تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق
تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق
أدور هرمز ججو النوفلي
أن إيمان كنيسة المشرق بالثالوث هو مثل إيمان الكنائس الأخرى، المستند بخاصة إلى تعاليم مجمع نيقية الأول المسكوني (سنة 325)، إله واحد وثلاثة أقانيم. وهذا ما أقرته مجامع كنيسة المشرق، منذ مجمع مار اسحق (سنة 410)، وهذا ما يردده الجاثليق مار آبا الأول الكبير في منتصف القرن السادس، في إحدى رسائله، حيث يقول :” إن هذا الثالوث موجود من الأزل، وهو الذي خلق جميع المنظورات وغير المنظورات، وهو بغير بدء ولا تغيير ولا انفصال، في ثلاثة اقانيم، الآب والابن والروح القدس”.
لنلق نظرة سريعة على تعاليم كنيسة المشرق، الواردة لدى كتابها ولاهوتييها، لكي نواكب تطور التعليم اللاهوتي فيها، منذ ظهوره حتى بلوغه النضج التام في القرن السابع.
في القرنيين الأولين للميلاد، كان المسيحيون مهتمين بالتعمق في ديانتهم، والاعتصام بمبادئها السامية، والذود عنها بأقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم الشجاعة التي غالباً ما أدت إلى استشهادهم في سبيل إيمانهم. وكانت لغة التعبير عن هذه الديانة، وهي الآرامية في معظم مناطق بين النهرين، تستقطب اهتمامهم. فما أن انتصف القرن الثاني، حتى قطعت هذه اللغة شوطاً كبيراً نحو الاكتمال، فأخذوا ينقلون أليها معظم أسفار العهدين القديم والجديد، ويضعونها في متناول الشعب المسيحي.
وأول من برز في القرن الثاني في هذا المجال هو “ططيانس”، وربما نجد عنده العروض اللاهوتية الأولى. فلقد تلقى علموه الدينية في روما على يد القديس يوستينس في القرن الثاني. ومع كونه متأثراً بالغنوصية المنشرة في زمانه، فقد قدم افكاراً لاهوتية رصينة عن الله عامةً، وعن الكلمة الذي يقول إنه العقل الإلهي، وينبثق من الله وهو بكر أعماله، ومبدأ الكون كله. ونستشف من تعابير ططيانس نوعا من تبعية في علاقة الكلمة بالله. أما نظرته إلى الإنسان، فهي انه يتكون من نفس وروح وجسد. وعلى هذا المرتكز، يقدم ططيانس بعض التعاليم أو التوجيهات المسلكية التي تساعد الإنسان على الالتزام بإيمانه وبالأعمال الصالحة.
وظهر بعده “برديصان” الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني وفي مطلع القرن الثالث، وهو بحق صاحب الشعر السرياني، وقد استنبط الأوزان وضمّن أشعاره أفكاره الدينية وطرائقه الأخلاقية. ولكننا لسنا مطلعين بكفاية على أفكاره اللاهوتية، إذ ضاعت معظم كتاباته، ولم يبق منها سوى كتيب أطلق عليه اسم “كتاب شرائع البلدان”، وفيه حاول المؤلف على طريق الحوار أن يطلعنا على فلسفته التوفيقية. فهو يؤمن بالإله الأوحد، ويعترف بحرية الإنسان، ويميل إلى النهج الثنائي، كما إنه يعترف بأن للأجرام السماوية تأثيراً في طبيعة الأرض والإنسان. إلا أن تفكيره اللاهوتي ما يزال غامضاً وتحتاج إلى المزيد من التوضيح والتنقية.
وفي القرن الرابع برز كتاب ولاهوتيون قاموا بدور كبير في تطوير اللاهوت المشرقي. ونخص بالذكر منهم: مار شمعون بر صباعي، وأفراهاط الحكيم الفارسي ، والقديس أفرام الملفان.
