه، فقد قدم افكاراً لاهوتية رصينة عن الله عامةً، وعن الكلمة الذي يقول إنه العقل الإلهي، وينبثق من الله وهو بكر أعماله، ومبدأ الكون كله. ونستشف من تعابير ططيانس نوعا من تبعية في علاقة الكلمة بالله. أما نظرته إلى الإنسان، فهي انه يتكون من نفس وروح وجسد. وعلى هذا المرتكز، يقدم ططيانس بعض التعاليم أو التوجيهات المسلكية التي تساعد الإنسان على الالتزام بإيمانه وبالأعمال الصالحة.

   وظهر بعده “برديصان” الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني وفي مطلع القرن الثالث، وهو بحق صاحب الشعر السرياني، وقد استنبط الأوزان وضمّن أشعاره أفكاره الدينية وطرائقه الأخلاقية. ولكننا لسنا مطلعين بكفاية على أفكاره اللاهوتية، إذ ضاعت معظم كتاباته، ولم يبق منها سوى كتيب أطلق عليه اسم “كتاب شرائع البلدان”، وفيه حاول المؤلف على طريق الحوار أن يطلعنا على فلسفته التوفيقية. فهو يؤمن بالإله الأوحد، ويعترف بحرية الإنسان، ويميل إلى النهج الثنائي، كما إنه يعترف بأن للأجرام السماوية تأثيراً في طبيعة الأرض والإنسان. إلا أن تفكيره اللاهوتي ما يزال غامضاً وتحتاج إلى المزيد من التوضيح والتنقية.

   وفي القرن الرابع برز كتاب ولاهوتيون قاموا بدور كبير في تطوير اللاهوت المشرقي. ونخص بالذكر منهم: مار شمعون بر صباعي، وأفراهاط الحكيم الفارسي ، والقديس أفرام الملفان.

أما الجاثليق “مار شمعون بر صباعي” فقد عاش في النصف الأول من القرن الرابع، وصار جاثليقا لكنيسة المشرق، واستشهد سنة 341 مع عدد من أساقفة ومن الكهنة والعلمانيين، في مطلع الاضطهاد الأربعيني الذي أثاره شابور الثاني على الكنيسة. إن هذا الجاثليق الشهيد، لم يكتب بحوثا لاهوتية منظمة إذ كان منهمكا في إدارة كنيسة المشرق في ذلك الزمان العصيب، ولكن ظهرت افكاره اللاهوتية العميقة خلال القطع الطقسية التي وضعها، والتي ما تزال متداولة في كنيسة المشرق. فيقول ، في إثر القديس بولس، إن المنضمين إلى المسيح، بالعماد قد نزعوا عنهم الإنسان العتيق، ولبسوا المسيح ، ومن ثمة عليهم أن يثبتوا في الحياة الجديدة التي تلقّوها من الله، وأن تصبح لهم مصدراً للقوة والثقة الوطيدة بالله، المستمدة من إيمانهم الراسخ بمحبته.

   تقدم الفكر اللاهوتي خطوة كبيرة إلى الأمام في زمن يعقوب افراهاط الملقب بالحكيم الفارسي (+346)، الذي هو أحد أقدم آباء كنيسة المشرق. وقد وصلتنا كتاباته التي تحمل فكره اللاهوتي في مختلف المواضيع. عاش افراهاط في القرن الرابع وتوفي قبيل منتصفه. ويبدوا أنه لم يتعرض للاضطهاد الأربعيني مباشرة. وضع 23 مقالة أو بينة (تحويثا)، تناول فيها مختلف المواضيع الدينية، وعالجها بلغة سريانية أصيلة وبإنشاء صافٍ، يخلو من الألفاظ الدخيلة. وفي هذه البينات يظهر فكره اللاهوتي الذي يستند إلى استشهادات كثيرة من العهدين القديم والجديد . وورد قانون إيمانه في المقالة (البينة )الأولى، وهي في الإيمان. فهو يؤمن بالإله الرب والخالق ومعطي الشريعة، والذي أرسل أخيراً مسيحه إلى العالم. ويؤمن أيضاً بسر المعمودية وبقيامة الموتى، ويتكلم عن الله بحسب تجلياته في الأحداث والأشخاص، ولا سيما بيسوع المسيح. وهو يؤمن بوحدانية الله وبثالوثه بدون أن يستعمل مصطلح “أقنوم”. أما لاهوته الكريستولوجي، فسابق للتعابير الفلسفية التي ستستخدم في مجمعي افسس وخلقيدونية. فليس التجسد في نظره تقمصاً، بل هو حضور مؤنس وملموس لكلمة الله. ويستخدم افراهاط عبارات اقتبسها من رسائل القديس بولس:” ليس جسداً، هو هيكل الله، ومسكن الروح القدس…” ولا يسمي مريم ” أم الله” بل يدعوها الطوباوية والبتول، ويقول:” إن يسوع ولد من مريم، التي هي من نسل داود، ومن الروح القدس”.

   أما القديس “أفرام الملفان” (+373) فهو أخصب كاتب ولاهوتي في القرن الرابع، وربما في جميع عصور كنيسة المشرق. لقد ضاعت الكثير من كتاباته، وما بقي منها، هي خير دليل على سعة مداركه وعمق تفكيره اللاهوتي. وبالإضافة إلى تفاسيره الكثيرة للكتب المقدسة، فان لهذا الملفان العظيم مقالات وأبحاثا رائعة، تناول فيها مختلف الموضوعات الدينية ومنها: الله في وحدانيته وثالوثه، الإيمان، التجسد، الخ . . . فمار افرام يعترف بإله واحد وثالوث، ذي طبيعة واحدة وأسم واحد في ثلاثة أقانيم. وينفي تبعية الابن، ويعلن أن الكلمة مساوٍ للآب في اشارة ضد الاريوسية. أما الكريستولوجيا لدى أفرام فما تزال في صيغتها البسيطة البعيدة عن الألفاظ المعقدة والغامضة، كالطبيعة والأقنوم. ويؤكد هذا الملفان وحدة المسيح في ألوهيته وناسوته وفي حقيقة تجسده، وينفي أن يكون أصغر من الآب، بما أنه صورة حقيقية للآب، ومساوٍ له ومولود منه. ويطبق افرام على المسيح ألقاباً عظيمة كثيرة، منا الرب والطبيب والراعي والنبي والحّبر والملك، الخ . ولا أثر في كتاباته لما سيصبح ، بعد قرن، حجر عثرة يفرق المسيحيين ويقسمهم إلى مذاهب شتى متخاصمة. أما المواضيع الدينية الأخرى التي يتناولها افرام في مقالاته وأناشيده، فتعرض لنا لاهوتاً يتقدم في مساره الصحيح، ويلقي الأضواء على الكنيسة والأسرار وعلى مفهوم الإنسان، ويعالج المواضيع معالجة هادئة ورصينة، يستمدها من وحي الله ومن الروح الذي كان ينير حياته كلها وأعماله التعليمية والرسولية.

   أما في القرن الخامس، فإن ما يميز تعليم كنيسة المشرق هو استناده إلى التعليم الكريستولوجي لدى الملافنة الانطاكيين، ولا سيما لدى تيودورس المصيصي “المفسر” . وقد رأينا ما آثاره هذا التعليم من الملابسات وما أدى إليه من الاختلافات ثم الخلافات والانشقاقات الأليمة. فكان على أشدّه في مدينة الرها نفسها بين أسقفها ربولا المتحزب لقورلس الاسكندري، وبين أستاذ مدرستها هيبا المتحمس لتعاليم “المفسر” . وما زاد الطين بلة هو انتشار التعليم المنوفيزي في الرها ومدرستها. وما أكثر الجدالات التي دارت بين أنصار الفريقين. وكان يتزعم التيار المعاكس للتقليد الشرقي علماء مرموقون: أمثال يعقوب السروجي وفيلوكسينس المنبجي وسويريوس الانطاكي. وإذا أدت هذه الجدالات إلى التباعد ثم إلى الانشقاق المؤسف، فإنها أسهمت كذلك في تطوّر الفكر اللاهوتي لدى الفريقين، إذ صارت حافزاً حداهم إلى البحث والتقصي والدراسة واستخدام البراهين العقلية والكتابية، في سبيل دعم نقاشاتهم.

   وفي سنة 482، حاول الإمبراطور البيزنطي زينون أن يحقق الوحدة المسيحية بين الفرقاء المتخاصمين، من أنصار المجمع الخلقيدوني وخصومه، فاصدر مرسوماً أسماه ” هينوتيكون – مرسوم الاتحاد” فيه يشجب نسطوريوس وأوطيخا، ويُطري ذكرى قورلس الإسكندري، ويقترح أن تعاد وحدة الكنيسة حول قانون إيمان مجمع نيقية الأول. فرحب المنوفيزيون بمبادرة الإمبراطور هذه. أما المشرقيون فرفضوها وردوا عليها في مجمع اقاق (سنة 486)، حيث جاء في القانون الأول: ” يجب أن يكون إيماننا بخصوص تجسد المسيح، في الإقرار بالطبيعتين الإلهية والإنسانية. فلا يتجاسرن أحد منا ويدخل الامتزاج والتبادل والاختلاط بين اختلاف الطبيعتين. وإذا تبقى الإلهية في خواصها والإنسانية في خواصها، نوحّد في جلالة واحدة وسجود واحد اختلافات الطبيعتين، بسبب التناسق الكامل وغير المنفصم بين الألوهة والناسوت. وإذا فكّر أحد وعلّم الآخرين أن الألم أو التغيير ملازم لألوهة ربّنا، ولم يحافظ فيما يتعلق بوحدة الشخص في مخلصنا، على الإقرار بإله واحد كامل وإنسان كامل، فليكن محروماً “. وهذا الامر جعل من مجمع اقاق يرفض مبدأ تبادل الخواص، وسيشكل لاحقاً نقطة خلاف بين مختلف التيارات اللاهوتية في شأن الكريستولوجيا.

   وبعد نحو خمسين سنة، إذ كان الجاثليق مار آبا الكبير يقوم بجولة راعوية، في منطقة ما بين النهرين السفلى وفي مقاطعة فارس، تهدف إلى المصالحة، للتذكير بأن المسيح ليس مجرد إنسان أو الهاً مجرداً من ثوب الإنسانية الذي ظهر فيه، بل هو إله وإنسان. ويحرم مار آبا أولئك الذين يدخلون شخصاً رابعاً في الثالوث، وبذلك يردّ على الذين يتهمون المشرقيين بالإيمان بإبنين بذريعة أنهم يفصلون كثيراً الطبيعتين في المسيح.

وفي تلك الغضون، كانت محاولات أخرى تُبذل، في منطقة الروم، في سبيل توحيد المسيحيين. فحاول الإمبراطور يوستنياس أن يفرض صيغة لسرّ التجسد، فقال :” إن واحداً من الثالوث تألم لأجلنا في الجسد”. وإرضاء للمنوفيزيين، الذين كانوا يدّعون إن مجمع خلقيدونية برأ ساحة تيودورس المصيصي وتيودوريطس القورشي وهيبا الرهاوي، حرم يوستنياس عام 544 بعض من كتابات كل من هؤلاء اللاهوتيين الثلاثة (حركة الفصول الثلاثة). وحينما لم يرضى المنوفيزيون بجميع التنازلات التي قام بها الإمبراطور في سبيل تقريبهم من الخلقيدونيين ومن المشرقيين، شنّ عليهم اضطهادا عاتيا كاد أن يستأصلهم من أرض الروم، لو لم تتداركهم الإمبراطورة تيودورة التي استعانت بيعقوب البرادعي في سبيل إعادة تنظيم المذهب المينوفيزي في الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية.

   أما المجمع الذي عقده الجاثليق يوسف سنة 554 فيبدو إنه لم يطلع على ما جرى في المجمع القسطنطيني الثاني من التوضيحات في التعليم الخلقيدوني المتعلق بالأقانيم، فاكتفى بإعادة التأكيد على الإيمان بمسيح واحد هو إله كامل، كلمة الله وإنسان كامل من لحم ودم، وله نفس ناطقة شبيهة بنفسنا ومماثلة للبشر ما خلا الخطيئة.

   وفي ذلك الزمان، حاول ليونس البيزنطي اللاهوتي أن يحدّد بعض الألفاظ، وأن يميز الأقنوم (هيبوستاز) عن الطبيعة (كيانا). فقال إن الأقنوم هو الطبيعة “المفردة” بالأوصاف الخاصة بها، مثل اللون والزمان والمكان، الخ.. والتي تميزها عن بقية الاقانيم من النوع نفسه. أما الطبيعة، فهي ما هو “مشترك” للجميع، والأقنوم هو الخاص بكل واحد، ويمكن أن تكون الطبيعة كاملة بدون أن تقوم بذاتها، وبدون أن يكون لها أقنومها الخاص بها. ففي التجسد طبيعتان: الأولى طبيعة الله، مسندة باقنومها الطبيعي الذي هو اقنوم الكلمة. أما طبيعة المسيح الإنسانية، مع كونها كاملة، فهي لا تقوم بذاتها، ولكنها ليست بغير اقنوم، بما انها تقوم في اقنوم الكلمة. وإذا اردنا تحديد نوعية الاتحاد الناتج إذ ذاك ، فلا يسعنا أن نسميه اتحاد الطبيعة، بما أن الطبيعتين قائمتان بعد الاتحاد، ولا الاتحاد الشخصي، بما أن كل طبيعة ليس لها اقنوم خاص. فنسميه إذن اتحادا اقنوميا، وثمة تبادل الخواص، وفي وسعنا أن نؤكد إن الكلمة قد تألم وصلب.

   وجاء مجمع ايشوعياب الأول سنة 585 رداً على المجمع القسطنطيني الثاني، وعلى تحديده للاقنوم. فمجمع ايشوعياب يعلن هراطقة جميع الذين ينسبون إلى الطبيعة والى اقنوم الالوهة آلام طبيعة المسيح الإنسانية. وفي وسط الأزمنة التي أثارها حنانا الحديابي بطرحه آراء جديدة، يذكر آباء كنيسة المشرق بنظريتهم في الكريستولوجيا الرسمية التي يتمسكون بها، ويقولون :” إن المسيح مولود أزلياً في لاهوته من الآب، من دون أم وهو مولود، هو بعينه ولكن لا بالشكل نفسه، في إنسانيته من أم بدون أب، في الأزمنة الأخيرة. إن المسيح، ابن الله، تألم في جسده. إلا أن المسيح ابن الله كان في طبيعة ألوهيته فوق الآلام. إن الإله الكلمة احتمل هوان الآلام في هيكل جسده، بالاتحاد السامي الذي لا ينفصم ولو أنه لم يتألم في طبيعة ألوهته”.

   وعلى عاتق باباي الكبير(+628) كانت تقع المهمة الكبرى في تحديد هذه التعابير وايلائها صيغتها النهائية. إنه شخصية فذّة في كنيسة المشرق. وقام فيها بدور بارز بخصوص الحياة الرهبانية، وفيما يتعلق أيضاً بإدارة الكنيسة في الربع الأول من القرن السابع، إذ منعها كسرى الثاني أبرويز من إقامة جاثليق لها منذ سنة 609. وقد دام هذا المنع حتى مصرع العاهل الفارسي سنة 628. وبالإضافة إلى ذلك قام باباي الكبير بدور رئيس بتطوير الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، حيث اسهم في توضيح اللاهوت المستند من كتابات الآباء القبدوقيين، والى أساتذة مدرسة انطاكيا الثلاثة الشهيرين: ديودورس الطرسوسي، وتيودورس المصيصي، ونسطوريوس. ووضع كتابه ” في الاتحاد” الذي فيه عرض نظرية كنيسة المشرق في الكريستولوجيا وفي المواضع اللاهوتية الأخرى، من وحدانية الله وثالوثه وغيرها. أما تعليمه الكريستولوجي، فيعطينا تماما فكرة كنيسة المشرق عن المواضع التي دارت حولها النقاشات الحامية والجدالات الساخنة في القرن الخامس، والتي تناولناها بإيجاز في الفصول السابقة.

   ولكي يوضح باباي طريقة اتحاد الطبيعتين في المسيح، يبدأ بتحديد الألفاظ الثلاثة الأساسية: الشخص، الاقنوم، الطبيعة، فيقول إن الاقنوم هو الطبيعة الإنسانية المفردة، فطبيعة الاقنوم مشتركة بينه وبين جميع الاقانيم المتشابهة ولكنها تتميز عن الاقانيم المتشابهة بالخاصية المفردة التي يمتلكها الشخص. أما الشخص، فهو خاصية الاقنوم التي تميزه عن الآخرين. وقد زودنا الأب لويس ساكو –البطريرك حالياً- (نجم المشرق 8 لسنة 1996، ص 539-543) بنبذة مبسطة عن الكريستولوجيا لدى باباي الكبير، وعن الألفاظ التي دارت حولها النقاشات. فيقول إن الطبيعة (كيانا) تعني الطبيعة المجردة التي تحد العناصر المشتركة بين أفراد النوع الواحد، ويسميها المشرقيون “الطبيعة أو الجوهر العام: اوسيا كوانيتا”. أما الاقنوم (هيبوستاز، قنوما) فهو الجوهر الفردي “اوسيا يحيذيتا” القائم بذاته وغير قابل الانقسام، ويتميز عن الباقي بالخواص التي يمتلكها. وأما الشخص (فرصوفا)، فهو خاصية الاقنوم التي تميزها عن الآخرين، وهو الفاعل واليه تنسب الأعمال. والشخص ثابت لا ينقسم. وفرادته تقوم على صفات خاصة. الشخص هو الخواص “ديلاياثا” التي تفرده وتظهره، وهو ثابت، أما الاقنوم فمتحرك. ويعطينا باباي مثلا ليبين الفرق بين الاقنوم والشخص، إذ يقول :” حينما يقبل رجلان من بعيد، تعلم انهما اقنومان، ولكننا نجهل بعد من هذا ومن ذاك”. وهكذا فان الاقنوم والطبيعة، في نظر باباي، لفظان يغطيان حقائق متقاربة جداً، في حين أن الاقنوم لدى البيزنطيين هو بالأحرى مرادف للشخص. فالخلاف ليس على الجوهر، بل على المعنى الذي يعطى لبعض الألفاظ. فيقول المشرقيون إن المسيح لم يتخذ طبيعة بشرية بنوع عام، بل طبيعة واقعية وفردية، أي ما يسمونه “اقنوما”. والكلام عن اتحاد الكلمة والإنسانية، في اقنوم واحد، يعني الإعلان عن وحدة الطبيعة، وهذا ما ينادي به المنوفيزيون. وإذا سألنا باباي أن يشرح لنا كيفية هذا الاتحاد، فهو يكتفي بالقول إنه إتحاد لا يوصف ولا يُحَدّ. ولكنه يرفض تعبير “الاتحاد الأقنومي” إذ أن الاقنوم، مثل الطبيعة، لا يمكن مشاركته. فيفضل باباي أن يستخدم عبارة “الاتحاد الشخصي”.

