العزاء، الرقاد ولبس الأسود في ايمان كنيسة المشرق، (7) الشماس نينب رمزي
ايمان كنيسة المشرق (7)
العزاء، الرقاد ولبس الأسود في ايمان كنيسة المشرق
الشماس نينب رمزي
الانتقال حسب المفهوم الانساني الغير ايماني، هي عملية تحول من مكان الى آخر (الشخص ذاته بأعضائه الحية) اما الرُقاد هي التسمية الايمانية لتوقف كل اعضاء الانسان عن العمل نتيجة توقف مراكز العمليات (العقل والقلب) وبالتالي يصبح الانسان مجرد جثة هامدة، خالية من اي نشاط، وتسمى هذه الحالة بــ(الموت).
هذا كان التعريف العلمي المبسط لكلتا الحالتين، اما التعريف الايماني المبسط للانتقال، فهي حالتين جاء ذكرهما في الكتاب المقدس، ابرزها انتقال ايليا النبي الى السماء
( 2 مل 11:2 ) حين حملته مركبة من نار. هذه الحادثة تعد الابرز في عملية الانتقال الكامل بالجسد والروح الى السماء والتي جاءت بعد اختفاء أخنوخ والذي يخبرنا الكتاب المقدس عنه، أنه لم يوجد بعد ذلك لأن الله أخذه (تك 5: 24).
اما مفهوم الموت في الايمان المسيحي وبشكل عام، فهو عملية انتقال روحية حيث ستوارى الأجساد المادية، التراب ويلحق بها الخراب ويخبرنا مار بولس من ان “يسوع المسيح الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده” (في 3: 21).
ترتيب التدبير الالهي للانسان يمر بخطة عظيمة لخلاص “عمل يده”، عبر سفك الدم لضمان غفرانه من اثمه الذي اقترفه بيده، مخيراً لا مُسيراً، فارسل ابنه الوحيد لنا،
حيث بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رو 5 : 8 ) ليكسر شوكة الموت بالموت، ليحرر من ذاقها عندما اخطئ، وكسر امامه أبواب الجحيم ونزل اليه ليرفع كل ذائقي الموت (الخطاة) فيصعد بهم الى الامجاد السماوية.
وبعد قيامة المسيح في اليوم الثالث، بمجدٍ عظيم، واتضاح خطة الله لنا بحقنا في الحياة الأبدية إن آمنا به، تحولنا من مرحلة اللاايمان الى مرحلة الايمان، ومن الشك الى اليقين، ومن الحزن الى فرحٍ عظيم، لينتهي معها زمن الحزن والموت، بعد انفتاح الطريق الى حياة الملكوت، للتنعم بأفراحها الحقيقية.
في الفترة من صلب المسيح الى يوم قيامته، كان تلاميذ المسيح حزانى ومشتتين لمدة ثلاثة أيام، لا بل فيهم من نكره ثلاث مرات (مت 26 : 70)، (مت 26 : 72)، (مت 26 : 74)، وفيهم من عاد حزيناً وخائباً الى قريته (لو 13: 24- 35 )، الا ان فرح القيامة في اليوم الثالث، قضى على أحزان الصلب والموت وصار مقترناً لنا هذا اليوم الثالث، كمؤمنين مسيحيين، بالفرح الذي لا يعبر عنه لانه لم يعد للموت سلطان على الانسان.
لقد قام المسيح من الموت وأقامنا نحن من كنا هالكين بخطيئتنا، فاعطانا املاً جديداً وبشرى سماوية سارة، لذلك تحرص التعاليم الكنسية والرسولية، على ان لا يحتل الحزن قدراً أكثر من الايام الثلاث، وما زاد على ذلك لا تجد الكنيسة له مبرراً.
مار يوحنا فم الذهب (وهو احد الآباء المسكونيين من القرن الرابع) يوبخ وبشدة من يلتزم بلبس السواد لا بل يتعدى ذلك حين يوصي المؤمنين بلبس الابيض! كون ذلك يشير الى فرح وبهجة حيث ينتقل الانسان المؤمن من العالم الفاني للعالم الابدي مع رب المجد قائلا :
“ماذا تفعلون، أنتم الذين تدنّسون يوم القيامة هذا؟..أنتم الذين تتمسكون بأسود الحداد ألا تؤمنون بالمسيح؟.. لماذا تخزون هذا الراحل؟..لماذا تحولون الراحة إلى خوف ورعدة عند الموت؟.. لماذا تدفعون الناس إلى توجيه التهم إلى الله؟..أنتم تقاتلون أنفسكم. لماذا تندبون كالوثنيين الذين لا رجاء لهم بالقيامة؟..”
وبهذا يعود القديس مار يوحنا ليؤكد بكلامه على ان لبس الاسود من اصول وثنية غريبة دخلت الى المسيحية، حتى الاسلام الذي توارثها هو الآخر، يحاول محاربتها.
في القوانين والليتورجيا الكنسية، لا وجود لذكر عنصر السواد نهائيا! حيث تركز الصلوات على مغفرة الراقدين ورجاء القيامة، من جهة، وعلى بعث الامل لذوي الراقدين، من الجهة الأخرى.