أما الجاثليق “مار شمعون بر صباعي” فقد عاش في النصف الأول من القرن الرابع، وصار جاثليقا لكنيسة المشرق، واستشهد سنة 341 مع عدد من أساقفة ومن الكهنة والعلمانيين، في مطلع الاضطهاد الأربعيني الذي أثاره شابور الثاني على الكنيسة. إن هذا الجاثليق الشهيد، لم يكتب بحوثا لاهوتية منظمة إذ كان منهمكا في إدارة كنيسة المشرق في ذلك الزمان العصيب، ولكن ظهرت افكاره اللاهوتية العميقة خلال القطع الطقسية التي وضعها، والتي ما تزال متداولة في كنيسة المشرق. فيقول ، في إثر القديس بولس، إن المنضمين إلى المسيح، بالعماد قد نزعوا عنهم الإنسان العتيق، ولبسوا المسيح ، ومن ثمة عليهم أن يثبتوا في الحياة الجديدة التي تلقّوها من الله، وأن تصبح لهم مصدراً للقوة والثقة الوطيدة بالله، المستمدة من إيمانهم الراسخ بمحبته.
تقدم الفكر اللاهوتي خطوة كبيرة إلى الأمام في زمن يعقوب افراهاط الملقب بالحكيم الفارسي (+346)، الذي هو أحد أقدم آباء كنيسة المشرق. وقد وصلتنا كتاباته التي تحمل فكره اللاهوتي في مختلف المواضيع. عاش افراهاط في القرن الرابع وتوفي قبيل منتصفه. ويبدوا أنه لم يتعرض للاضطهاد الأربعيني مباشرة. وضع 23 مقالة أو بينة (تحويثا)، تناول فيها مختلف المواضيع الدينية، وعالجها بلغة سريانية أصيلة وبإنشاء صافٍ، يخلو من الألفاظ الدخيلة. وفي هذه البينات يظهر فكره اللاهوتي الذي يستند إلى استشهادات كثيرة من العهدين القديم والجديد . وورد قانون إيمانه في المقالة (البينة )الأولى، وهي في الإيمان. فهو يؤمن بالإله الرب والخالق ومعطي الشريعة، والذي أرسل أخيراً مسيحه إلى العالم. ويؤمن أيضاً بسر المعمودية وبقيامة الموتى، ويتكلم عن الله بحسب تجلياته في الأحداث والأشخاص، ولا سيما بيسوع المسيح. وهو يؤمن بوحدانية الله وبثالوثه بدون أن يستعمل مصطلح “أقنوم”. أما لاهوته الكريستولوجي، فسابق للتعابير الفلسفية التي ستستخدم في مجمعي افسس وخلقيدونية. فليس التجسد في نظره تقمصاً، بل هو حضور مؤنس وملموس لكلمة الله. ويستخدم افراهاط عبارات اقتبسها من رسائل القديس بولس:” ليس جسداً، هو هيكل الله، ومسكن الروح القدس…” ولا يسمي مريم ” أم الله” بل يدعوها الطوباوية والبتول، ويقول:” إن يسوع ولد من مريم، التي هي من نسل داود، ومن الروح القدس”.