   وإذا استخدمت كنيسة المشرق، حتى القرن السادس، هذه العبارة، وهي طبيعتان وشخص واحد. فإنها بعد المجمع القسطنطيني الثاني، وتناقضاً مع تعاليم حنانا الحديابي ثم سهدونا، قدمت هذا التوضيح: في المسيح طبيعتان وأقنومان وشخص واحد. ونتج من هذا الموقف نفي تبادل الخواص: ” نقول إن المسيح صلب، وأن المسيح مات وقام، ولكننا لا نقول إن الله صلب ومات”. ومع ذلك يوضح باباي فيقول :” أن المسيح مات في ناسوته وليس في لاهوته ولكن بدون أن يكون بعيداً عنه (أي عن الناسوت). فإنه متحداً معه، تألم كل ما كان مناسباً لطبيعته”.

   هكذا ، فالتعليم الذي تبنته كنيسة المشرق منذ القرن الخامس، والذي علمته في مدارسها اللاهوتية الشهيرة، تطور وبلغ نضجه في القرن السابع. وإذا قامت محاولات هنا وهناك تهدف إلى إعادة النظر في التعليم التقليدي، مثل محاولات حنانا وسهدونا وغيرهما، فإنها لقيت معارضة شديدة في كنيسة المشرق وباءت بالفشل. فالمشرقيون عدّوا ذواتهم أنهم وحدهم الأرثوذكس أي ذوو الإيمان القويم، حتى أن مجمع سبريشوع (سنة 596) يقول: “إننا نتلقى هذا الإيمان تماماً كما تلقاه آباؤنا القديسون، وكما عرضه الشهير بين الأرثوذكس الطوباوي تيودورس الانطاكي، أسقف مدينة المصيصة، مفسّر الكتب الإلهية”. وهذا ما سيؤكده في القرن الثالث عشر مبعوث كنيسة المشرق والسلطات المغولية الحاكمة آنذاك، الربان صوما، أمام الدوائر الرومانية، وأمام ملوك البلدان الغربية.

   ومرّت قرون طويلة وكنيسة المشرق ما تزال متمسكة بإيمان آبائها وبالحقائق الكبرى التي تشكل بنية الديانة المسيحية. وفي عصورها الذهبية، قدّمت للعالم مجموعة جليلة من العلماء واللاهوتيين، وحملت راية المسيحية إلى بلدان بعيدة في آسيا الشرقية والجنوبية. وستمرّ قرون أخرى عديدة قبل أن تظهر فيها حركة أدّت إلى ضمّ شطر منها إلى الوحدة مع روما، في القرن السادس عشر، وبذلك ازدادت الهوة عمقاً بين الفئتين المتنازعتين من كنيسة المشرق. وكان على المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن يسهم اسهاماً فعالاً في ردم هذه الهوّة، وفي التخفيف من وطأة الخلافات القائمة بين مختلف الفئات من كنيسة المشرق، وبينها وبين الكنيسة الجامعة.

   وفي ختام هذه الحقبة من تاريخ كنيسة المشرق، نود أن نستبق الأحداث ونقدم للقراء مقاطع من الإعلان الكريستولوجي المشترك الرائع بين الكنيسة الكاثوليكية الممثلة بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وكنيسة المشرق الآشورية الممثلة بقداسة الجاثليق مار دنخا الرابع :

   ” نحن نعترف ، كورثة وحماة للإيمان الذي تلقيناه من الرسل كما تمت صياغته من قبل آبائنا المشتركين في القانون النيقاوي، برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي تزل في ملء الزمان من السماء وصار انساناً من أجل خلاصنا، كلمة الله، الشخص الثاني من الثالوث القدوس، تجسد بقدرة الروح القدس باتخاذه جسداً من مريم العذراء، بعثت فيه روح عاقلة، اتحد معها بلا انحلال منذ لحظة تكوينه.”

   ” لذا، فان ربنا يسوع المسيح هو إله حق وإنسان حق ، تام في ألوهته وتام في ناسوته، متساوْ في الجوهر مع الآب، ومتساوٍ في الجوهر معنا بكل الأشياء، ما عدا الخطيئة. ألوهته وناسوته متحدان بشخص واحد، بدون اختلاط أو تغيير ، بدون انقسام أو انفصال. فيه تم الحفاظ على اختلاف طبيعتي الالوهة والناسوت، بكل خصائصهما وقدراتهما وعملهما..”.

   ( فالمسيح ليس “إنساناً عادياً ” تبنّاه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هي الحال في الصالحين والأنبياء. لكنه الله الكلمة الذي لا يتغير، المولود من أبيه قبل كل العالم بلا بداية بحسب ألوهته، ولد من أم بلا آب في آخر الزمان بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته مريم كان أبداً ناسوت أبن الله نفسه. ولهذا السبب تتوجه كنيسة المشرق الآشورية بالصلاة إلى مريم العذراء على أنها “والدة المسيح إلهنا ومخلصنا”. في ضوء نفس الإيمان هذا يتوجه التقليد الكاثوليكي إلى مريم العذراء على أنها “والدة الله” وكذلك ” والدة المسح”. إننا نعترف كلانا بشرعية وصحة هذين التعبيرين لنفس الإيمان، ونحترم كلانا تفضيل كل كنيسة لتعبير على الآخر في حياتها الليتورجية وعبادتها..). (الحوار السرياني – برو اورينتي 1 فيينا، حزيران 1994، ص 427 – 430).

 

 

الكريستولوجيا في مجامع كنيسة المشرق

الكريستولوجيا في مجامع كنيسة المشرق

عادل دنو

المقدمة

ان كنيسة المشرق كنيسة رسولية يؤكد تاريخها ان من بشرها هو احد الرسل الاثني عشر – مار توما الرسول. وهي قسم من الشرق المسيحي الذي عانى الامرين من اضطهاد السلطات الحاكمة ومن كثرة الجدالات اللاهوتية. ان مبحثنا هذا سيتناول كنيسة المشرق بالذات، التي كانت لها مراكز اسقفية عديدة، شملت مناطق في بابل وآثور وفارس والهند والصين ومناطق أخرى كثيرة.

كان اهم مراكزها كرسي المدائن ساليق وقطيسفون، بسبب اتخاذ هذه المدائن مقرا للامبراطورية الفارسية يومذاك. وكان موقف هذه الكنيسة مثل الكنائس الاخرى معبرا عن الايمان بانهم اعضاء كنيسة واحدة لا بل التزم آباؤها اكثر من مرة بالمعاونة على تنظيم الكنيسة واستقدام القوانين الموضوعة في مجامع الكنسية الغربية.

هدف البحث

نهدف دراسة والتعرف الى الظروف التي احاطت بكنيسة المشرق ومجامعها ومحاولة التعرف على الطروحات الكريستولجية التي دارت وتأثيراتها الخارجية والداخلية في كنيسة المشرق.

مجمعية كنيسة المشرق

  إن عقد المجامع كان ملازما لنشأة الكنيسة. هذا ما يخبرنا عنه كتاب أعمال الرسل (15: 1-29) وهو يروي قصة الجدل الذي وقع بين المسيحيين الأوائل عن الختان. وفي أول مجمع ذللت الازمة وبقي” باب الايمان” مفتوحا للوثنيين وستواصل كلمة الرب سيرها (الكتاب المقدس، 1999، هامش 24، ص 417). توالى عقد المجامع عموما في الكنيسة التي كانت تهدف الى تحديد العقيدة المسيحية، وتوضيحها وصونها من الأضاليل والهرطقات التي كانت تنساب اليها، لتنحرف بها وتشوهها. (صفير 2003، بدون ترقيم ). بما ان الكنيسة هي الام الحانية على ابنائها تهديهم الى طريق النور، ولان ابنائها هم جماعة ايمان فان رئاساتها هي مهمة صفتها الجماعية تهدف الى الخدمة، وبخاصة من الناحية الروحية. وعليه تكون تواصل في التعليم القويم وبفضل الجماعية فيشكل الاساقفة مصافا واحدا وبفضل هذه المجمعية يلتقون ويبحثون ما يخص الكنيسة من امور على هدي الروح القدس (حبي، 1999، ص19).

 

وكنيسة المشرق من الكنائس التي ظهرت صيغة المجمعية فيها بجلاء (حبي، 1999، ص6). وقد ترك اباء الكنيسة الاوائل تواريخ المجامع التي عقدوها وتم حفظ اعمال الكثير منها. وما يزال المخطوط الاصلي محفوظا في خزانة الرهبانية الكلدانية قام بترجمتها الى الالمانية براون في شتوتكارت- فيينا 1900 وعمل العلامة شابو على نشرها في باريس 1902، ( حبي، 1999، ص8). وترجم الاب يوسف حبي جامع المجامع المشرقية الى العربية واضاف اليها اعمال مجامع اخرى، مثل مجمع البطريرك طيمثاوس الاول سنة 790، ومجمع البطريرك طيمثاوس الثاني سنة 1318 ( حبي، 1999، ص6). ولعله محق الباحث عزيز لان يكتب “لسنا نبالغ اذا قلنا ان الكنيسة النسطورية كانت من اقوى الكنائس انتشارا في قارة اسيا وذلك على الصعيد العالمي”( عطية 2005، ص 293) لذا فقد احتدم النقاش بين رؤساء الكنائس في العهود الاولى للمسيحية حول موضوع المسيح والتجسد وصار هناك خلاف لاهوتي حول بعض المصطلحات التي شكلت اسسا وقتذاك لتبادل الحرم. وهكذا تبدأ قسم من مجامع كنسية المشرق، البحث في مسائل تمس الثالوث والمسيح، وفي وقت ما تبدأ مرحلة المجامع العقائدية واللاهوتية ( حبي، 1999، ص29). وكانت مدينة الرها اخذة في النمو لتصبح قلعة للتراث السرياني في الوقت الذي كانت فيه انطاكية ترتدي مسوح الهلينية وقد ظلت كلا من هاتين المدينتين تتمسكان بقرارات مجمع نيقيا المسكوني حتى العقود الاولى من القرن الخامس. ولم يكن هناك اية بوادر تشير الى شقاق محتمل بين هذين المركزين الهامين للمسيحية المشرقية، وذلك حتى سنة 431 في مجمع افسس الاول. (عطية،2005، ص 303-304). وحينها تفجر الخلاف العقائدي حول المفهوم الكريستولوجي.

 

الكريستولوجيا

ان الكريستولوجيا هو علم يبحث في طبيعة المسيح نفسه. وكان أن المسيحيين في كل مكان ينطلقون في ايمانهم من تعليم الرسل والبشرى التي وصلت اليهم متضمنة تبني يسوع نفسه وصراحة لقب” ابن الله” (يوحنا، 10: 36)، وتبني الرسل للقيامة المجيدة كأساس لانطلاق البشرى الى العالم. وخلال القرنين الاولين انشغل المسيحيون في التعمق بمفاهيم دقيقة والدفاع عنها بكتابات وأقوال لا بل حتى الشهادة من اجلها بايمان عميق ( النوفلي،أدور، 2007).

الكريستولوجيا قبل القرنين الرابع والخامس

انطلقت الافكار اللاهوتية في المشرق الذي كانت لغته السريانية (الارامية) من خلفية رسولية وثقافة موغلة في القدم وخصائص راحت تتبلور رويدا رويدا من ضرورات الخلفية السياسية التي كانت تعيش فيها الكنيسة واستفحال العداء بين الدولتين الكبيرتين المسيطرتين على العالم الاوسط انذاك ( حبي، 1999، ص37).

ولم تكن هناك خلافات مذهبية لاهوتية شديدة التباين في الاراء لكيما تؤدي الى ابتعاد الكنائس عن بعضها البعض وبمعنى اخر بين الكنيسة في الشرق والكنيسة في الغرب. والاختلاف الذي نشأ من الداخل كان شديدا ادى الى انشقاق الكنيسة الى شرق وغرب، مذهب الطبيعتين في الشرق ومبدأ الطبيعة الواحدة في الغرب وما نقرأه في المصادر عن الغرب في عرف المشرقيين كان يقصد به مناطق غرب الفرات وليس الغرب في عرف اليوم او ما يقصد بها بلدان اوربا (ساكو، 1981، ص341-356).

لذا فالقرون الاولى ظهر الفكر اللاهوتي بسيطا واضحا وكما ورد لدى ططيانس في القرن الثاني( 120-189) جعل الله بدء كل شيء ثم الكلمة كانت فيه وجاء الى الوجود ويشبهه اذ قال “اننا نوقد من مشعل واحد نيران عديدة من دون ان ينطفئ المشعل ولا ان تنقص ناره باشتعال نيران كثيرة، كذلك الكلمة المولود من قدرة الاب، لا ينقض وجوده في الاب بخروجه منه.( الخطاب 4، 5) (قنشرين، بدون تاريخ).

هكذا كانت المفاهيم اللاهوتية بسيطة التعبير تستمد مصطلحاتها من واقع وبيئة الانسان نفسه وليس كتعابير الفلسفة الاغريقية التي كانت تحلق في الفكر المجرد. وظهر هذا اللاهوت وخاصة ما يتعلق بالكريستولوجي لدى مار شمعون برصباعي (+341) في القطع الطقسية التي ألفها، ويعقوب افراهاط الحكيم (+346) صاغ لاهوته ضمن بيناته الثلاثة والعشرين ويوضح ان التجسد هو حضور ملموس لكلمة الله، ويعتبر الاب البير ابونا ان افراهاط هو من وضع الاسس الاولى للاهوت الشرقي ( ابونا 1985، ص 57). أما القديس مار افرام (+373) فاوصاف افكاره بسيطة خالية من المصطلحات المعقدة، ومما قيل عن اختلاف الفكر بين الشرقيين والفكر الغربي المتمثل بالفلسفة الاغريقية واللاهوت الغربي هو “كان الغرب يتطلع إلى السماوات الزرقاء بشوق، أما الشرق فكان يبحث عن اللقاء مع الله في أعماق قلبه. كان الغرب يحبّ الأرض ويرى الدنيويات في السماء. أما الشرق فكان يحبّ السماء ويرى في الأشياء الأرضية رموزاً سماوية ويبحث عن الصور الأبدية في الدنيويات المؤقتة.” (كاريلين، بدون تاريخ).

ويؤكد برحذبشبا عربايا(605)، في كتابهسبب تأسيس المدارس، عن التقليد الجاري في مدرسة الرها، ويقول أن المفسرين كانوا يعتمدونقبل انتشار شرح المفسر الكبير، أي تيودوروس المصيصيكتابات القديس أفرام التي هي نقل لتعاليم أدي مؤسس الجماعة المسيحية الأولى في الرها. ( ابونا، 1985 ص 24). وفي كتاباته يقول مار افرام بطبيعتين في المسيح.

ويمثل هؤلاء الآباء كنيسة المشرق الموحدة التي لم يكن قد مسها الانشقاق بعد. اذ ان الانشطار حصل في القرن الخامس الى شطرين الاول الذي سمي بالكنيسة النسطورية والثاني الكنيسة السريانية اليعقوبية وهذه الاسماء اطلقت عليهما من قبل المناوئين لهما والمعتقدين باعتقادات مغايرة، ويعتقد الباحثون انه كانت هناك اسباب سياسية غذت هذا الانشطار.

مجامع كنيسة المشرق التي ناقشت مفهوم الكريستولوجيا

اختلفت اغراض واهداف عقد المجامع بحسب الاوضاع والظروف والدواعي التي كان يرى الآباء ضرورة معالجتها. ابرز هذه الدواعي كانت التظيم ووضع القوانين والدفاع عن ايمان الكنيسة ضد البدع والهرطقات. وما يهمنا هنا هي المجامع التي ناقشت مفهوم الكريستولوجيا ومنها:

مجمع مار اسحق 410

لقد كان هذا اول مجمع رسمي احتفظت الكنيسة بأعماله. تراس المجمع مار اسحق الجاثاليق ومار ماروثا الموفد من الغرب في كنيسة كوخي الكبرى التي في ساليق. واستمع الاساقفة الى الرسالة القادمة من قبل اساقفة الغرب (ابونا 1985، ص62). واهم ما ورد في مطلع نص مجمع مار اسحق انهم قبلوا “عقيدة ايمان ابائنا الاساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، وما اضاف اليها اساقفة الفرس” (حبي، ص58)، ويحدد الاباء غرض ذلك بقولهم انهم “بمجيئهم واجتماعهم تبطل الاراء المتضاربة، ولن يكون بعد انقسامات وخلافات، ويتم قبول ما ينبغي ويحق ان يتم من اجل نظام الكنيسة” (حبي، 1999، ص61).

