أمراض جاليتنا في المهجر

أمراض جاليتنا في المهجر

الاب يوسف جزراوي

في شهر آب من عام 2009 زارني في هولندا أُستاذي الأب الدكتور يوسف توما الدومنيكي رئيس تحرير مجلة “الفكر المسيحي الغرّاء” فطلب مني أن أعد دراسة عن أمراض جاليتنا في المهجر وسبل علاجها.

ومع الأيام حبرت هذا الموضوع في هولندا وأكملته في سيدني، فخرجتُ بهذه الخلاصة التي أرتأيت أن أُسلط عليها الأضواء لعل فيها نراجع الذات ونصحح المسار:

مُعظم أبناء شعبي هنا يعيشون في حالة يُرثى لها من الحسد والمُنافسة غير الشريفة والتشهير والإنتقاص من بعضهم البعض، ولولا صرامة القانون لما توانوا دقيقة واحدة من التقاتل والأشتباك، ونقل حزازياتهم القروية والعشائرية والسياسية إلى بلاد الاغتراب.

ومعظمهم يُردد المثل القائل: الأقارب عقارب، فمن النادر تجد علاقات وطيدة بين عائلة وعائلة أو تجد أخًا مُتفقًا مع أخيه أو مع أبناء عائلته!

والبعض منهم مُنساقًا وراء الدولار، وبيوت الدعارة، وسباق الخيل والقمار، والأقتراض من البنوك، وشرب المخدرات، والأدمان على مكائن القمار، فيربحون مرة ويخسرون عشرات المرات، ومع هذا تجد الواحد منهم مثل الهر الذي يتلذذ بلعق دمه!!

ناهيك عن تفشي البطالة.

لكل قرية مسيحية بات لها جمعية وهذا يثلج صدورنا، ولكن المصيبة تكمن في عدم تكاتف وتضامن كافة الجمعيات، ما دام حُبّ الترؤس وعشق الجلوس على كرسي الرئاسة هما الغاية والطموح!

وصار جمع الدولار هو الشغل الشاغل للكثيرين وبأية طريقة كانت! أما اعلان الافلاس وتغيير الاسماء باتا من العادات الشائعة والمألوفة هنا في سيدني!

ناهيك عن قضاء الوقت في الثرثرة والتشهير والتدخل في خصوصيات الآخرين، أما الأزدواجية، والوجاهيات فباتت من أكثر الأمراض التي تفتك بالجالية العراقية هنا. إذ يوجد ناس لديها 1000 وجه، وهناك من الناس يسير خلف مصالحه دون أن يُفكر بأخيه الإنسان، يمتدحك في الوجه، وفي الظهر يختلق عليك القصص ويقوِّلك ما لم تقله! يتلون حسب المواقف والظروف!

فبدلا من أن يجلسوا في المقاهي والسهر في النوادي الليلية، كم تمنيت أن يملأوا أوقاتهم بمطالعة كتاب أو الإستماع إلى الموسيقى والإنتعاش من حكمة الكتاب المُقدس أو الذهاب إلى الكنيسة للصلاة وتثقيف الذات أو الجلوس في المكتبات للمطالعة والبحث. ولكن من يسمع ومن يفهم!

اما الإستماع إلى الأغاني العراقية والعربية الهادئة ذات اللحن الراقي والكلمات العذبة، فبات من النادر ان تجد لها رواجًا بين ابناء الجالية، فمعظمهم يستمع إلى أغاني غربية صاخبة تهز البدن ولا تطرب الروح!

والبعض يعيش سنوات في البلد وهو يجهل لغة البلد الذي يعيشه فيه، قد حفظ بعض المفردات، يستخدمها مع أقربائه في بلدنا الأم أو مع القادمين حديثًا من مُنطلق أستعراض العضلات، ولما يطلبون منه الترجمة، تجده يتهرب ويتعذر ويتحجج بحجج واهية! علمًا أن الحكومة ترسل الناس إلى دراسة وتعلم اللغة بشكل مجاني!