أما القديس “أفرام الملفان” (+373) فهو أخصب كاتب ولاهوتي في القرن الرابع، وربما في جميع عصور كنيسة المشرق. لقد ضاعت الكثير من كتاباته، وما بقي منها، هي خير دليل على سعة مداركه وعمق تفكيره اللاهوتي. وبالإضافة إلى تفاسيره الكثيرة للكتب المقدسة، فان لهذا الملفان العظيم مقالات وأبحاثا رائعة، تناول فيها مختلف الموضوعات الدينية ومنها: الله في وحدانيته وثالوثه، الإيمان، التجسد، الخ . . . فمار افرام يعترف بإله واحد وثالوث، ذي طبيعة واحدة وأسم واحد في ثلاثة أقانيم. وينفي تبعية الابن، ويعلن أن الكلمة مساوٍ للآب في اشارة ضد الاريوسية. أما الكريستولوجيا لدى أفرام فما تزال في صيغتها البسيطة البعيدة عن الألفاظ المعقدة والغامضة، كالطبيعة والأقنوم. ويؤكد هذا الملفان وحدة المسيح في ألوهيته وناسوته وفي حقيقة تجسده، وينفي أن يكون أصغر من الآب، بما أنه صورة حقيقية للآب، ومساوٍ له ومولود منه. ويطبق افرام على المسيح ألقاباً عظيمة كثيرة، منا الرب والطبيب والراعي والنبي والحّبر والملك، الخ . ولا أثر في كتاباته لما سيصبح ، بعد قرن، حجر عثرة يفرق المسيحيين ويقسمهم إلى مذاهب شتى متخاصمة. أما المواضيع الدينية الأخرى التي يتناولها افرام في مقالاته وأناشيده، فتعرض لنا لاهوتاً يتقدم في مساره الصحيح، ويلقي الأضواء على الكنيسة والأسرار وعلى مفهوم الإنسان، ويعالج المواضيع معالجة هادئة ورصينة، يستمدها من وحي الله ومن الروح الذي كان ينير حياته كلها وأعماله التعليمية والرسولية.
أما في القرن الخامس، فإن ما يميز تعليم كنيسة المشرق هو استناده إلى التعليم الكريستولوجي لدى الملافنة الانطاكيين، ولا سيما لدى تيودورس المصيصي “المفسر” . وقد رأينا ما آثاره هذا التعليم من الملابسات وما أدى إليه من الاختلافات ثم الخلافات والانشقاقات الأليمة. فكان على أشدّه في مدينة الرها نفسها بين أسقفها ربولا المتحزب لقورلس الاسكندري، وبين أستاذ مدرستها هيبا المتحمس لتعاليم “المفسر” . وما زاد الطين بلة هو انتشار التعليم المنوفيزي في الرها ومدرستها. وما أكثر الجدالات التي دارت بين أنصار الفريقين. وكان يتزعم التيار المعاكس للتقليد الشرقي علماء مرموقون: أمثال يعقوب السروجي وفيلوكسينس المنبجي وسويريوس الانطاكي. وإذا أدت هذه الجدالات إلى التباعد ثم إلى الانشقاق المؤسف، فإنها أسهمت كذلك في تطوّر الفكر اللاهوتي لدى الفريقين، إذ صارت حافزاً حداهم إلى البحث والتقصي والدراسة واستخدام البراهين العقلية والكتابية، في سبيل دعم نقاشاتهم.
وفي سنة 482، حاول الإمبراطور البيزنطي زينون أن يحقق الوحدة المسيحية بين الفرقاء المتخاصمين، من أنصار المجمع الخلقيدوني وخصومه، فاصدر مرسوماً أسماه ” هينوتيكون – مرسوم الاتحاد” فيه يشجب نسطوريوس وأوطيخا، ويُطري ذكرى قورلس الإسكندري، ويقترح أن تعاد وحدة الكنيسة حول قانون إيمان مجمع نيقية الأول. فرحب المنوفيزيون بمبادرة الإمبراطور هذه. أما المشرقيون فرفضوها وردوا عليها في مجمع اقاق (سنة 486)، حيث جاء في القانون الأول: ” يجب أن يكون إيماننا بخصوص تجسد المسيح، في الإقرار بالطبيعتين الإلهية والإنسانية. فلا يتجاسرن أحد منا ويدخل الامتزاج والتبادل والاختلاط بين اختلاف الطبيعتين. وإذا تبقى الإلهية في خواصها والإنسانية في خواصها، نوحّد في جلالة واحدة وسجود واحد اختلافات الطبيعتين، بسبب التناسق الكامل وغير المنفصم بين الألوهة والناسوت. وإذا فكّر أحد وعلّم الآخرين أن الألم أو التغيير ملازم لألوهة ربّنا، ولم يحافظ فيما يتعلق بوحدة الشخص في مخلصنا، على الإقرار بإله واحد كامل وإنسان كامل، فليكن محروماً “. وهذا الامر جعل من مجمع اقاق يرفض مبدأ تبادل الخواص، وسيشكل لاحقاً نقطة خلاف بين مختلف التيارات اللاهوتية في شأن الكريستولوجيا.