اما لماذا تأخرت كنيسة المشرق من هذه الشركة مع الكنيسة الجامعة فتعود الى معاناتها من الاضطهادات الشنيعة التي مورست بحق رؤسائها وجاثليقها مار شمعون برصباعي وخلفاؤه ثم بقائها بلا رئيس مدة اربعين سنة خلال القرن الرابع وفقدت الكنيسة العديد من مؤمنيها.

ويهمش الاب حبي قائلا “يؤكد المجمع الاول لكنيسة المشرق ايمان هذه الكنيسة بالتقليد الرسولي، عقائديا وقانونيا، وقناعة راسخة بكنيسة المسيح الجامعة. وسوف يؤكد ذلك مجمع مار يهبالاها الذي ينعقد عام 420 بشكل صريح وتفصيلي. (حبي 1999، ص 81).

مجمع اقاق 486

انعقد مجمعان قبل هذا المجمع وكان ثانيهما مجمع مار داديشوع 424 قد اتخذ قرارات مهمة للتحرر من وصاية “الاباء الغربيين” ولرغبة اباء المجمع القضاء على النظرية التي كانت تعتبر المسيحيين في البلاد الفارسية حلفاء للامبراطورية الرومانية المسيحية واعداء لملك الملوك. كما مهدوا للاستقلال الاداري الذي سيؤدي قريبا الى الاستقلال العقائدي للكنيسة الشرقية (ابونا 1985، ص 77). ويقول الاب حبي ان هذه “اول مرة تعتمد كنيسة المشرق على نفسها كليا دون اللجوء الى “عون خارجي”. سواء من الدولة والحكم المدني ام من كنيسة الغرب ومسيحيته. (حبي 1999، ص 117).

بحلول القرن الخامس اشتدت تيارات الجدالات اللاهوتية في الغرب وتركزت حول الفكر الكريستولوجي بوجه خاص. حتى ظهر في مدرسة انطاكية اعتقادا تسيده تيودورس المصيصي وتأثر به نسطوريوس الذي اصبح بطريركا للقسطنطينية ودافع عنه مما حدا برجال كنائس اخرى لرفض آرائه. وبدأت الخصومة بين الكرسي الاسكندري والكرسي البيزنطي أو القسطنطيني. ادى هذا الخصام الى انعقاد مجمع افسس عام 431 بدافع من الامبراطور تاودوسيوس الثاني ليفض الخلاف الا ان ما حدث كان تحريم كل طرف للطرف الاخر في مجمعين مختلفين عقد الاول في 22 حزيران وعقد الثاني في 24 حزيران من العام ذاته. وفي عام 435 ارتقى كرسي الرها الاسقف هيبا الذي قام بنقل كتابات ” المفسّر” تيودوروس من اليونانية الى السريانية (ابونا 1985، ص85).

في الوقت الذي كانت الكنيسة في الغرب قد وقعت في جدالات كانت تعاليم تيودورس المصيصي وديودوروس الطرسوسي أو المذهب النسطوري حسب ما دعاه البعض، قد انتشرت في كنيسة المشرق عن طريق مدرسة الرها التي كانت وقتها اكبر مدرسة سريانية واشهر مركز لنشر الثقافة في الشرق.

وفي ذات المدرسة بدأ مذهب الطبيعة الواحدة او المونوفيزية بالتغلغل بين الاساتذة والتلاميذ واحاطت الكنيسة بخلافات وجدالات واضطهادات صعبة ادت الى نشوء شقاق في كنيسة المشرق ذاتها. وكان السبب هو الاحداث السياسية والدينية التي جرت في المنطقة الشرقية وكان لها دور هام في توجيه الامور فيها (ابونا 1985، ص 95).

فيتبنى قسم من الابرشيات مذهب الطبيعتين والاعتماد على تفاسير ديودورس الطرسوسي وثيودورس المصيصي في هذا المجال باعتباره منسجما والتقليد القويم. ويذهب قسم اخر مذهب الطبيعة الواحدة يتقبله بعض اساتذة مدرسة الرها وتلاميذها ويتغلغل في المشرق ككنيسة معارضة لكنيسة سلوقية- قطيسفون (المدائن) (حبي 1999، ص 143). وهنا مارس برصوما نفوذه لقتل واضطهاد الذين اعتنقوا المونوفيزية مذهبا ولتعيش الكنيسة احداثا دامية.

وهنا عقدت كنيسة المشرق النية والواقع في مجمع مار اقاق الذي سوف يكرس بداية الانحياز الى المذهب النسطوري (حبي 1999، ص 143). ويرد التعليم الكريستولوجي الخاص في هذا المجمع كما يلي :” وينبغي ان يكون ايماننا ايضا، فيما يخص تجسد ( تدبير) المسيح، بالاعتراف بالطبيعتين الالهية والبشرية، ولا يحق لاحد ان يتجاسر فيدخل الاختلاط، والمزج، او البلبلة في اختلاف هاتين الطبيعتين، ولكن، (الطبيعة) الالهية مع بقائها وديمومتها في خواصها، والبشرية في خواصها، توحدان في سمو واحد، وسجود واحد، اختلافات الطبيعتين، بسبب التلاحم الكامل واللامنحل للاهوت مع الناسوت. ” (حبي 1999، ص 167).

ولا شك ان هذا البيان قد انتقى تعابيره من تفاسير ثيودورس التي كان لها تأثير كبير على مدرسة الرها وتلاميذها، وبغلق المدرسة وانتقال معظم الاساتذة والتلاميذ الى نصيبين كرس هذا الفكر في عموم المسيحية ضمن الامبراطورية الفارسية.

مجمع مار بابي 497

فيما اكد مجمع مار بابي عام 497 على مقررات مجمع مار اقاق وما تضمنه من تعاليم بشأن الثالوث والمسيح (حبي 1999، ص 190) لم يتناول تفاصيل في الكريستولوجي بل كان هدفه الاساس هو مقاومة التفسخ الذي كانت تشيعه المزدكية بناء على رغبة الملك زامسب ووضع قوانين لتنظيم الزواج.

مجمع ما ابا 544

مرة اخرى اشتد الخلاف في الغرب بين المونوفيزيين والخلقيدونيين وتراشق الطرفان وبتدخل السياسيين في معظم الاحوال بالحرم. وتذبذب اساقفة الرها بين التعليمين الى ان تدخل الطرف النسطوري حيث تم اقامة مسيرة واكرام لديودورس وتيودورس و” القديس نسطوريوس” عام 519 في بلدة قورش وهي قرب انطاكيا. (ابونا 1985، ص 136).

مرت الكنيسة بفترة عصيبة وسادت الفوضى والمنافسة على الرئاسة كانت بأمس الحاجة الى من ينهض بها ويصلحها ويزيل آثار الرئاسة المزدوجة ( ابونا 1985، ص 124)، وهذا ما حصل على يد مصلح كبير اسمه مار ابا ويقول عنه الاب حبي انه كان عالما ومعلما ومفكرا ومؤلفا (حبي1999، ص 207) لذا عقد مجمعا عام 544 صدرت عنه عدة قرارات مهمة. ونشر العلامة شابو اربع وثائق من الست الباقية من اعمال مار ابا ومجمعه المتجول في متن الاعمال المجمعية الرسمية. وتتناول الوثيقة الثانية استقامة (ارثوذكسية) الايمان حيث يرد فيها:

” … كما انه بنعمة الروح القدس عرف التلاميذ ( التعليم) بدقة، فتعلموا من الروح القدس عينه ان المسيح ليس انسانا محضا وحسب، ولا الها مجردا من لباس الناسوت( البشرية) الذي تجلى فيه. بل ان المسيح اله وانسان، فهو ناسوت مسح (باللاهوت) بالمسحة، كما قيل: لاجل ذلك مسحك الله الهك مسحة الفرح اكثر من رفاقك (مزمور 44: 8)، وهو ما يعرفنا بالناسوت. وايضا: في البدء كان الكلمة (يوحنا 1: 1) وهو ما يظهر اللاهوت (الالوهية) الذي هو ازلي من الابد. ..

فعلمنا هكذا اسم المسيح بشأن الاب والابن والروح القدس، وفهمنا منه ما يخص ناسوته ( بشريته)، وبه ختام معتقد المسيحية بأسره.” ( حبي 1999، ص 272).

ويتضح من الوثيقة انها تستعرض صورة هذا الايمان الذي يظهر صحيح التعابير في خطوطه الكبرى فيما يخص الاعتراف بالثالوث وبوحدة الشخص في يسوع المسيح الذي هو اله واتخذ الطبيعة البشرية التي بها احتمل الالام والموت فداء عن البشر( ابونا 1985 ص 148). وبخصوص قانون الايمان فكان لا بد ان يتوضح رسميا في مرحلة ظهرت فيها الاختلافات المذهبية الشديدة ويضع النقاط على الحروف ويصدر ما ابا قانونه الاخير القائل ” اراؤنا كلنا نحن اساقفة المشرق مبنية على الامانة التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر، وفي تفاسير الكتب على مار تياذورس.” وهكذا فالاشارة واضحة ان كنيسة المشرق ” تيودورية” اكثر من انها ” نسطورية” (حبي 1999، ص 235، و288).  

مجمع مار يوسف 554

تطرق هذا المجمع الى صورة الايمان عموما حسب منظور كنيسة المشرق فيها تعابير واضحة ضد القائلين بالطبيعة الواحدة. فيقول المجمع :” لقد حفظنا قبل كل شيء المعتقد القويم القائل بكيانين (طبيعتين، تري كيانين) في المسيح، هما لاهوته (الوهيته) وناسوته (بشريته، ناشوثيه)، وحافظنا على خواص الكيانين (الطبيعتين)، وازلنا بذلك من الوسط جميع القلاقل والاضطرابات والتغيرات والاختلافات”.

مجمع مار حزقيال 576

اهم ما قام به هذا المجمع هي وضعه صورة ايمان بالثالوث والتجسد والفداء، اضافة الى تشريع قوانين اخرى ضد بدعة المصلين وفي تنظيم الحياة الكنسية. وورد في فكر المجمع الكريستولوجي:” لقد اتضع هو ذاته طوعا، من اجل خلاص طبيعتنا العتيقة، المستهلكة بافعال الخطيئة. اتخذها بلا انفصال هيكلا تاما لسكنى لاهوته، من مريم العذراء القديسة. حبل به وولد منها بقوة العلي، مسيحا متانسا ينبغي ان يعرف ويعترف به في طبيعتين: الله والانسان، وابن وحيد (واحد) (حبي 1999، ص 325). ولم يشر اي من مجمعي مار يوسف ومجمع مار حزقيال الى تيودورس او غيره كمفسرين او التطرق الى اي خلاف في عقيدة الكريستولوجي..

مجمع ايشوعياب الاول 585    

هدف المجمع الى اكمال امرين تحديد الايمان القويم، وتحديدات شرائع الحياة الفاضلة والمعقولة، وفق تعليم الرسل (حبي 1999، ص 354). وكان السبب في انعقاد المجمع شرح قوانين المجامع السابقة والتاكيد عليها وكانت موجهة خاصة ضد مذهب الطبيعة الواحدة الذين صار لهم مطران في تكريت وضد انصار حنانا الحديابي (ابونا 1996، ص163). وكان حنانا في مدرسة نصيبين وظهرت في تعاليمه نزعات لا تلائم التعاليم الشرقية التقليدية وتم طرده من قبل بولس مطران نصيبين ولكنه عاد مديرا للمدرسة وتخلى عن تفاسير تيودورس المصيصي حتى وفاته سنة 610 منضما الى المذهب الخلقيدوني وكان لحملته ان احدثت ضجة كبيرة في كنيسة المشرق (ابونا 1996، ص 167- 168).

لذا حدد المجمع صورة الايمان التي تعتبر اوضح ما جاء من هذا النوع من الوثائق النسطورية (ابونا 1985، ص 165). فقد دبج آباء المجمع اعتراف كنيسة المشرق اللاهوتي ودافعوا عن تعاليم تيودورس المصيصي ودحضوا تفصيليا اراء الذين تجاسروا وتهجموا على ماهية الابن او الذين تهجموا على ماهية الروح القدس.

ويخلص المجمع الى القول في طبيعة المسيح قائلا: ” ونحن نعلّم، بشكل تام، بشأن شخص (فرصوفا) المسيح، وطبيعته الالهية والبشرية، ضد الذين ياخذون بالوهيته وينكرون بشريته، وضد من يعترفون ببشريته وينكرون الوهيته، وضد من ينكرون الوهيته معترفين انه انسان عادي، او يشبهونه بواحد من الابرار.” (حبي 1999، ص 359).

وتحكي العديد من المصادر القديمة قصة صورة الايمان التي وضعها مار ايشوعياب والتي اعلنها امام موريقي ملك الروم، حين ارسله كسرى ملك الفرس في وفادة، وطلب موريقي ان يكتب له مقاله في ايمان كنيسة المشرق، ففعل ايشوعياب (مجدل ماري 65). والجدير بالذكر ان الملك، ومن معه من كنسيين ولاهوتيين، راوا صورة ايمان جاثليق كنيسة المشرق سليمة، بحيث سمحوا له ان يشترك معهم في ذبيحة القداس ويتقرب من القربان الذي قدسه بطريركهم، وياتي قول الملك موريقي الشهير:” ان كان نسطوريس يقول بهذه المقالة التي كتبتها، فليس هو محروم. وان كان يقول بغيرها فهو محروم، فلا معنى لذكره انتم لنا ونحن لكم” (مجدل ماري 57، مجدل عمرو / صليبا 45- 46). (حبي 1999ص 431).

مجمع سبريشوع 596

يبدو ان كنيسة المشرق شعرت بخطورة المونوفيزية مرة اخرى واستفحال اتباع حنانا الحديابي، لذا فقد ركز هذا المجمع على بحث المسائل اللاهوتية، لا سيما بشان التجسد وطبيعتي المسيح ووحدتهما واشتراك الخصائص. وقام مرة اخرى بتكريس التعليم التيودوري بشكل لا يقبل الابتعاد عنه (حبي 1999، ص 440). وقد شن المجمع حملة قاسية على المصلين والتنديد بحنانا واتباعه فاذن الخطورة من الداخل شديدة وليس من الخارج.

ومما يذكر في هذا الصدد ان رهبان اديرة سنجار ونتيجة رغبتهم التخلص من صرامة غريغور اسقف نصيبين طلبوا عام 598 متعهدين للبطريرك بان يتمسكوا بايمان كنيسة المشرق وتفاسير مار تيودورس على ان يجعلهم تحت رئاسته. وكانت هذه الاديرة ثلاثا دير برقيطي والدير الجديد ودير ثالث الى الشرق لا يرد اسمه (حبي 1999، ص 441).

ويرد في هذا المجمع ما يخص الكريستولوجي بعد ان رأى الاساقفة ان يتم حفظ الايمان الصادق والرسولي للكنيسة الجامعة (الكاثوليكية)، والذي تسلمه آباؤهم من قبل الاباء المغبوطين والقديسين الثلاثمائة والثمانية عشر، الذين اجتمعوا في مدينة نيقية، وفق مشيئة روح الرب.

حيث يكتب الاباء في هذا المجمع :” اننا نقبل الفكر الراسخ الذي لابائنا القديسين، كما يعرضه الطوباوي تيودورس الانطاكي، اسقف مدينة مصيصة، مفسر الكتب المقدسة…

وانا نحرم ونبعد عن كل شركة معنا كل من ينكر الطبيعة (الكيان) الالهية والطبيعة البشرية لربنا يسوع المسيح، وكل من يدخل الخلط والمزج، التركيب او البلبلة في وحدة ابن الله..” (حبي 1999، ص 445).

 

مجمع غريغور 605

كانت ماتزال الاخطار الايمانية تحدق في كنيسة المشرق من المصلين واتباع حنانا وكانت الخلافات عادة تزداد عمقا بجعل السلطات المدنية تتدخل لصالح هذا الطرف او ذاك مما يزيد الطين بلة. وكانت الازمة التي مرت بكنيسة المشرق في عهد حنانا الحديابي فرصة مؤاتية للمونوفيزيين لاستغلالها لصالحهم (ابونا 1985، ص176). وخلا كرسي المدائن من جاثليق حتى عام 605، عندما انتخب غريغور الملفان. واستغل وجود الاساقفة في نفس العام وعقد مجمعا. فجدد هذا المجمع الحروم التي كان البطريرك السابق سبريشوع قد رشق بها مناوئي تعاليم كنيسة المشرق، مؤكدا تمسك كنيسته بتعاليم تيودورس المصيصي، بل مكرسا كتبه بشكل رسمي. (حبي 1999، ص 461-462).

“… لانه وفقا للكلام الرسولي” ..ربنا يسوع المسيح، الذي به اكتمل كل شيء: اله كامل، وانسان كامل. اله كامل في طبيعة الوهيته ( لاهوته)، وانسان كامل في طبيعة بشريته. الالهية محتفظة بخصائصها، والبشرية بخصائصها، متحدتان اتحادا صحيحا في الشخص ( فرصوفا، بروزوبون) الواحد للابن، المسيح. تشدد الالهية البشرية في الالم، كما هو مكتوب (يو 20 و21) دون ان يلحق بالالوهية تبدل او تغير باي شكل. (حبي 1999، ص 466).