   يعيش مُعظمهم في واقع مؤسس على المظاهر والقيل والقال والتعصب والإنغلاق على العشيرة واللغة…. لقد وجدتُ مُعظمهم يعيشون وكأنهم في عراق حرّ جديد. ويعانون من أمراض إجتماعية عديدة في المهجر واولها show off. والثرثرة النابعة من الفراغ السلبي والخصامات العائلية والسعي خلف المادة والإنصهار في المجتمع الجديد والضياع خلف سلبياته من القمار وممارسة الجنس قبل الزواج والمخدرات والعزلة في داخل البيت الواحد، ناهيك عن التقليد الأعمى للغرب والشك والإزدواجية، هذان المرضان الذي فشل أطباء هذه البلاد من إستئصالهما من نفوس الناس.

الكثيرون منهم متدينون أكثر من كونهم مؤمنين، أما عن الانفلات الاخلاقي للبعض والإلحاد الذي بات ينتاب فكر الكثير من أبناء الجيل الجديد، فحدث ولا حرج. بعض الشباب ضائعون، حائرون بين الجنس والمخدرات والحرية السائبة والعلاقات الخاطئة النابعة من فراغهم الحياتي والإيماني والثقافي بعيدًا عن الإنجيل والثقافة وتربيتنا الأصيلة…

نأتي الى العوائل التي تشهد تفككًا أُسريًا لا مثيل له، وتستسهل طلب الإنفصال. أما عن الخيانات الزوجية فحدث ولا حرج. علاوة على صراع الحضارات بين الاباء والابناء. صراع بين المفهوم الغربي للابن وللأبنة والحرية اللامحدودة في المهجر وبين عقلية الأب الشرقي وتنشئة الأم الشرقية القائمة على الكبت والحرمان والمراقَبَة. فكل يغني على ليلاه، وليس من تفاهم وإنسجام وليس من قنوات وجسور حوار، بل هناك ابتعاد وبناء جدران واسوار، كلما مرَّ زمان عليها علا ارتفاعها. أما الحوار بين الازواج بات شبه منعدمٍ لان أُسس الزواج وغاياته كانت في الغالب خاطئة. والكثيرون لديهم نظرتهم إلى الكنيسة، نظرة إنتقادية هدامة وليست نقدية بنّاءة، نظرة إستهلاكية. يريدون ويطالبون الكاهن والكنيسة بكل شيء وهم لا يقدمون اي شيء!!

يؤلمني ككاهن أن ارى تعازينا أصبحت في الغالب مجالس للؤلائم ومحافل للثرثرة وشرب القهوة المُرة والسكائر كاي مُلتقى إجتماعي، وكأننا في مقهى لا في تعزية!! لذا كنتُ وما زلتُ أرفض الحضور للكثير من التعازي التي تكون على هذه الشاكلة. والأنكى من ذلك إنَّ الكثيرين يقيمون التعزية لإشباع رغبات نفسية أو من منطلق الوجاهة والمُنافسة الإجتماعية (كيف فلان عمل ….أنا أعمل أفضل منه)! فترى البذخ والإسراف في الأموال والطعام؛ بينما هناك من الناس من يتحسر على رغيف الخبز!

يا ليت أن يُفكر أهل العزاء بالفقراء واليتامى والمرضى عوضًا عن المُبالغة في إقامة التعازي والبذخ في نفقات العزاء. وحبذا لو تسود روح التعزية والصلاة والتضامن في تعازينا بدلاً من سلوك المقاهي والمطاعم!

ومن المؤسف حقا أشد الأسف، أننا لا نزال نشهد في تعازينا (عدادات) لإثارة الحزن والبكاء واللعب بمشاعر الناس، يدفع لهنَّ أموالاً من أجل تهييج مواطن الحزن والألم في داخلنا؛ وكأننا نشتري الحزن والألم والبكاء بالمال!!

ختامًا: عزيزي القارى إذا قالوا عنك في المهجر إنك إنسان مادي، أو خفيف، أو غير طبيعي، أو محتال ومخادع فلا تحزن، أما إذا قالوا إنك إنسان شريف ونزيه ورزين وصادق، ولديك شعبية كبيرة، فاحزن وأبكِ لأنك ستكون قد خسرت مُعظم أقربائك وأصدقائك.

هذه هي أمراض جاليتنا في المهجر باختصار!