في كتاب الليتورجيا الراقدين يتم التأكيد على (المشاركة في التعازي اكثر من الاحتفالات ولكن! افرحوا مع المبتهجين والمحتفلين وابكوا وعزوا الباكيين!). وتسمح القوانين الكنسية، بذكر الراقدين في مناسبة الاربعين والسنة في القداديس التي تجرى في الكنيسة، عدا الأعياد الربانية حيث لا يجوز ذكرهم، اطلاقاً، وهذه القوانين لا تدرج في صفحاتها شيئاً عن (الحزن ولبس الاسود) حيث يتم ذكرهم فقط على مذبح الجسد والدم، الذي هو رمز لقبر يسوع المسيح الفارغ بالاصل! لانه قد قام من بين الاموات!.
يخبرنا سفر التثنية وبكل صراحة من جهة الحزن على الموتى ” انتم اولاد للرب الهكم، لا تخمشوا اجسامكم ولا تجعلوا قرعة بين اعينكم لاجل ميت، لانك شعب مقدس للرب الهك” (تث 14 : 1-2 )، ويشدد كذلك مار بولس في رسالته الى أهالي تسالونيكي على عدم الحزن بقوله “ثم لا اريد ان تجهلوا ايها الاخوة من جهة الراقدين، لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء له، لانه ان كنا نؤمن ان يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع، سيحضرهم الله ايضا معه”، من هنا فان الحزن ولبس السواد ولفترات طويلة قد يغلغل بيننا جيلاً لا يؤمن برجاء القيامة والوعود الإلهية بالحياة الأبدية.
اتباع الرب يسوع، خير من أي واجب والتزام أرضي نقوم به في هذا العالم، فقد طلب مرة تلميذ من يسوع ان يدفن اباه قبل ان يلتحق به فأجابه ” اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم” ( مت 8 : 22) وفي لوقا ” دع الموتى يدفنون موتاهم واما انت فاذهب وناد بملكوت الله ” (لو 9: 60)، في دلالة على سمو الحياة الروحية بالمناداة بملكوت الله على العواطف الإنسانية.
بمبدأ التبعية للاغلبية، انتشرت ظاهرة لبس الاسود في اغلب المجتمعات المتحضرة واصبحت دليل على ان صاحبها في حداد متواصل كونها تدل على حزن صاحبها.
اليوم نرى انها اصبحت تقليد من باب الالتزام فمن يلبس الاسود والحداد:
- ليس بالضرورة تدل عاى ان صاحبها حزين! بل خوفا وخشية من كلام الناس وهذا خارج الايمان تماما حيث نعطي اهمية لكلام الناس فوق ايماننا المستقيم والمبهج.
- ترافق هذه “الاحزان” وجنباً الى جنب في لبس السواد، الصرف والبذخ التي لا تشفع للراقد بشيء!، الصلاة وحدها صاحبة التأثير الكبير على الراقدين. من المؤسف أن نرى عدداً من العوائل المتعففة تتبع الاغلبية في هذا التقليد (تصرف على هكذا مظاهر لكي لا تظهر اقل من الاخرين!) وبالتالي يضعون حرجاً مالياً اكبر عليهم، لمجرد المظاهر التي لا تغني الراقد شيئاً، فلا وجود ومعنى لمقولة (الاكل والشرب على روح الراقد!).
- الانسان بطبيعته الانسانية ميال الى عواطف جياشة نحو الآخرـ وبالاخص نحو الاقارب، كالاب، الام، الاخ، الاخت او صديق حميم…، وبفراق أحد هؤلاء عنا يشهد الفرد فراغاً كبيراً، كان من الممكن ان يملأ لو تحلى الفرد وتعزى من الكتاب المقدس. يمكننا ان نشعر في مثل هذه الحالات بتدخل الله في حياتنا وكيف يعطينا الطمأنينة والراحة الداخلية لان من يفارقنا قد اقتطع من غرس أرضي ليتم غرسه في الحقل السماوي، لهذا وضعت الكنيسة ثلاثة ايام للحزن فقط، وكل طقسها للراقدين ينحصر في هذه الايام، لا غير، و ان لبس الاسود والحزن خارج هذه الايام الثلاثة هو خارج عن المألوف لنا، كأبناء الله.
قد نشهد اعتراضاً على هذا الكلام وقد يطالب البعض بأن تصرح الكنيسة لمؤمنيها، علناً ومن على منابرها بهذه الحقائق، لتبيان هذه العادات الوثنية الدخيلة على المسيحية، وهنا نقول ان دورنا كإكليروس، يحتم علينا التصدي والتنوير في مثل هذه الحالات، ونظراً لتباين ظهور هذه الحالات بين المؤمنين، فمن غير الممكن للمجمع الكنسي رفضها، لانه لم يتم اقرارها سابقاً، ومثل هذا الموضوع، وبين قبوله او الاعتراض عليه، لا نجده في المجامع المقدسة للكنائس الأخرى، أيضاً، وكل ما على الاكليروس فعله اليوم، التعليم والإرشاد على مثل هذه العادات الخارجة عن الايمان القويم، وتكاتف الجهود للتصدي للسلبيات والتركيز على العزاء السماوي على رجاء اللقاء في القيامة، والكرازة بذلك بعلانية وشجاعة.
المصادر:
- الكتاب الليتورجي للراقدين.
- القوانين السنهادوسية لكنيسة المشرق.
- بحث البكالوريوس لنيافة الاسقف د.مار ابرس يوخنا (اسقف اربيل لكنيسة المشرق).
- مار يوحنا فم الذهب / موقع سانت تكلا القبطي الرسمي.
- مقال للأب بول ربان.