ويؤكد المجمع كذلك مرجعية التفسير قائلا:” انه على كل منا ان يتسلم ويقتبل كل التفاسير والكتابات التي عملها المغبوط مار تيودورس المفسر اسقف مصيصة ، الشخص المؤتمن بالنعمة الالهية على كنز العهدين القديم والجديد،…” (حبي 1999، ص 446- 447).

ويذكر انه لم يعترف الشرقيون، حتى مجمع غريغور الأول(سنة ٦٠٥)، بأن مجمع بيث لافاط هو الذي كان قد قرر الاعتراف بشروح تيودوروس المصيصي كتفسير رسمي للكتاب المقدس في الكنيسة الشرقية، وذلك ردا على افتراءات أناس مغرضين على هذا المفسر الكبير (ابونا 1985، ص 105).

مجمع عام 612

لم يكن للكنيسة جاثليق بسبب قسم الملك ان لا يكون للكنيسة جاثليقا ما دام حيا اثناء خلاف له مع الملكة شيرين. لذا فمن قام بتدبير الكنيسة هو مار باباي الكبيرالذي كان رئيسا على دير ايزلا المعروف بالكبير،(حبي 1999، ص 475) وتسلم هذا ادارة الكنيسة وراح يطوف في المناطق ويتفقد الاديرة بصفة زائر رسمي مخول من قبل مجلس الاساقفة يسهر على الايمان ( ابونا 1985، ص 183).

لباباي الكبير كتابات ضخمة اهمها كتابه الشهير في الاتحاد ، اي اتحاد الالوهية والناسوت في المسيح. وهو عرض واف لمعتقد كنيسة المشرق فيما يخص الكلمة المتجسد، وفيه عناصر قريبة جدا من المعتقد الارثوذكسي. فهو يعيد الالفاظ المكرسة في التقليد الشرقي: اخذ، سكنى، هيكل، ثوب، انصياع.. ، ولكنه يقر ان هذه الالفاظ لا تفي بالغرض اذا كانت معزولة، لان الاتحاد غير الموصوف وغير المدرك يتم حسب جميعها وفوق كل تلك التعابير مجتمعة (ابونا 1996، ص 180).

 

وبينما ينفي النساطرة الاسبقون حقيقة اشتراك الاوصاف او الخواص، يعترف باباي بوجود ” تبادل في الاسماء”. ولكنه يعارض بشدة فكرة شرح الاتحاد في المسيح بتشبيه اتحاد النفس والجسد. (ابونا 1996، ص 181).

كان غرض اجتماع الاساقفة هذا وليس المجمع هو اقامة مناظرة عامة بين المشارقة والمغاربة، زعماء كنيسة المشرق التي كرسيها سلوقية طيسفون من جهة، وابرز وجوه جناح الكنيسة السريانية الانطاكية من الجهة الاخرى (حبي 1999، ص 476). وخاصة وان فراغ الكرسي الجاثاليقي اتاح للخصوم لكي يزدادوا قوة وامتدادا في المملكة الفارسية (ابونا 1985، ص 179).

واشتملت المناظرة على مواضيع دينية لاهوتية اهمها في التدبير الالهي، لا سيما فيما يخص التأنس ومحاولة شرح اتحاد الالوهية والبشرية في المسيح يسوع، فهي نقطة الخلاف الاساس بين المذهبين المشرقي والمغربي. (حبي 1999، ص 476).

 

مجمع مار كيوركيس الاول 676

انعقد هذا المجمع في قطر في جزيرة ديرين او داراي اثناء ذهاب الجاثاليق الى بيث قطرايي لاصلاح المشكل القائمة هناك (حبي 1999، ص 503). وان كان الهدف من المجمع التأكيد على ما سبق وحددته مجامع سابقة وتنظيم امور اخرى بما يناسب اوضاع تلك الاماكن البعيدة عن مركز كنيسة المشرق (حبي 1999، ص504). الا ان ناشري نصوص المجامع اضافوا الى ذيل هذا المجمع رسالة وجهها البطريرك كوركيس الى كاهن خوراسقف اسمه مينا، من بلاد فارس تحدث فيها عن لاهوت المسيح وناسوته (حبي 1999، ص504). شرح فيها ايمان الكنيسة وتعليمها بشأن الثالوث وتدبير الخلاص وطبيعتي يسوع المسيح الالهية والبشرية واتحادهما وخواصهما ويستشهد مطولا بالانجيل المقدس وكتابات الاباء والقديسين.

مجمع مار حنانيشوع الثاني 775 ، مجمع مار طيمثاوس الاول 790 ومجمع مار طيمثاوس الثاني 1318

هدفت هذه المجامع بشكل عام الى تقنين ضوابط وامور تنظيمية في كنيسة المشرق واهمها مجمع مار طيمثاوس الثاني المنعقد سنة 1318، وفيه تم تكريس كتابي المطران عبديشوع الصوباوي القانونيين دستورا لكنيسة المشرق( حبي 1999، ص 46). كتاب ( مرهنتةا ) المرجانة او الجوهرة في صحة الايمان ويعتقد ان تم وضعه عام 1398 او لعلها 1298 حسب ساكو (ساكو1978، ص 3) يستعرض فيه ايمان اللاهوت الشرقي الرسمي في المرحلة الاخيرة من تطوره (ابونا 1996، ص 406) متناولا وجود الله والخلقة والتجسد والفداء والثالوث الاقدس، واسرار الكنيسة والحياة الآخرة. ( ساكو 1978، ص 3).

 

الخلاصة

لقد طورت كنيسة المشرق اعتقادها الكريستولوجي على شكل سلسلة من طروحات مضادة لمعتقدات ناقضت تقاليدها. ( Seleznyov 2002، ص 197) وعاشت الكنيسة في ظل ارتياب دائم من السلطات الحاكمة حول ولاء ابنائها للمملكة الفارسية وعانت من اضطهادات شرسة رغم محاولة آبائها ابعاد هذه الريبة بالاخلاص للملوك المتعاقبين. وطبيعي ان الحكومات الفارسية المختلفة كانت ترغب، في ان تظل الكنيسة المسيحية في ايران مستقلة عن الكنيسة البيزنطية، وان تكون طقوسها وتعاليمها مختلفة عن الطقوس الارثوذكسية السائدة آنذاك ( بيغوليفسكايا 1979، ص 98). وهذا كان سببا مضافا الى الاسباب الداخلية التي ظهرت في تبني اعتقادات وصيغ ايمانية مختلفة جاءت من خارج منطقة الكنيسة لتشطرها الى شطرين. وما زاد من عزلة الكنيسة الاجتهادات العديدة التي برزت في الغرب واستخدمت تعابير خاصة بعلمها اللاهوتي المستقاة من فلسفتها، واختلفت في تفسير تعابير كنيسة المشرق في الطبيعة والاقنوم والشخص ادى الى نسبتها الى نسطورس الذي لم يكن يوما بطريركا عليها او اسقفا لها. واذ كان العرف بالتحريم انذاك قائما فقد حرم نسطورس في المجامع الغربية وانسحب الحرم على الكنيسة واتباعها. ولكن بقاء هذه الكنيسة يأتي بما تميزت به من روحانية عميقة، يزكيها دماء اعداد لا تحصى من الشهداء ( عطية 2005، ص 543).

واحدى اهم صفات هذه الكنيسة مجمعيتها التي غذت مسيرتها وخاصة العقائدية دهورا طويلا . وكانت الغاية من كل مجمع، إعادة النظر في القوانين والرد على الهرطقات التي كانت تظهر هنا وهناك ولتوثيق الأواصر فيما بين الابرشيات القريبة والبعيدة للخروج من الازمات الحادّة التي كانت تواجهها. وارتكز ايمان الكنيسة الكريستولوجي على آراء الآباء والمجامع المسكونية وبالاصغاء المؤسس على الكتاب المقدس.

ان ايمان كنيسة المشرق بقي هو نفسه ذلك الايمان الذي استلموه من الرسل وثبته اباء الكنيسة الجامعة وتحتاج الكنيسة الى اجراء العديد من البحوث والدراسات العميقة لمجامع كنيسة المشرق وتاثير التيارات الفلسفية واستخدام المصطلحات ومعانيها في مختلف التيارات انذاك، لايضاح ان تعليمها صحيح لا يخالف تعليم الكنيسة الجامعة وكشف سوء الفهم بل عدم فهم المصطلحات الفلسفية الشارحة وطريقة فهمها الذي دام قرونا.

المصادر والمراجع

  • عطية، عزيز سوريال، (2005)، تاريخ المسيحية الشرقية، ، ترجمة اسحاق عبيد، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة)
  • صفير، الكاردينال مار نصر الله بطرس، (2003)، في المجمع ألبطريركي الماروني، وهي الرسالة الثامنة عشرة التي يوجّهها نيافته الى أبنائه الموارنة اكليروساً وعلمانيين في مناسبة الصوم الكبير). http://www.maronitesynod.com/pat-letter.htm يوم 28 حزيران 2012، الساعة الثامنة والنصف صباحا.
  • الكتاب المقدس (1994) الطبعة الثالثة، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، دار المشرق بيروت)
  • الاب يوسف حبي (1999)، مجامع كنيسة المشرق، منشورات كلية اللاهوت الحبرية، جامعة الروح القدس- الكسليك، لبنان.
  • (أدور هرمز ججو النوفلي، 2007، تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، في http://www.baqofa.com/forum/forum_posts.asp?TID=13980). في 15/7/2012.  
  • ساكو، الاب لويس، 1981، مجلة بين النهرين 9- لسنة 1981، ص 341- 356 في حبي، 1999، مجامع كنيسة المشرق، بيروت ص 38.
  • أبونا، الاب البير، 1985، تاريخ الكنيسة الشرقية، الجزء الاول من انتشار المسيحية حتى مجيء الاسلام، الطبعة الثانية بغداد.
  • ابونا، الاب البير (1996)، ادب اللغة الارامية. الطبعة الثانية. دار المشرق. بيروت.
  • كاريلين، الارشمندريت رافائيل، خصائص التفكير الديني للشرق والغرب، ترجمة الاخت يوليا بيتروفا، في http://www.serafemsarof.com/mag/index.php?option=com_content&task=view&id=334&Itemid=126 في 20/7/2012.
  • بيغوليفسكايا،نينا، 1979، ثقافة السريان في القرون الوسطى، ترجمة خلف الجراد، معهد الاستشراق التابع لاكاديمة العلوم السوفيتية، موسكو، دار العلم.
  • قنشرين، بدون تاريخ، ططيانس ، موسوعة قنشرين للآباء والقديسين في http://qenshrin.com/saint/saintinfo.php?id=164 في 29/ 7/ 2012.
  • ساكو، الاب لويس، 1978، الجوهرة، خلاصة لاهوتية، تاليف العلامة لشهير مار عبديشوع الصوباوي، نقله الى العربية وعلق عليه.
  • Seleznyov, Nikolai,(2002), The Christology of the Assyrian Church of the East, euroasiatica, Moscow)

أمراض جاليتنا في المهجر

أمراض جاليتنا في المهجر

الاب يوسف جزراوي

في شهر آب من عام 2009 زارني في هولندا أُستاذي الأب الدكتور يوسف توما الدومنيكي رئيس تحرير مجلة “الفكر المسيحي الغرّاء” فطلب مني أن أعد دراسة عن أمراض جاليتنا في المهجر وسبل علاجها.

ومع الأيام حبرت هذا الموضوع في هولندا وأكملته في سيدني، فخرجتُ بهذه الخلاصة التي أرتأيت أن أُسلط عليها الأضواء لعل فيها نراجع الذات ونصحح المسار:

مُعظم أبناء شعبي هنا يعيشون في حالة يُرثى لها من الحسد والمُنافسة غير الشريفة والتشهير والإنتقاص من بعضهم البعض، ولولا صرامة القانون لما توانوا دقيقة واحدة من التقاتل والأشتباك، ونقل حزازياتهم القروية والعشائرية والسياسية إلى بلاد الاغتراب.

ومعظمهم يُردد المثل القائل: الأقارب عقارب، فمن النادر تجد علاقات وطيدة بين عائلة وعائلة أو تجد أخًا مُتفقًا مع أخيه أو مع أبناء عائلته!

والبعض منهم مُنساقًا وراء الدولار، وبيوت الدعارة، وسباق الخيل والقمار، والأقتراض من البنوك، وشرب المخدرات، والأدمان على مكائن القمار، فيربحون مرة ويخسرون عشرات المرات، ومع هذا تجد الواحد منهم مثل الهر الذي يتلذذ بلعق دمه!!

ناهيك عن تفشي البطالة.

لكل قرية مسيحية بات لها جمعية وهذا يثلج صدورنا، ولكن المصيبة تكمن في عدم تكاتف وتضامن كافة الجمعيات، ما دام حُبّ الترؤس وعشق الجلوس على كرسي الرئاسة هما الغاية والطموح!

وصار جمع الدولار هو الشغل الشاغل للكثيرين وبأية طريقة كانت! أما اعلان الافلاس وتغيير الاسماء باتا من العادات الشائعة والمألوفة هنا في سيدني!

ناهيك عن قضاء الوقت في الثرثرة والتشهير والتدخل في خصوصيات الآخرين، أما الأزدواجية، والوجاهيات فباتت من أكثر الأمراض التي تفتك بالجالية العراقية هنا. إذ يوجد ناس لديها 1000 وجه، وهناك من الناس يسير خلف مصالحه دون أن يُفكر بأخيه الإنسان، يمتدحك في الوجه، وفي الظهر يختلق عليك القصص ويقوِّلك ما لم تقله! يتلون حسب المواقف والظروف!

فبدلا من أن يجلسوا في المقاهي والسهر في النوادي الليلية، كم تمنيت أن يملأوا أوقاتهم بمطالعة كتاب أو الإستماع إلى الموسيقى والإنتعاش من حكمة الكتاب المُقدس أو الذهاب إلى الكنيسة للصلاة وتثقيف الذات أو الجلوس في المكتبات للمطالعة والبحث. ولكن من يسمع ومن يفهم!

اما الإستماع إلى الأغاني العراقية والعربية الهادئة ذات اللحن الراقي والكلمات العذبة، فبات من النادر ان تجد لها رواجًا بين ابناء الجالية، فمعظمهم يستمع إلى أغاني غربية صاخبة تهز البدن ولا تطرب الروح!

والبعض يعيش سنوات في البلد وهو يجهل لغة البلد الذي يعيشه فيه، قد حفظ بعض المفردات، يستخدمها مع أقربائه في بلدنا الأم أو مع القادمين حديثًا من مُنطلق أستعراض العضلات، ولما يطلبون منه الترجمة، تجده يتهرب ويتعذر ويتحجج بحجج واهية! علمًا أن الحكومة ترسل الناس إلى دراسة وتعلم اللغة بشكل مجاني!

   يعيش مُعظمهم في واقع مؤسس على المظاهر والقيل والقال والتعصب والإنغلاق على العشيرة واللغة…. لقد وجدتُ مُعظمهم يعيشون وكأنهم في عراق حرّ جديد. ويعانون من أمراض إجتماعية عديدة في المهجر واولها show off. والثرثرة النابعة من الفراغ السلبي والخصامات العائلية والسعي خلف المادة والإنصهار في المجتمع الجديد والضياع خلف سلبياته من القمار وممارسة الجنس قبل الزواج والمخدرات والعزلة في داخل البيت الواحد، ناهيك عن التقليد الأعمى للغرب والشك والإزدواجية، هذان المرضان الذي فشل أطباء هذه البلاد من إستئصالهما من نفوس الناس.

الكثيرون منهم متدينون أكثر من كونهم مؤمنين، أما عن الانفلات الاخلاقي للبعض والإلحاد الذي بات ينتاب فكر الكثير من أبناء الجيل الجديد، فحدث ولا حرج. بعض الشباب ضائعون، حائرون بين الجنس والمخدرات والحرية السائبة والعلاقات الخاطئة النابعة من فراغهم الحياتي والإيماني والثقافي بعيدًا عن الإنجيل والثقافة وتربيتنا الأصيلة…

نأتي الى العوائل التي تشهد تفككًا أُسريًا لا مثيل له، وتستسهل طلب الإنفصال. أما عن الخيانات الزوجية فحدث ولا حرج. علاوة على صراع الحضارات بين الاباء والابناء. صراع بين المفهوم الغربي للابن وللأبنة والحرية اللامحدودة في المهجر وبين عقلية الأب الشرقي وتنشئة الأم الشرقية القائمة على الكبت والحرمان والمراقَبَة. فكل يغني على ليلاه، وليس من تفاهم وإنسجام وليس من قنوات وجسور حوار، بل هناك ابتعاد وبناء جدران واسوار، كلما مرَّ زمان عليها علا ارتفاعها. أما الحوار بين الازواج بات شبه منعدمٍ لان أُسس الزواج وغاياته كانت في الغالب خاطئة. والكثيرون لديهم نظرتهم إلى الكنيسة، نظرة إنتقادية هدامة وليست نقدية بنّاءة، نظرة إستهلاكية. يريدون ويطالبون الكاهن والكنيسة بكل شيء وهم لا يقدمون اي شيء!!

يؤلمني ككاهن أن ارى تعازينا أصبحت في الغالب مجالس للؤلائم ومحافل للثرثرة وشرب القهوة المُرة والسكائر كاي مُلتقى إجتماعي، وكأننا في مقهى لا في تعزية!! لذا كنتُ وما زلتُ أرفض الحضور للكثير من التعازي التي تكون على هذه الشاكلة. والأنكى من ذلك إنَّ الكثيرين يقيمون التعزية لإشباع رغبات نفسية أو من منطلق الوجاهة والمُنافسة الإجتماعية (كيف فلان عمل ….أنا أعمل أفضل منه)! فترى البذخ والإسراف في الأموال والطعام؛ بينما هناك من الناس من يتحسر على رغيف الخبز!

يا ليت أن يُفكر أهل العزاء بالفقراء واليتامى والمرضى عوضًا عن المُبالغة في إقامة التعازي والبذخ في نفقات العزاء. وحبذا لو تسود روح التعزية والصلاة والتضامن في تعازينا بدلاً من سلوك المقاهي والمطاعم!

ومن المؤسف حقا أشد الأسف، أننا لا نزال نشهد في تعازينا (عدادات) لإثارة الحزن والبكاء واللعب بمشاعر الناس، يدفع لهنَّ أموالاً من أجل تهييج مواطن الحزن والألم في داخلنا؛ وكأننا نشتري الحزن والألم والبكاء بالمال!!

ختامًا: عزيزي القارى إذا قالوا عنك في المهجر إنك إنسان مادي، أو خفيف، أو غير طبيعي، أو محتال ومخادع فلا تحزن، أما إذا قالوا إنك إنسان شريف ونزيه ورزين وصادق، ولديك شعبية كبيرة، فاحزن وأبكِ لأنك ستكون قد خسرت مُعظم أقربائك وأصدقائك.

هذه هي أمراض جاليتنا في المهجر باختصار!

 

كرستولوجيا باختصار جداً

كرستولوجيا باختصار جداً

مسعود هرمز النوفلي

مقدمة

إنبثقت هذه الكلمة عبر التاريخ لدراسة طبيعة شخص الرب يسوع المسيح، الشخص الثاني في الثالوث الأقدس، ألابن، كلمة الله المُتجسّد. نستطيع اعتبارها جزء من اللاهوت العقائدي للمسيحية والكنيسة. في هذه المقالة القصيرة سنتناول تعريف الكلمة وكيفية تطوّر مفهوم هذا العلم إستناداً الى الكتاب المقدس وآباء الكنيسة الأوائل باختصار جداً.

تعريف

كرستولوجيا، كلمة متكونة من مقطعين كريستوس و لوجيا باللغة اليونانية. كريستوس تعني المسيح، ولوجيا تعني المنطق أو الدراسة التي تهتم بالمسيح وكل ما يتعلّق بهِ من حيث حياته الشخصية وأحاديثه وتعاليمه[1]. بأعتقادي أن كلمة لوجيا مُتقاربة مع الكلمة الأنكليزية لوجِكْ التي تشير الى المنطق. وبغض النظر عما تعنيه هذه الكلمة من معاني، فانها تبقى علماً لاهوتيا مُهِّماً أو فرعاً رئيسياً منه.

كرستولوجيا في القواميس

1- قاموس المورد، أنكليزي عربي، يُعرِّفها بأنها التعليل اللاهوتي لشخص المسيح وعملهِ.

2- قاموس ويبسترس، أنكليزي أنكليزي، يعطي لنا تعريفاً مُتشابهاً لما يذكره قاموس المورد ويقول بأن الكرستولوجيا هي التأويل أو التعليل اللاهوتي لشخصية وعمل المسيح.

3- قاموس المثلث الرحمات المطران يعقوب أوجين منا، يعطي لنا كلمة كرسطوس والتي يُترجمها بأنها المسيح باليونانية، ولا يوجد ذكر الى كلمة الكرستولوجيا.

4- قاموس نيو وولرد، أنكليزي أنكليزي، يُفسِّر الكلمة بأنها دراسة أعمال وشخصية يسوع المسيح وجميع الادبيات والكتابات التي تعود اليه.

الكرستولوجيا في الكتاب المقدس

عند النظر الى العهد القديم والتأمل فيما كتبه الأنبياء يتضح لنا بأن علم الكرستولوجيا قد بدأ منه، والسبب هو الإشارت الكثيرة للرب يسوع في آياته والتي تُعتبر تهيئة إلهية للخليقة جمعاء بقبول فكرة التجسد. منذ البداية اعتبر بعض اليهود الرب يسوع المسيح وكأنه الله، وبدأوا يعبدونه بطرقهم الخاصة. تدريجياً بدأ الشعب في فلسطين بقبول فكرة الرب الإله للتعريف بيسوع المسيح. لنقرأ ما يقوله لنا العهد القديم بهذا الخصوص:

سفر التكوين يعطينا دليلاً مكتوباً عن آدم عندما قال له الله “فأنت تُراب والى التراب تعود”. من هنا نجد الفرق بين الرب الكلمة الموجود قبل آدم وبين أبناء آدم الذين خُلِقوا من التراب، وفي نفس السفر عندما يتحدث عن أبناء نوح الذين منهم انتشر كل سكان الآرض، لم يكُن الرب أحد الأبناء ضمن السلسلة سوى في فكرة التجسد الإلهية وليس البشرية، وهنا الأختلاف واضح جداً. آيات كثيرة في التكوين 17 و 18 و 22 و 26 و27. أما في سفر العدد فهناك نقطة مهمة أخرى عن الرب وهي في الأصحاح 24 : 17 عندما يقول “يطلعُ كوكبٌ من بني يعقوب ويقوم صولجانٌ من بني إسرائيل”، وفي سفر صموئيل الثاني 7 : 21 ألذي يتحدث عن العرش وثبات المُلك الى الأبد بحيث يكون راسخاً ولا يتزعزع. وفي سفر إرميا 23 : 5 – 6 هناك كلام واضح جداً بالقول “ستأتي أيام يقول الرب، أقيم من نسلِ داود ملكاً صالحاً…..في أيامهِ يُخلّص شعب يهوذا ويسكن بنو إسرائيل في أمانٍ، ويكون إسمهُ “الربُّ صادقٌ معنا”. أليست هذه تنبُؤات للتجسد والعمل القادم؟ بالتأكيد كل ذلك يصّبُّ في الكرستولوجيا وبحرها وليس هذا فقط وإنما هناك إشارات أقوى في إرميا 33 : 14 – 26 عن الغُصن الصالح وكذلك في إشعيا 7 : 14 بما يقوله الله ” …ها هي العذراء تحبلُ وتلد إبناً وتدعو إسمه عمانوئيل”. النبي إرميا يتنبأ بكثرة عن قدوم الرب وخاصة في الأصحاحات 23 و 31 و 33 و 49، عندما يتوسع في الأحاديث عن المُخلّص والمُنقذ. النبي ميخا في 5 : 2 يقول”لكن يا بيت لحمَ أفراتةَ، صَغرى مُدنِ يهوذا، منكِ يخرج لي سيّد على بني إسرائيل، يكون منذ القديم، منذ أيامِ الأزلِ”. هناك الكثير من الايات في العهد القديم غير التي ذكرناها، ومنها على سبيل المثال في أسفار العدد ودانيال والمزامير وغيرها.

العهد الجديد واضحٌ للجميع في إغناء الاصطلاح تفسيراً وشرحاً وافياً منذ ولادة الرب وأعماله وحياته وحتى يوم الجلجلة والقيامة، وقد ذكر الأنجيليون الأربعة جميع التفاصيل عن كل فقرة من تاريخ الرب، بالأضافة الى القديسين مار بولس الرسول ومار بطرس والرسل الآخرين، والجميع يؤكدون بأن يسوع المسيح هو إله كامل وإنسان كامل. بعد القيامة إستمرت البحوث والدراسات التي تتوجّت في إصدار قانون الأيمان وتوضيح إنسانية المسيح الإلهية لخلاص البشر في إعتماد كلمة الله نوراً وطريقاً للعالم. سأنقل من الأنجيل بعض الأمثلة المهمّة لموضوعنا هذا لنرى منها وفيها نتحقق من يسوع الإلهي والأنساني.

القديس متى 3 : 17 يقول “وقال صوتٌ من السماء: هذا هو إبني الحبيب الذي بهِ سُرِرْتُ”.

القديس مرقس في 1 : 1 يعلن ” بشارة يسوع المسيح أبن الله” ويستند الى نبوءة النبي إشعيا في تهيئة طريق الرب. وفي مرقس أيضاً 14 : 21 – 26 يتحدث عن الويل لمن يُسّلم ابن الأنسان وكذلك عن مباركة الخبز والخمر وتناول التلاميذ جسد ودم يسوع.

القديس لوقا في 1 : 35 يذكر جواب الملاك الى أمنا مريم العذراء بالقول “الروح القدس يحِلُّ عليكِ، وقدرة العليِّ تُظلّلُكِ، لذلك فالقدوس الذي يولد منكِ يُدعى ابن اللهِ”. وفي 2 : 28 – 32 يوضح لنا بأن سمعان الذي حمل الرب على ذراعيه في الهيكل قد رأى الخلاص الذي هيّأه الرب للشعوب والنور الذي أهداه للأمم ومجداً لشعب إسرائيل، عندها أطلق كلماته المشهورة وقال “يا رب، تمَّمْت الآن وعدك لي فأطلِق عبدك بسلام”. وفي لوقا أيضاً 9 : 20 أمر مُهِّم جداً ألا وهو شهادة مار بطرس عن يسوع حيث نقرأ “فقال لهم يسوع: ومَنْ أنا، في رأيكم أنتُم؟ فأجابه بطرس: أنت مسيحُ اللهِ”.

القديس يوحنا في مقدّمة أنجيله يقول” في البدءِ كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”. وفي رسالته الأولى 2 : 23 يؤكد ما يلي “من أنكر الأبن لا يكون له الآب، ومن أعترف بالأبن يكون له الآب”.

مار بولس الرسول في رسالته الى فيلبي 2 : 6 – 7 يقول “هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته وأتخذ صورة العبد، صار شبيهاً بالبشر، وظهر في صورة الأنسان”. و في رسالته الأولى الى كنيسة تسالونيكي في 1 : 10 يؤكد عندما يقول “مُنتظرين مجيءَ ابنهِ من السماوات، وهو الذي أقامه الله من بين الأموات، يسوع الذي يُنجينا من غضب الله الآتي”.

القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية 1: 1 – 11 يدعو المؤمنين الى معرفة الله والرب يسوع الذي فتح باب الدخول الى الملكوت الأبدي والتي سماها في رسالته: ملكوت ربنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح.

هناك أسماء وألقاب كثيرة قد أعطيت للرب كما لاحظنا قسماً منها، جميعها تدخل في مفهوم كرستولوجيا المسيح.

لماذا ندرس الكرستولوجيا؟

بعد قيام الرُسل بالتبشير، توسّع نطاق الأيمان في بُلدانٍ كثيرة، وأدى هذا التوسع والأنتشار وبسرعة كبيرة الى إجتهادات علمانية مُختلفة بين المؤمنين الجُدد من جهة وبين الآباء الأوائل من جهة أخرى، كانت الآراء تتمحور حول شخص يسوع المسيح وتعليمه وتوجيهاته للأجيال اللاحقة. أدت بعض الآراء الى الأختلافات في التفاسير اللاهوتية وخاصة العلاقة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في المسيح، مما فرضَ على آبائنا الآوائل قيادة مُناقشات ومُحاورات عديدة في إجتماعات ومجامع خاصة لبحث نقاط الأختلاف. بعضاً من الجدالات في الماضي أدّت الى إفتراق الأخ عن أخيه في كيفية مُمارسة الأيمان، بالرغم من أن الجميع كان لهم الأيمان المُطلق بالرب له المجد وتجسّده وموته وقيامته، وكما كانت الكنيسة أي جماعة المؤمنين تنشط وتتوسع، كان في المقابل الشيطان المخفي الذي يقوم بالضد من انتشار الأيمان والوسْوسَة في قلوب البعض لخلق البلبلة وزرع الشوك والزوان بين الحنطة، وخاصة عند المُناقشات التي تدور حول الله الأبن الذي صار إنساناً لفترة قصيرة ومن ثم عودته الى أبيه بعد القيامة.

توسع علم الكرستولوجيا تدريجياً منذ القرون الأولى للمسيحية حتى ظهور القديس الفيلسوف توما الأكويني في القرن الثالث عشر الذي دافع عن صفات الكمال في المسيح بمناقاشاته في موضوع الكرستولوجيا، ووصل الى ذروته في القرن الماضي خاصة بعد البحوث اللاهوتية المختلفة من رؤى الكنائس المتنوعة الأفكار، ولا زال هذا العلم يبحث فيه الكثير من العلماء وآباء الكنيسة.

.

هل الكرستولوجيا تنازلية أم تصاعدية؟ أم أنها تنازلية وتصاعدية في آنٍ واحد؟

عندما نقرأ الكتاب المُقدّس ونتأمل به، نصل الى القناعة التامة بأن الكرستولوجيا هي تنازلية وتصاعدية في نفس الوقت، أي أن الرب يسوع الذي تجسّد وعاش بين البشر كان منذ البدء، كما يُخبرنا الأنجيلي يوحنا ويؤكِّده العهد القديم. أي أن الكلمة الذي كان في حضن الآب جاء الى العالم، وبما أن الكلمة هو الله أي يسوع المسيح، عندها علينا أن ندرس كيفية وقوع الحدث وفق المُخطط الإلهي، وعلينا أن نفهم بأن صيرورة يسوع بشرا جاء بصورة مدروسة ومُعقّدة ويصعب إدراك تفاصيلها الدقيقة. ليس من السهولة اكتشاف كل ما هو مرتبط في جوهر التدبير، لأن التدبير في الأصل تنازلي بحت من حيث انطلاق الكلمة واختيار الأم العذراء والتجسد والولادة والعيش على الأرض كانسان كامل حتى يوم الجلجلة والصلب والموت والقيامة. كل شيء يبدو لنا تنازلياً بحتاً. ولكن لم ينته علم المسيح في موته وقيامته أبداً، وإنما أستمر بعد القيامة في عملية الصعود التدريجي الى حضن الآب مرة أخرى، كما كان عنده، فانه ذهب اليه مرة أخرى وصعد، من هنا فإنّ الكرستولوجيا أصبحت تصاعدية، وبالتالي فانها تكون تنازلية وتصاعدية في نفس الوقت، ولا يُمكن تجزئتها. تؤكد لنا ذلك موسوعة الويكيبيديا[2] بأن الكرستولوجيا تنازلية وتصاعدية. علينا أن ننظر الى صورة المُخطط من كل جوانبها منذ البداية وحتى النهاية لكي نفهم الوهية وناسوت المسيح.

هناك من بين العلماء من يأخذ المسيح الأنساني وحياته ويعتبر العملية كلّها صعوداً فقط، والأسباب تكمن في قناعاتهم بالحقائق الواقعية والمرئية، فمثلاً بدون أيِّ شك كانت ولادة يسوع في عهد هيرودس الكبير، وأمه مريم العذراء كانت معروفة، وانتقاله الى أماكن معلومة في فلسطين وخدمته مع التلاميذ ومعجزاته مع الشعب وتواجده بين البشر حتى يوم الصلب عندما بكى وقال إلهي إلهي لماذا تركتني، وأضاف وبيدك أسلِّم روحي، وبعدها أسلم الروح. طريقة دفن الميّت الأعتيادية الجارية في ذلك الوقت تم تطبيقها عليه، الأهم من كل ذلك تأتي عندنا القيامة والصعود. هؤلاء العلماء لا يأخذون العهد القديم ودلائله مأخذ الجد ويبدأون بالتركيز على الحياة الأرضية فقط ولهذا يتعبرون الكرستولوجيا تصاعدية بحتة.

أبن الأنسان وأبن الله

الكتاب المقدس يحتوي آياتٍ كثيرة عن أبن الأنسان وأبن الله كما لاحظنا، وقسم منها خرجت من فمِ يسوع نفسه، وهذه الآيات تؤكد لنا الترابط والتلاحم بين شخصية الرب الإلهية والبشرية، هذه الألقاب ليست سوى دلائل قاطعة للدمج بين الأثنين وليس الأنفصال، لأن يسوع كان يعني ما يقوله حتى نفهم نحن الآن وتبقى كلماته خالدة للآخرين الى أبد الآبدين.

يتحدث أحد الأساتذة[3]، عن محاولة الربط وفهم العلاقة بين ابن الله وابن الأنسان، فيتساءل كيف يلتقي ابن الله وابن الأنسان في يسوع؟ الرب يسوع المسيح هو الوحيد والأوحد الذي فيه تحققت الإلوهية والأنسانية، لم يتحقق العمل في شخصٍ آخر، لم يتجسّد غير ابن الله الذي أصبح انساناً كاملاً، وعند النظر الى الترابط الموجود والتعمّق في تفاسيره وتحليله يقودنا التفكير والبحث من أجلِ ايجاد الجواب الشافي والدقيق للسؤال الخاص بالكرستولوجيا وماهية هذه الكلمة وطبيعة الله منذ انعقاد مجمع نيقية سنة 325 للميلاد. كان البعض يؤمن بالثالوث المقدس والآخر لا يُؤمن بنفس الفكرة، فريق يؤمن بالطبيعة الواحدة والآخر على العكس وهكذا حدثت الأختلافات التي أدت الى نشوء أفكار وتصورات جديدة، ولهذا كانت هناك أسئلة كثيرة ومهّمة في حياة الكنيسة حول الكلمة وخاصة عندما بدأت الدراسات الفلسفية واللاهوتية تتعمّق وتتطور والى هذا اليوم هناك إجتماعات وإتصالات كثيرة بين الكنائس المُختلفة من أجل التوصل الى المفهوم العام الذي يقبل به الجميع في الوحدة المسيحية.

الخلاصة:

الينبوع الذي يشرب منه المؤمنون المسيحيّون ينبع من الكرستولوجيا ومفاهيمها، علينا التأمل في كُلِّ آية تخصُّ الرب ودراستها بعمق من أجل الوصول الى النتيجة النهائية التي يتّحد بها الرب مع الآب والروح القدس، يسوع الإلهي والبشري هو المرجع المهم لنا في محبّتهِ للأنسانية وتواضعهِ، منه نكتشف الله أبيهِ، بوضعهِ ألأسس للعلاقات الحميمة بين الله والبشر. لكي نفهم المسيحية ندعو الجميع الى القراءة والتعمق في جميع التفرعات الخاصة بالكرستولوجيا والرب يحفظكم بسلام.

[1] http://dictionary.sensagent.com/christology/en-en/

[2]  http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D8%B1%D8%B3%D8%AA%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7

[3] http://www.studylight.org/dic/hbd/view.cgi?number=T1284

من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

القس هرمز جرجيس

لعل عنوان المقال يحمل مغزى في حياة كل مؤمن، فهو تساؤل يطرح نفسه في مرحلة من المراحل، وهنا نحاول لملمة الخبرة المسيحانية من كم هائل من المعلومات التي سنلخص جوهرها لما يمنحنا معنى يكون هو الجواب الذي نستند اليه في حياتنا الايمانية.

الاراء اجمالا على طرفي نقيض، احدها يقوم باستبعاد الالوهية من شخص يسوع المسيح الكامل (أي الاله الكامل والإنسان الكامل) ويتخذ من إنسانيته رمزا للبشرية ومحررا عادلا للحرية والمساواة بين البشر (كما هي فكرة النبي في العهد القديم)، ويقوم الطرف الاخر على رؤية أن يسوع المسيح شخص ورمز تاريخي دخل الى تاريخ البشرية كسابقيه بمجئ عجائبي وعظمة الهية ويحاول هذا التركيز على لاهوته فقط!

لكن الكنيسة وعبر التاريخ تأملت وتفكرت في تلك الاراء والاتجاهات وقامت بتحليل معتقدات الآباء وعقد رعاتها ومعلميها المجامع لاجل مناقشة شأن الايمان لأجل حفظ النظام وسلامة العقيدة لتتبعه كل الكنائس الرسولية. ولقد سبق واعقب هذه المجامع تحولات في العقائد التي كانت تتبناها كل كنيسة بطريقتها ولتصبح بعضها مذهبا تستند اليه في شرح العلاقة القوية بين الاله والانسان في شخص المسيح. وإن لم تكن الكنائس قد اتفقت في زمن الاختلاف وخاصة في موضوع الكرستولوجي فان دراسة هذا الموضوع أو شخص المسيح أو مسيحانية المسيح اليوم أصبحت تنادي أن تلك الاختلافات في الرؤى هي عامل غنى وأفكار عميقة مليئة بروحية ولاهوت مسيحاني عظيم.

درس آباء الكنيسة وطرحوا افكارهم التي بنوها على معطيات الكتاب المقدس للكشف عن وجه يسوع البشري والتعرف على هويته التاريخية وعن طريقها الوصول الى شخصيته الالهية. وتبين هذا منذ الجماعة المسيحية الاولى التي آمنت بالمسيح يسوع ربا والها يقودها الروح القدس ومختبرة سر المسيح الحقيقي. وكلمة الله في الانجيل المقدس هي الكلمة المتجسد متمم تدبير الخلاص وهذا كشف الهي لذاته فحسب ما يؤكده يوحنا :” وكان الكلمة الله”. وهكذا يسترسل الانجيليون ابتداء مع مريم القديسة ام المسيح الذي ولد منها، ويعطينا حقائق نتعرف من خلالها على يسوع المسيح وشخصه وناسوته فيدعوه ابن الانسان، المعلم السيد الابن الراعي الصالح آدم الثاني بالاضافة الى انه ضياء مجد الله وابن الله والكائن في صورة الله ابن العلي القدوس البار هكذا فان علاقته فريدة بالله الآب.

يرد في انجيل يوحنا ما يلي:” فأمسكوا يسوع. فخرج حاملا صليبه الى المكان الذي يقال له مكان الجمجمة، ويقال له بالعبرية جلجثة. فصلبوه فيه، وصلبوا معه آخرين، كل منهما في جهة، وبينهما يسوع” (يوحنا 19: 17 -18).

الايتان غنيتان بمعنى عميق كون مكان الصلب ” بينهما” أي في المركز هو مكان الشرف. ويوحنا يلفت انتباهنا الى شأن اعظم حينما يقول” يسوع الناصري ملك اليهود” (يوحنا 19: 19). نعم ان يوحنا يرى في يسوع لا فقط ملك اليهود بل ملك البشرية برمتها، فلم تكن الكتابة على اللوح بلغة واحدة بل يقول يوحنا: “وكانت الكتابة بالعبرية واللاتينية واليونانية” (يو 19: 20). وهذه اللغات كانت منتشرة في ذلك الزمان، العبرية لغة الكتاب المقدس “كلمة الله” واللاتينية لغة السلطة الرومانية أما اليونانية فهي لغة الثقافة في ذلك الوقت.

رؤساء الكهنة اعتبروها اهانة لهم، الذي رأى نفسه مهانا في شخص يسوع ( من ملك الى مصلوب)، أحتجوا لكن لاقوا جوابا من بيلاطس:” ما كتب قد كتب”. 19: 22. هذا الكلام هو نبوي وحقيقي واعلان لملوكية المسيح التي تنبأ بها بيلاطس في الاية 15 من الفصل 19: “هو ذا الرجل؟”. وفي تلك تلك الكتابة نقرأ الجواب لسؤال بيلاطس:” أ أنت ملك اليهود؟” يوحنا 18: 33، هذه هي الحقيقة العميقة التي تبين لنا الملوكية المشيحانية للكلمة المتجسد. 

أعلن نثنائيل الذي جاء الى يسوع مع فيلبس وقال:” رابي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل”. (يوحنا 1: 49). فيسوع هو المسيح نفسه الذي بشر به الملاك مريم العذراء:” سيكون عظيما وابن العلي يدعى، ويوليه الرب الاله عرش ابيه داود، ويملك على بيت إسرائيل الى ابد الدهور، ولن يكون لملكه نهاية”. (لوقا 1: 31- 42). وقد يتبين ان هناك تعارض خارق بين كلام الملاك ونهاية حياة الرب؟ الا ان الصليب الظافر هو جزء من الملك، ولكن يعود الى الآب فهو والآب واحد وهكذا كما يؤكد الانجيلي يوحنا:” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية” (يو 3: 16). وبهذه المحبة اكتشفنا قدرة الله اللامتناهية التي بوسعها أن تنتزع الحياة من الموت، ذلك أن ملوكيته هي التي تخلّص.

هذه الكلمات وغيرها في العهد الجديد كانت نبعا لآبائنا في الايمان ومنهم مار نسطوريس ومار نرساي، ففي نظرة القديس مار نرساي الى المسيح، هي نظرة دفاعية ونتجت عنها كرستولوجية دفاعية قوية، ليجيب عن كل من رأى امتزاج وذوبان بشرية المسيح داخل لاهوته. ويؤكد القديس تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح في واحدة من جواهر تآليفه (ترتيلة بريخ حنانا دبطيبوثيه – مبارك الحنّان بنعمته)، هذه الترتيلة تتضمن لاهوت كنيسة المشرق اذا قام القديس بتلخيص فكره اللاهوتي المتوزع في الميامر الرائعة التي ألفها وفي مؤلفاته البقية. ما زلنا نرتلها في كنائسنا في موسم الميلاد رغم انها برأيي تصلح ان ترتل كل يوم على مدار السنة فهي بمثابة قانون إيمان كنيستنا المقدسة.

ويرى القديس مار نرساي تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح. لذا فان بشرية المسيح هي الرابط الجامع بين الخالق والمخلوق، فمن رفض طبيعة المسيح البشرية الانسانية رفض وأزال طريق الخلاص. ثم يرى ثانيا: أن الطبيعة تساوي الاقنوم حينما يتم القصد منها الشخص الفرد. وثالثا: وحدة الطبيعتين. بمعنى الاقامة حسب فكر القديس مار تيودوروس المصيصي. واخيرا: الارادة الواحدة. لا تتضمّن طبيعة المسيح محدودا، بل هو جاء الى المحدود. حلّ في المحدود بإرادته، فافتقد الجميع.

بهذا مار نرساي يحافظ على كمال الطبيعة الالهية والبشرية الانسانية مع التمييز بين الكلمة ويسوع الانسان. مشددا على وحدتهما. إنها وحدة لا يتأثر فيها الكلمة بالبشري، بل ان البشري يشارك مجد اللاهوت ويكشف عنه. إنها وحدة لا يتخلى فيها الكلمة عن شخص يسوع. فالكلمة لا يتركه حتى في ساعة موته بل يلبث معه في حالة القيامة. انه الصورة الحقيقية التي عبرها يعرف البشر والملائكة ويحبون ويعبدون ويسجدون اللاهوت المتسامي.

علمنا من مار نرساي ان الانسان المأخوذ فدى الجنس البشري بموته على الصليب. الموت هنا هو العمل الخلاصي بكل عظمته أي دور الكلمة والانسان في عمل الفداء. من خلال كل الصلوات والتضرعات الطقسية وخاصة في رتبتي القداس الالهي ( الانافورات) لقديسينا العظيمين مار تيودوروس ومار نسطوريس، تبين لنا التعبير عن التجسد بلفظة (لبس) أي لبس من جنسنا كل ما يحتاج اليه من اجل عمل الخلاص في سلسلة من التدابير: 1- كان انسانا. 2- لبس الضعف. 3- خضع للشريعة. 4- استعد للحرب ضد الشيطان، فانتصر عليه وعلى الموت. 5- تمجد، وقام في حياة جديدة. 6- صعد الى السماء الى مقام الله. ويمكن القول ان حياة المسيح عبارة عن ثلاث مراحل؛ الاولى: الحبل والميلاد الى المعمودية. والثانية: البرية، وتصل بنا الى الموت على الصليب. وثالثا: القيامة والصعود والتمجيد.

هكذا يعبر نرساي عن المسيح بوضوح انه المخلص لطبيعتنا البشرية، لبس الكائن الازلي طبيعتنا أي بشريتنا ليحرر بها جنسنا كله. نزل من السماء متجسدا في احشاء مريم ليقيم ادم من سقطته. وانتصر على الموت بموته، وصعد بشريتنا المائتة الى الوقار مع عظمته.

وخلاصة القول اين نحن من السؤال اليوم، انه مطروح امامنا نحن المائتين. فمن هو على الصليب بالنسبة الينا الانسان أم الاله؟ ان استنتاج كل واحد منا حول هذا الموضوع، ينبع من اسس ايماننا ومقدار الخبرات الروحية التي نعيشها في حياتنا وبقدر ما نتأصل في كلمات الرسل والقديسين وعيشها مع المسيح على الصليب.

المصادر:

التراث السرياني، نرساي المعلم، الاب. الفغالي، دار المشرق، بيروت، 1996.

محطات في سر المسيح الها وانسانا، الاب شلحت اليسوعي، دار المشرق، بيروت، 2006

سلسلة ابحاث كتابية 8، لوقا – الاعمال، دونالد يوئيل، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

سلسلة أبحاث كتابية 12، من اجل ايمان جاد، بقلم الكاردنال كارلو مارتيني، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

الانسان في ضوء المسيح، فيكتور شلحت، دار المشرق، بيروت، 1999.

لماذا الزواج؟ لماذا الطلاق؟ الجزء الثاني

لماذا الزواج؟ لماذا الطلاق؟

الجزء الثاني

الخور اسقف اشور لازار

تناولنا في الجزء الاول من هذا الموضوع اهمية الزواج كنظام اجتماعي قائم على رباط روحي طاهر بين المسيحيين، اوجده الله كنظام الهي مبني على المساواة والتفاهم والتكامل بين الرجل والمرأة.

هذه الدعوة للوحدة هي وصية الهية لا تنتهي مع أول مشكلة تظهر بين الزوجين، لانهما تعاهدا امام مذبح الرب في كنيسته المقدسة على اطاعة الله ومحبة الآخر وإكمال احدهما لمتطلبات الطرف الآخر وتحمل بفرح أخطاء الآخر، وعيش حياتهما معا في الضراء قبل السراء. ان سر النجاح في اي علاقة زوجية نابع من مدى خضوع الطرفين لإرادة لله. العائلة المسيحية بعد ان قبلت البركة من الكنيسة في يوم الزواج، اصبحت لا تعيش بقلبين مختلفين بل بقلب واحد عامر بروح الله.

كلمات الوحي الالهي توجه النساء الى الخضوع لأزواجهن، كما للرب، وايضاً توجه الرجال الى محبة نسائهم كما احب المسيح الكنيسة (افسس 5 : 22- 26)، وهذا يشير بوضوح الى ان اي اختلال في هذه العلاقة يؤدي الى ابعاد محبة “الرب” و”الكنيسة” عن العائلة. الهدف السليم من الحياة الزوجية يكمن في رسو سفينة العروسين في ميناء الامان بعيداً عن الامواج المتلاطمة للحياة، بهذا يمكن للزوجين بناء صورة “مصغرة” للكنيسة داخل العائلة، وينشأ الاطفال فيها نشأة مسيحية ويسلكون في العادات الحسنة، ويعكسوا ذلك السلوك خارج الاسرة فيرى الناس “اعمالكم الحسنة ويمجدوا اباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16).

 

إن حضور المسيح في قلب العائلة يجلب لها الامان، ويشعرها بنعمة الوحدة وعدم الانقسام، ويسهل مهمتها في التربية الانجيلية الهادفة التي تتجاوب مع خطة الله للخلاص. فحضور المسيح هو قيام هذه الكنيسة المنزلية وتشكيلها لهوية قائمة على اعلان كلمة الله والاقتداء بيسوع المسيح في العالم مبتدئة من دائرة الاطفال الصغيرة ومنطلقة الى المحيط الخارجي حيث المجتمع. في العلاقة الزوجية ينبغي ان لا يكون مجال لانصراف القلوب نحو نظام العالم الذي يعمل فيه الشيطان، لان صورة مستقبل العائلة لا يكمن فقط في انجاب ابناء وبنات يكونون عوناً للوالدين في المستقبل، ولا في تعليمهم بأحسن المؤسسات التعليمية لضمان افضل مستقبل لهم فحسب، بل لان الكنيسة تنظر اليهم بمنظار روحي آخر، قائم على اقتحام نظام هذا العالم ومرتكزات الشر فيه لإنارة الزوايا المظلمة فيه وتوجيه الخطأة والهالكين نحو دفة الخلاص وصوب نور الحياة نحو المسيح.

ان التخطيط لبناء العائلة السعيدة الناجحة يبدأ قبل الزواج، ويخطئ من يظن ان نجاحها يبدأ بعد الزواج، وبالمقابل يخطا ايضاً من يظن ان التعاسة في الحياة الزوجية مصدرها احداث ما بعد الزواج، او ان المشاكل حدثت نتيجة التعرف وعن كثب على الطرف الآخر وطفت على ساحة العائلة سلبياته. الرحلة الى جانب الله في الحياة تبدأ منذ الصغر، فيتعلم الطفل من والديه الكثير عن نموه الروحي، ومصير اي عائلة ينشئها هذا الطفل مستقبلا يبدأ منذ ان يتسلم والداه مسؤولية “الكنيسة المنزلية” امام الكاهن. وأول تعليم يتلقاه هذا الطفل هو في العائلة، الكنيسة الصغيرة الاولى، ومنها يكتسب كل مفاهيم الحياة استعدادا للكبر ومن ضمنها الزواج.

ان دخول الحياة الزوجية من غير استعداد يجلب الكثير من عدم التفاهم بين طرفيها، والتي تتفاقم لاحقاً الى خلافات حادة قد تصل الى الطلاق. وليس الاستعداد عبارة عن حجز قاعة، وتجهيز منزل، شراء بدلات واستئجار مصور، والى آخر هذه القائمة المادية الطويلة، ثم يكون آخر الاستعدادات هو مخاطبة الكاهن بخصوص اتمام مشروع الزواج. كلا فالزواج مسؤولية كبيرة امام الله وهو فرصة للطرفين لاعادة اكتشاف ايمانهما والتجذر العميق فيه على مثال محبة يسوع للكنيسة، فالله هو الذي امر الانسان بالزواج ودعاه الى التكاثر واخضاع الارض واعطاه سلطانا على جميع حيوانات الارض (تك 1: 28). وفي الوقت ذاته دعا الزوجين الى ابراز ايمانهما والتزامهما بالحياة المسيحية الفضلى. ان رسالة يسوع المسيح الذي حضر عرس قانا باعتباره اول عرس مسيحي حدث في التاريخ، تتجاوز معجزة تحويل الماء الى خمر، لان المعنى الرمزي لهذا الحضور الالهي في العرس البشري، تكمن في اعطاء النعمة لمن يحتاجها، ولتبيان علاقته مع الكنيسة، كعروس ابدي، واثبات حضوره الامين والدائم معها.

“الكنيسة العائلية” شاهدة حية للمسيح في العالم، ويقع على عاتقها وظائف كنسية عدة عليها ان تتممها لبناء ملكوت الله على الارض، فاضافة الى تحصين الاطفال بالتنشئة الروحية الصحيحة، فانه يقع على عاتق الطرفين مسؤولية عدم اغماض العينين عن الوصايا الالهية في الكتاب المقدس.

من الاخطاء المدمرة للعلاقة الزوجية، والتي تمزق الشراكة العائلية، هي مسالة تباين الاذواق ومحاولة احد الطرفين الغاء الآخر. دكتاتورية احد الطرفين في البيت ومحاولته استعباد والتضييق على الآخر، وهي فكرة وثنية تماما لا وجود لها في الكتاب المقدس. لذا لابد ان ينبع احترام الزوجة لزوجها من احترام الرجل لزوجته وبالعكس، وهذا هو الطريق نحو توثيق رباط الزواج، والقضاء على المشاكل، في ظل الظروف والتحديات التي تواجه العائلة، بحلوها ومرها. إن المحبة المتبادلة في العائلة مهمة كالطعام والشراب لانجاح مسارات المستقبل، ولن تكون هناك محبة، مالم تتجسد بأفعال تفوح منها رائحة الكتاب المقدس. لقد وصف الرسول بولس في رسالته الى رومية بكل وضوح المحبة قائلا:” لتكن المحبة بلا رياء، كونوا كارهين للشر ملتصقين بالخير، واحبوا بعضكم بعضا كاخوة، مقدمين بعضكم بعضا في الكرامة، غير متكاسلين في الاجتهاد، متقدين في الروح، عابدين الرب” ( رو 12: 9- 11)، وهذه الوصايا وغيرها يمكن تطبيقها في العائلة الواحدة.

ويمكن أن يلعب الرجل دورا في هذا او المرأة على حد سواء، يرسم لنا سفر الامثال صورة للمرأة الفاضلة: “امرأة فاضلة من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ. بها يثق قلب زوجها، فلا يحتاج إلى غنيمة. تصنع له خيرًا لا شرًا كل أيام حياته” (ام 31: 10 – 12 ).

كرستولوجيا كنيسة المشرق تقاليد و تراث الشرق المسيحي

كرستولوجيا كنيسة المشرق، تقاليد و تراث الشرق المسيحي

د.افينوجنوف و أ.مورافيف.

موسكو:اسداتلستفو “اندريك” 1996.

ترجمة: ياسمين اسحق

مقدمة:

ان الصياغات الكلاسيكِية لكرستولوجيا كنيسة المشرق نجدها في المقام الأول في خلاصات وافية تعود الى القرون الوسطى، مثال (الجوهرة) لمؤلفه عبد يشوع النصيبيني (1318)م وفيه يبين التعاريف المتضاربة للمجتمعات الكنسية الثلاث: كنيسة الشرق الأدنى، السريان الأرثوذكس ( اليعقوبيين) والتي تؤمن بكيان واحد أو (طبيعة واحدة) و أقنوم واحد في جسد المسيح. الكنيسة الخلقدونية أو (الملكانية) التي تؤمن بكيانين وأقنوم واحد. و كنيسة المشرق (النسطورية) التي علّمت بوجود كيانين وأقنومين. الجميع اتفق في ) proposon) واحد. بما أن أصول هذه الصياغة أو (الصيغة) تعود الى القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، فإن هذه الدراسة (المقالة) ستقتصر على هذه الفترة. وأهمّ مصدر لنا هنا هي مجموعة سينودس الكنيسة الشرقية وقد تم جمعها في عام 800 م وتُعرف اليوم بشكل عام بالسنوديكون الشرقي.

ضمن هذه المصادرالسنودسية لدينا عدد كبير من النصوص العقائدية (المسيحية) ومن بينها، وفيما يخدم موضوعنا، يأتي أولاً نص يعود إلى العام 486 م.

في ضوء ندرة المصادر الاخرى للنصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، فإن كتابات (نرساي) في صيغة مواعظ، تعتبر ذات أهمية خاصّة. وبعض مواعظه ذات طابع لاهوتي جدلي ولذا فهي تحتوي على العديد من الفقرات التي تهتم بالكرستولوجيا.

من الممكن انه في الفترة التي تبعت السلام مع الفُرس نحو نهاية حكم (جاستنيان)، كانت هنالك مناقشات رسمية بين الكنيستين اليونانية والفارسية، وقد تم تدوينها و(حفظها) في مخطوطات سريانية ذات الاتجاه الذي يؤمن بناسوت ولاهوت المسيح معاً.

إلى حد بعيد فإن العرض الأكثر تفصيلاً عن كرستولوجيا كنيسة المشرق خلال هذه الفترة هو(كتاب الاتحاد) لمؤلفه باوَي العظيم 628 م. وقد أقرّت كنيسة المشرق في تعليمها الرسمي بنظريته التي تؤيد وجود أقنومين في المسيح المتجسد.

هنالك عدد من الكتّاب السريان الآخرين خلال القرن السابع الميلادي ممن يجدر ذكرهم مثال الجاثليق إيشوعياب الثاني و إيشوعياب الثالث و كيوركيس. وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى ان المقتطفات الأدبية لنصوص كرستولوجية لما بعد تلك الفترة، قد تُرجمت ونُقّحت من قِبل برامورسكي و جودمان.

 

 

الخلفية التأريخية

 

لقد نمت المسيحية (الناطقة بالسريانية) ومنذ وقت مبكّر، إلى شرق أي خارج الإمبراطورية الرومانية. علماً بأننا لم نبدأ بالحصول على المصادر الجيّدة الى حد مقبول إلّا من القرن الرابع وما بعده، وهي تتعلق بتأريخ الكنيسة إذ نمت في عهد الإمبراطورية الساسانية.

إنّ حقيقة كون كنيسة المشرق تنتمي جغرافياً إلى خارج الإمبراطورية الرومانية كان لها أثر بالغ الأهمية؛ بما أن المجامع الكنسيّة العظمى في الإمبراطورية الرومانية كان يدعو إلى انعقادها الامبراطور رسمياً وكانت تقتصر على حضور الأساقفة من ضمن الإمبراطورية الرومانية، فإنّ مصطلح (مسكوني) في هذا المضمون يجب أن يُفهم بمعنى ” ألذي ينتمي إلى مسكونة روما” و بناءً على ذلك فإنّ هذه المجامع الكنسية لم تكن مصدر اهتمام مباشر من قِبل الكنيسة في امبراطورية فارس..أي كنيسة المشرق. ولكن بمرور الزمن، لم يكن من المستغرب أن تُعرب كنيسة المشرق عن رأيها بشأن المجامع الكنسية الرئيسية التي برزت كمعالم في تأريخ الكنيسة ضمن الإمبراطورية الرومانية.

وبالتالي فإنّ كنيسة المشرق في المجلس الكنسي (السينودس) ألذي انعقد في مدينة ساليق- قطيسفون عام 410 م، قبلت رسميّاً بمجمع نيقية بعد انعقاده بخمسة وثمانين عاماً بالتّمام. وفي مجمع كنسي آخر عُقد سنة 420 م أُعطيَت الموافقة على تشريعات سلسلة من المجامع الكنسية (الغربية) ومنها مجمع نيقية وللمرّة الثانية، مجمع أنقره، مجمع قيصرية الجديدة، مجمع غانغرا، مجمع إنطاكية ومجمع اللاذقيّة. إلاّ أن الإدارة الغير المنظمة لمجمع أفسس، والمعاملة الرثّة التي عومل بها (يوحنا الأنطاكي وأتباعه) كانت كفيلة بعدم تقبّل كنيسة المشرق لهذا المجمع. أمّا بالنسبة الى مجمع خلقيدونية فقد كان أمراً مختلفاً، حيث كان يُنظر إليه على أنه نقلة في الإتجاه الصحيح على الأقل. رغم أن تعريفه المذهبي للإيمان أُعتبر إنه غير كافٍ وغير منطقي.

تعليق الجاثليق إيشوياب الثاني (628م-646م) بهذا الشأن كان نمطياً:

” على الرغم من أن الذين اجتمعوا في مجمع خلقيدونية قد اتّشحوا بنيّة الحفاظ على الإيمان، إلاّ انّهم هم أيضاً زلّوا عن الإيمان القويم وبسبب عباراتهم الواهنة أصبحوا حجر عثرة للكثيرين رغم أنهم وفقا لرأيهم قد حافظوا على الإيمان القويم باعترافهم بالطبيعتين، إلّا انهم بوضعهم لصيغة وحدة الأقنوم (الهيبوستاسيس) فإنّهم، على ما يبدو، أغروا ضعاف العقول. نتج عن هذه المسألة أن حدث تناقض، فبصيغة (وحدة الأقنوم) حرّفوا الاعتراف (بطبيعتين)، بينما باعترافهم (بطبيعتين) دحضوا ( وحدة الأقنوم). وبالتالي وجدوا أنفسهم على مفترق طرق وتذبذبوا ومالوا عن الفكر الأرثوذكسي. لم ينضمّوا حتى الأن الى مجالس المهرطقين، لكن كلاهما هدّما و بنَيا مفتقرَين إلى الآساس اليقين الذي يقفان عليه. فالى اي جانب يمكن ان نصنفهم؟ أنا لست أعلم. لآنّ مصطلحاتهم لا تستند الى شيء كما شهدت الطبيعة والكتاب المقدّس: ” من الممكن تواجد عدّة أقانيم في طبيعة واحدة لكن القضية لم تكن هكذا أبداً، ولم يُسمَع من قبل انّه يجب أن تتواجد أكثر من طبيعة في (أقنوم) واحد.”

سنعود مرة أخرى إلى شكوى الجاثليق إيشوعياب حول لا منطقية استعمال المصطلح (أقنوم) في التعريف الخلقيدوني.

في العقود التي سبقت انعقاد المجمع الخلقيدوني، قام أساقفة من المقاطعات الشرقية للإمبراطورية الرومانية والذين كانوا يخدمون كمبعوثين إمبراطوريين لدى المحكمة الساسانية، بجلب معارف القرن الرابع إلى مجامع الكنيسة التي عقدت في 410 م و 420 م. غير انّه في المجمع الكنسي الذي انعقد عام 424 م نجد أنّ حظراً قد فُرض على مناشدات للأساقفة الغربيين. من الواضح أنّ مناشدات بعض الأساقفة كانت وسيلة لإضعاف سلطة أسقف ساليق- قطيسفون. مما جعل مدرسة الرها (أديسّا) أو المدرسة الفارسية (كما سُمّيت من قِبل العديد من طلبة الإمبراطورية الفارسية الذين كانوا يدرسون هناك) أن تصبح القناة الرئيسية التي من خلالها كانت كنيسة المشرق تعلم بالتطورات اللاهوتية في الإمبراطورية الرومانية.

بما أنّ مدرسة الرها ومنذ بدء المجادلات اللاهوتية قد حبّذت الوقوف وبصرامة مع الرأي القائل بوجود (طبيعتين) في اللاهوت، فإنّه ليس من المُستغرب انّ الكنيسة في فارس مالت إلى رؤية الأمور المطروحة من وجهة نظر إنطاكيّة وإلى التعاطف القليل مع تقليد الاسكندرية في اللاهوت.

من ناحية أخرى فإن مدرسة الرها الفارسية قد قامت بترجمة عدة مؤلفات لـ ( ثيودورس الذي من مصيصة) إلى اللغة السريانية خلال الثلاثينات من القرن الرابع الميلادي. و بفضل هذه الترجمات فقد أصبح ثيودورس من أكثر الآباء اليونان تأثيراً فيما يتعلق باللاهوت والتفسير. حتّى إنّ (باوَي العظيم) ذهب إلى أبعد من ذلك إذ لقّبه ب” التلميذ المثالي للرّسل” و ” ضريح الروح القدس”.

بعد إغلاق مدرسة الرها عام 489 م من قِبل الإمبراطور زينون، تم نقلها فعلياً عبر الحدود إلى نصيبين. وهكذا وخلال القرن السادس ومطلع القرن السابع عندما كانت مدرسة نصيبين في أوجها، تمّ نشر تعليم لاهوتي إنطاكي صارم ضمن الإمبراطورية الساسانية

مكانة الكنيسة ضمن أطياف اللاهوت:    

في أغلب الأحيان، كان يطرح تأريخ العقيدة قديما عن طريق نموذج ثلاثي؛ حيث نرى العقيدة الأرثوذكسية الخلقيدونية محاطة من جهة بمدعي الطبيعة الواحدة (مونوفيزيين) وبمدعي العقيدة النسطورية من جهة أخرى. الا أن كلا من الدراسات الحديثة وحوارات المجالس الكنسية تشير إلى أي مدى يُعتبر هذا النموذج المُبسّط خادعاً ومُضلاًّ. وبناءاً على ذلك فإن تبنّي نموذج بديل بالغ الدّقة للتدرّجات بين قطبي اللاهوت؛ الإنطاكي والاسكندري يعتبر أمراً في غاية الأهمية.

لغرضنا الحالي، سأقترح نموذجاً ذي سبعة أبعاد (أنظر الجدول المرفق)؟ بدءاً من الطرف الإسكندري للتدرّج فإنّ المرتبة الأولى يأتي فيها أوطيخا الذي اقتر إنّ المسيح كان جوهرياً فقط مع (الآب) ولهذا الموقف الهرطوقي يمكننا أن نلتزم مصطلح ( أحادي الطبيعة- مونوفيزي). يتميّز عنه و بوضوح في المرتبة الثانية موقف الكنائس الشرقية الأورثوذكسية اليوم. وهنا من المهم، لإبعاد الغموض ومن ثم التضليل الذي يسببه مصطلح (مونوفيزي أو الطبيعة الواحدة، فأقترح استعمال مصطلح (ميافسايت) عوضاً عنه. في المرتبة الثالثة في التدرّج يأتي الخلقيدونيون الجدد والذين لا يقبلون بمقولة الخلقيدونيين ((بطبيعتين)) والسيرلاين ( بتجسد واحد لطبيعة الله في الكلمة.) ثم ننتقل إلى مرتبة السكوت الخلقيدوني القلق، متمثلاً في الـ (هينوتيكون) منشور زينون ومجموعة الكتابات التي تُنسب إلى ( ديونيسيوس الأريوباغي).

بينما ننتقل من التقليد اللاهوتي الأسكندري إلى الأنطاكي، نجد لدينا مرتبتان متقاربتان بوضوح؛ الأولى الديوفيزيين المتزمّتين ( مدعي الطبيعتين) ضمن الإمبراطورية الرومانية ويمثّلهم أشخاص مثل (ثيودورس)، الرهبان والكنيسة الرومانية. والمرتبة الثانية هي الديوفيزيين خارج الإمبراطورية الرومانية – بعبارة أخرى- موقف كنيسة المشرق. وأخيراً لدينا الموقف الإنطاكي المتطرف الذي يُعلّم بوجود إثنان ( برسوبا) والذي من الممكن أن يكون معتقد (نسطورس).

 

بنموذج كهذا من الممكن أن نرى بسهولة إنّ المعايير اللاهوتية المختلفة تؤدي إلى تشكيل مجموعات مختلفة. فلو أُخذ تعريف مجلس (مجمع) خلقيدونية للإيمان كمعيار للأرثوذوكسية، فإنّ المراتب الثلاث الوسطى هي فقط ستكون مقبولة؛ هذا لو كنا نحكم على أساس إدماج معيارين آخرين للاهوت بمعنى واحد في المسيح، والمسيح كجوهر في الآب وفي الإنسان، لكانت لدينا صورة أكثر شمولية لأن هذا سيسمح لنا بإدراج الأرثوذوكسية الشرقية وكنيسة المشرق.

 

بالنظر من خلال هذا التدرّج الأوسع ستتضح صعوبة القبول بالحكم على التعليم اللاهوتي لأي من الكنيستين، كنيسة المشرق أو الأرثوذوكسية الشرقية بالأخذ فقط بالتعريف الخلقيدوني كمعيار للأرثوذوكسية.

في هذه العلاقة توجد نقطتان مهمتان واجب ذكرهما. الأولى هي أن صيغة معالجة موضوع اللاهوت المستعملة من قبل المجمع الخلقيدوني ليست بالضرورة الوحيدة المقبولة لشرح لغز التّجسد. والنقطة الثانية هي أنّ مصطلحا (طبيعة) و (أقنوم) ممكن فهمهما بعدة معانٍ. وقد باتت مشكلة الإبهام (الغموض) أكثر وضوحاً عندما تمت ترجمة المصطلحين إلى اللغة السريانية.

كنيسة المشرق الاشورية ومار نسطورس

كنيسة المشرق الاشورية ومار نسطورس

غبطة المطران مار ميلس زيا

أنتجت الحروب الدائرة بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، مناخاً سياسياً ادى الى عزل كنيسة المشرق عن الغرب. فلم يتسنى لكنيسة المشرق أن تحضر أو يمثلها أحد في المجامع الكنسية الأولى ولا حتى المساهمة أو مناقشة مقررات أي مجمع ومن ضمنها مجمع افسس 431 م.

وبالنظر للظروف الاستثنائية التي عاشتها الكنيسة آنذاك فقد استقلت في كل شؤونها، حتى تبنت لاهوتاً تم اعتباره مختلفا عن الكنائس الأخرى. ومع ذلك فقد قبلت صيغة ايمان مجمع نيقية 325 م وإن كان ذلك في فترة متأخرة في مجمع مار اسحق عام 410 م، وكان هذا دليلا على أن استقلالية لاهوتها لا يعني الابتعاد عن جسم الكنيسة جمعاء. لكن تدخلات ذات اهداف غير كنسية استغلت تشكيل صيغ العقائد وكذلك صيغ ايمان كنائس اخرى في المنطقة بعيدا عن حدود الامبراطورية الرومانية، قادت الى عقد مجمع أفسس 431 م واقرت ادانة مار نسطورس بسبب عقيدته لكن ذلك لم يؤثر على الكنيسة نفسها لأن مار نسطورس لم يكن يوما بطريركا لها.

إن كنيسة المشرق أعترفت بقوانين مجمعي نيقية 325 م والقسطنطينية 381 م. وكذلك قبلت اعلان مجمع خلقيدونية 451 م بخصوص الطبيعتين في المسيح، لكنها تريثت في قبول مفهوم الاتحاد بين الاقنومين، حيث نادى مجمع خلقيدونية باقنوم واحد في المسيح. فيما كان الموروث الايماني والعقائدي لكنيسة المشرق يقوم على الايمان بطبيعتين واقنومين في شخص يسوع المسيح.

واحتفاظ كنيسة المشرق كذلك بلقب “والدة المسيح” في وصفها للقديسة مريم العذراء، بسبب اعتقادها أن لقب المسيح يشمل كلا من “الاله التام” و”الانسان التام”، وانحراف تفسير معنى كلمة اقنوم بالسريانية الى مفهوم بعيد كليا عن ايمانها حيث ترجم خطأ الى كلمة “شخص”، فقد أطلق فيلوكسينوس المنبجي Philoxenos of Mabbug في مطلع القرن السادس، اسم النساطرة على اتباع كنيسة المشرق.[1]

تبنت كنيسة المشرق لاحقاً، مفاهيم المسيحانية الانطاكية، ضد المفاهيم التي طرحها اوطيخا.[2] إن ربط كنيسة المشرق بنسطورس بطريرك القسطنطينية، كان غير مبرر. لأن الكنيسة شددت على ان معيار ايمانها العقائدي واللاهوتي والكرستولوجي هو ما اعلنته في وثيقة ايمانها وما تعبر عنه في صلواتها الطقسية وما تتضمنه من عقائد. وليس من المنطق ان تتهم الكنيسة بالهرطقة بناء على ما نسبه خصوم مار نسطورس له من منطلقات وعقائد يصعب التأكد من صحة نسبتها اليه بسبب ما تعرضت له كتاباته من اتلاف وكثرة الشكوك في صحة النزر اليسير الذي وصلنا منها.

إن اطلاق اتهامات بهرطقة كنيسة المشرق جاء نتيجة الالتباس وسوء الفهم الحاصل في ترجمة المفردات ومفاهيمها وهو ما حصل على سبيل المثال في مفردة (قنوما)، وفي هذا الصدد يقول الدكتور سيباستيان بروك، من الضروري ان نترك كلمة qnoma مكتوبة كما هي بلغتها لتجنب أي سوء فهم.[3]

ولا شك اننا نفهم ان العقيدة الارثذوكسية المنادية بطبيعة واحدة واقنوم واحد في المسيح، من دون ان نحور في المعنى بكل الاحوال والقول انها تعني الغاء ناسوته. وهكذا كان ينبغي على الاطراف ان تتفهم تعابير وصيغ ايمان الكنائس الاخرى مثل كنيسة المشرق على سبيل المثال، من دون تقويل وتفسير ايمان الكنيسة التي تؤمن بطبيعتين واقنومين في المسيح، أنها تأكيد لوجود شخصين في المسيح.

كذا الحال مع تعبير “والدة الله” الذي يأخذه البعض على ان الكنيسة لا تؤمن بالوهية المسيح، لكن استخدام تعبير “والدة المسيح” يعبر ضمنا أن والدة المسيح ربنا، هي والدة “الاله التام” ووالدة  “الانسان التام” في الوقت ذاته.

وهذا ما يرد في ليتورجية الكنيسة ففي صلاة ختام القداس تنشد الكنيسة: (ܡܫܝܚܐ ܐܠܗܢ ܘܡܠܟܢ ܘܦܪܘܩܢ ܘܡܚܝܢܢ ܘܫܒܘܩܐ ܕܚܛܗ̈ܝܢ) وترجمتها (المسيح الهنا وملكنا ومخلصنا ومحيينا وغافر خطايانا)، اضافة الى العديد من الصلوات ومنها نخص بالذكر ترديد قانون ايماننا النيقاوي الذي يقر بالوهية المسيح وانسانيته.

ونخلص الى القول أن الظروف التي مرت بالكنيسة عبر الاجيال حتمت عليها التأثر بالبيئة الثقافية تحت سيطرة العديد من السلطات وتعاقبها وممارسة ابشع انواع الاضطهاد في العادة منذ العهود الساسانية حتى العصور العثمانية في القرن الماضي. نتيجة الضغوط القاسية التي عاشتها الكنيسة كان عليها التمعن بفطنة وحنكة على اطلاق التعابير والتفاسير عبر العصور المختلفة وسط شراسة اتباع افكار ومعتقدات مغايرة. ولم يكن من السهل ان يتقبل وسط مختلف عقائديا ودينيا يشكل الغالبية تعبيرا مثل ” والدة الاله” وكان يعده في الغالب كفرا.

ان اعتقاد كنيسة المشرق بخصوص طبيعة المسيح، يقول بشخص واحد، ذو اقنومين وطبيعتين. ولعل تفسير هذه الصيغة على انها شخص واحد وطبيعتان ملموستان، وطبيعتان مجردتان، هي ارثذوكسية تماماً اذا ما حاولنا ان نفهم تماما كيفية اتحاد الذات الالهية مع الناسوت[4].

[1]  A Ssemani (note3),P. LXXVII. راجع ايضا: ادلبرت ديفز، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 247.

Philoxenus of Mabbug (died 523) was one of the most notable Syriac prose writers and a vehement champion of Miaphysitism.

[2]  ادلبرت ديفز، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 259.

[3]  سيباستيان بروك، دراسات في المسيحانية السريانية في Variorum XIII 131. الحوار السرياني.

[4] مار افرام موكن، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 275

حياتنا وحقيقة القيامة

حياتنا وحقيقة القيامة

 

القس هرمزد جرجيس

 

برغم وجود العديد من التيارات التي تبتر الحديث عن وجود المسيح، سواء في جانبها الإلهي أو التاريخي، ولأن الحديث يدور عن القيامة لكونها محور الإيمان المسيحي، فان البحث في ربط القيامة بحقائق تاريخية استنادا إلى الأناجيل هي مهمة لفهم حقيقة القيامة وتجلي الله في يسوع. هذا ما سعى الفكر اللاهوتي إلى تبيانه وربطه بحياتنا.

تنقل لنا أسفار العهد الجديد المفاهيم الأولى عن إيمان وشهادة الرسل في الكنيسة الاولى، راوية أحداثا تأريخية. فقد ذكر الإنجيليون معلومات دقيقة أثبت علم الآثار صحتها إضافة الى تقاليد المؤمنين الأوائل التي تؤكد تاريخية يسوع المسيح له المجد بطريقة فريدة. كما أكّد أحدُ اللاهوتيين المعاصرين:” تبرز الاناجيل أمامنا شخصية يسوع التاريخية بكامل قوتها، ولكن تختلف تماما عن طريقة النشرات الاخبارية والقصص التاريخية”.

أظهر الإنجيليون إخلاصهم وأمانتهم للتاريخ، فقد بيّن لوقا ذلك في مقدمة إنجيله أنه ” تقصّى الامور جميعها من اصولها بتدقيق” قبل كتابتها… ( لوقا 1: 3). مما كان له تأثير في وجهة نظر المفسرين ويحمل دلالات لاهوتية عميقة.

فالإنجيليون رغبوا أن يبينوا إن الله يتدخل في تاريخ البشر ويجعل البشرية حقل عمله الخلاصي. إذ ان الوحي في كلا العهدين القديم والجديد يظهر لنا إن ” الله – معنا” مغيرا مجرى الاحداث ومرشدا شعبه ومقدما له الخلاص. فاذا ما جردنا تاريخ الخلاص من قيمته التاريخية، فاننا نشوه التدبير الخلاصي وننزع عنه القدرة على تحويل التاريخ. ففي نظر المؤمن، ليس الأمر ثانوياً، أن يكون ” ابن الله / يسوع الناصري” قد ولد في بيت لحم وعاش في إسرائيل بين السنوات 7 ق.م و 30.م تقريبا، وان يكون قد تألم ومات على عهد بيلاطس البنطي، الحاكم الروماني. فهذه كلها اشارات تحدد موقعه في تاريخ العالم فهو اذن مندمج فيه تماما ويستطيع ان يخلصه. لذا فقد كانت كتابات الانجيليين شهادات حية لحياة يسوع على الارض.

ان تشديد الانجيليين على اخلاصهم وامانتهم للتاريخ يهدف الى اثبات حقيقة التجسد وإبعاد خطر الظاهرية، ( أي إن المسيح هو انسان في الظاهر فقط)، كما يدل ايضا على ان الله صار حقا انساناً بيسوع المسيح، وانساناً بالتمام والكمال. قال يوحنا:” ذاك الذي رأيناه وسمعناه، نبشركم به” ( 1 يوحنا 1: 3). وهذا يعني ان يسوع المسيح لم يخلقه الايمان التصوري، بل هو ايمان الكنيسة، وايمان الكنيسة هذا يستند الى مؤسسها، فقبل أن تكون كنيسة مؤمنين، كان يسوع المسيح، والكنيسة تريد ان تكون أمينة له، ولا يسعها ان تفرط به.

أن ما سعى الرسل إليه هو إثبات أن المسيح القائم، موضوع ايمان الجماعة الاولى، هو هو يسوع الارضي. فالذي عرفته تلك الجماعة عائشا معها، هو نفسه الذي قام، وقد استطاع جميع الذين كانوا يعيشون في اسرائيل، ان يروه ويلتقوه في حياته الأرضية، أي بحسب الجسد. وأدرك المؤمنون في ما بعد انه هو هو نفسه بعد قيامته، أي بحسب الروح. ان هذا التشديد على ان يسوع الايمان مطابق ليسوع التاريخ، هو تشديد على حقيقة القيامة المجيدة، لذلك نقول ان ايمان الكنيسة بعد القيامة يستند الى التاريخ الموضوعي، أي إلى يسوع التاريخي، لذا ندرك نحن أهمية البحث في حقيقة قيامة يسوع المسيح، لا سيما أن هذا الحدث هو نقطة انطلاق الرسل في تفهم شخصية يسوع ومنطلق ومشتهى كرازتهم.

للاجابة على السؤال المطروح حول موضوعية شهادة الانجيليين وقيمتها التاريخية، علينا ان ندرك إن المسيح الذي نقله لنا الإنجيل ليس مجرد شيء يُدَرَسْ، أو خبرة يقف منه الشهود موقفا حيادياً. لقد فسر الإنجيليون شخصيته انطلاقاً من تواصل حسي وحوار شخصي متبادل، فهم يشهدون لما عاشوه واختبروه وبذلوا حياتهم من اجله، لان معرفتهم به وجودية تعبر عن علاقة بين شخصين، وهي علاقة محبة أدركتهم في الصميم وغيرتهم تماماً.

لقد نقل إلينا الرسل في الإنجيل هذا الاختبار، الذي ادركهم وغيّرهم انطلاقا من حدث القيامة[1]، فعلى ضوء حلول الروح القدس يوم الخمسين، ادرك التلاميذ ما عاشوه في الماضي، فقام تفسيرهم لحياة يسوع التاريخية على اختبار مميز لا يستطيع أي مؤرخ في التاريخ ان يختبره.

بعد ان اصبحت قيامة المسيح منطلقاً للكرازة الرسولية، انطلق الاهتمام بدراسة علم لاهوت المسيح، فكان الاعتراف بهذه القيامة، الشرط الرئيسي للدخول في الجماعة المسيحية، كما يظهر ذلك في اقدم قانون ايمان عرفناه، ورد في الرسالة الاولى الى اهل كورنثوس (56-67م): ” فانني سلمت إليكم في الاول ما قبلته انا ايضا ان المسيح مات من اجل خطايانا حسب الكتب، وانه دفن وانه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وانه ظهر لصفا ثم للاثني عشر، وتراءى لاكثر من خمسمئة أخ… وتراءى لي آخرا…هذا ما نبشركم به وهذا ما آمنتم به ” ( 15: 3- 11)، ثم اصبحت قيامة المسيح جوهر الايمان المسيحي، كما قال بولس الرسول:” ان كان المسيح لم يقم، فايماننا باطل” (1 كو 15: 14).

ان اكثر الاثباتات المسيحية قدما وشيوعا وتأكيدا، هو اثبات ان المسيح قد قام. وقد تجلى ذلك في جميع مجالات الحياة المسيحية، كالكرازة والعبادة والتربية المسيحية والعمل الرسولي، فقيامة المسيح هي موضوع الايمان المسيحي وخلاصته، كما قال بولس الرسول لاهل رومية: ” اذا شهدت بفمك ان يسوع رب، وامنت بقلبك ان الله اقامه من بين الاموات نلت الخلاص” ( 10: 9)، وأعلن عنها بقوة شديدة وبشجاعة اشد، في الرسالة الاولى الى اهل كورنثوس حيث قال: ” وان كان المسيح لم يقم فكرازتنا باطلة وايمانكم ايضا باطل” (15: 14). لذلك نقول ان اثبات قيامة يسوع المسيح هو اثبات واضح.

غير ان رواية تلك الاحداث في النصوص الانجيلية، مختصرة جداً، حيث يخصص مرقس 20 آية فقط، ومتى 20 آية ايضاً، ولوقا 52 آية، ويوحنا 59 آية، وهذه كلها مجتمعة تشكل نسبة 4% من نصوص الاناجيل الاربعة، ويعود سبب ذلك الى ان الانجيليين لم يهدفوا الى سرد الوقائع ونقل كلمات يسوع بحذافيرها، لانهم ارادوا ان يوحوا الينا بما رأوه عن القيامة، أي اختبار الرسل حضور المسيح بينهم حضوراً حقيقياً وجديداً، فقد تراءى لهم ليثبت ايمانهم ويرسلهم لكي يشهدوا له.

ان مضمون رواية احداث القيامة، يتلخص في نقطتين وهما: القبر الفارغ وترائيات القائم من الأموات.

يرد ذكر القبر الفارغ في المراجع التالية: متى (28: 1-8) ومرقس (16: 1-8) ولوقا (24: 1-12) ويوحنا (20: 1-10)، وخلاصة هذا النصوص ان النسوة كن أول من قمن بهذا الاكتشاف. أما الترائيات، فقد تراءى يسوع للنسوة (متى) ولمريم المجدلية (يوحنا) وللاحد عشر (عدة مرات) ولتلميذي عماوس (لوقا ومرقس).

تشكل قيامة المسيح، كما اشرنا سابقاً، محور كرازة الكنيسة الاولى وجوهر تعليمها، وتستند تلك الكرازة الى حدث، وهو ان التلاميذ شاهدوا الرب حياً في اختبار روحي حقيقي، لذلك نقول ان قيامة يسوع حدث تاريخي، على الرغم من إن احداً لم ير يسوع في لحظة نهوضه من القبر.

حدث تاريخي فريد من نوعه، لان التلاميذ اعلنوا انهم رأوه حياً، بعد ان كانوا قد رأوه معلقا على الصليب، بمعنى انه جرى في التاريخ، وهو اختبار روحي لان جسد يسوع القائم من بين الاموات ما عاد ينتمي الى عالمنا الطبيعي المرتبط بالزمان والمكان. ان قيامة الرب هي انتقال من الموت الى الحياة الابدية، وبالتالي لا يمكن ان تكون موضوع مشاهدة حسية، ولا يمكن ان تكون حقيقة إلا بعين الروح والإيمان.

لم يثبت يسوع قيامته بأدلة مادية قاطعة، بل اكتفى بإعطاء تلاميذه علامات. فآمنوا عندما رأوا تلك العلامات و” آمنوا بما لم يروا”. هكذا رآه تلميذا عماوس بكسر الخبز، وآمنا بان يسوع حي وقد قام، كما رأى توما يسوع وآمن بأن الرب حي، بالاضافة الى ذلك نقول أن الترائيات لم تمنح للجميع، بل للذين ” اكلوا وشربوا فقط مع يسوع” (أعمال الرسل 10: 41). ؟؟

لذلك بدلا من ان نتساءل هل كانت تلك الترائيات حسيّة، ينبغي أن نقول انها كانت حقيقية، فريدة من نوعها، اذ ان يسوع القائم كان يتراءى، اي يري نفسه للتلاميذ، ثم يختفي فور تعرفهم اليه. لذلك نقول ان القيامة هي تاريخ وإيمان معاً.

نخلص إلى القول ان المسيح بعد القيامة يحيا حياة حقيقية غير مجازية، ولكن بطريقة جديدة تختلف عن الطريقة الحسية المألوفة، وهذا ما دفع التلاميذ الى استعمال اسلوبين متكاملين في التعبير عن هذا الحدث الجديد، هما الأسلوب المادي والاسلوب الروحي معاً.

كما أننا نجد في الترائيات اسلوباً تربوياً ظاهراً في التنقل بين المحورين الحسي والروحي، لانه كان لابد ليسوع ان يهيء تلاميذه، ونحن من بعدهم، لطريقة جديدة في حضوره بينهم، آنذاك، وبيننا نحن الآن، قبل مجيئه الثاني، أي حضوره رغم غيابه الحسي، وحضوره في إطار الإيمان المدعوم الافخارستيا التي تجعل المسيح حاضراً في حياتنا.

 

المصادر:

  • الاب صلاح أبو جودة اليسوعي، قيامة المسيح، ” موسوعة المعرفة المسيحية” العقيدة(7)، دار المشرق، بيروت، 2000.
  • الاب فرنسوا فاريون اليسوعي، فرح الايمان بهجة الحياة، طبعة 7، دار المشرق، بيروت، 2003.
  • معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، الطبعة السادسة، بيروت ، 1986
  • الاب البير ابونا، ” من اجل ايمان جاد” دار بيبليا للنشر، الموصل، 2008