وبعد نحو خمسين سنة، إذ كان الجاثليق مار آبا الكبير يقوم بجولة راعوية، في منطقة ما بين النهرين السفلى وفي مقاطعة فارس، تهدف إلى المصالحة، للتذكير بأن المسيح ليس مجرد إنسان أو الهاً مجرداً من ثوب الإنسانية الذي ظهر فيه، بل هو إله وإنسان. ويحرم مار آبا أولئك الذين يدخلون شخصاً رابعاً في الثالوث، وبذلك يردّ على الذين يتهمون المشرقيين بالإيمان بإبنين بذريعة أنهم يفصلون كثيراً الطبيعتين في المسيح.
وفي تلك الغضون، كانت محاولات أخرى تُبذل، في منطقة الروم، في سبيل توحيد المسيحيين. فحاول الإمبراطور يوستنياس أن يفرض صيغة لسرّ التجسد، فقال :” إن واحداً من الثالوث تألم لأجلنا في الجسد”. وإرضاء للمنوفيزيين، الذين كانوا يدّعون إن مجمع خلقيدونية برأ ساحة تيودورس المصيصي وتيودوريطس القورشي وهيبا الرهاوي، حرم يوستنياس عام 544 بعض من كتابات كل من هؤلاء اللاهوتيين الثلاثة (حركة الفصول الثلاثة). وحينما لم يرضى المنوفيزيون بجميع التنازلات التي قام بها الإمبراطور في سبيل تقريبهم من الخلقيدونيين ومن المشرقيين، شنّ عليهم اضطهادا عاتيا كاد أن يستأصلهم من أرض الروم، لو لم تتداركهم الإمبراطورة تيودورة التي استعانت بيعقوب البرادعي في سبيل إعادة تنظيم المذهب المينوفيزي في الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية.
أما المجمع الذي عقده الجاثليق يوسف سنة 554 فيبدو إنه لم يطلع على ما جرى في المجمع القسطنطيني الثاني من التوضيحات في التعليم الخلقيدوني المتعلق بالأقانيم، فاكتفى بإعادة التأكيد على الإيمان بمسيح واحد هو إله كامل، كلمة الله وإنسان كامل من لحم ودم، وله نفس ناطقة شبيهة بنفسنا ومماثلة للبشر ما خلا الخطيئة.
وفي ذلك الزمان، حاول ليونس البيزنطي اللاهوتي أن يحدّد بعض الألفاظ، وأن يميز الأقنوم (هيبوستاز) عن الطبيعة (كيانا). فقال إن الأقنوم هو الطبيعة “المفردة” بالأوصاف الخاصة بها، مثل اللون والزمان والمكان، الخ.. والتي تميزها عن بقية الاقانيم من النوع نفسه. أما الطبيعة، فهي ما هو “مشترك” للجميع، والأقنوم هو الخاص بكل واحد، ويمكن أن تكون الطبيعة كاملة بدون أن تقوم بذاتها، وبدون أن يكون لها أقنومها الخاص بها. ففي التجسد طبيعتان: الأولى طبيعة الله، مسندة باقنومها الطبيعي الذي هو اقنوم الكلمة. أما طبيعة المسيح الإنسانية، مع كونها كاملة، فهي لا تقوم بذاتها، ولكنها ليست بغير اقنوم، بما انها تقوم في اقنوم الكلمة. وإذا اردنا تحديد نوعية الاتحاد الناتج إذ ذاك ، فلا يسعنا أن نسميه اتحاد الطبيعة، بما أن الطبيعتين قائمتان بعد الاتحاد، ولا الاتحاد الشخصي، بما أن كل طبيعة ليس لها اقنوم خاص. فنسميه إذن اتحادا اقنوميا، وثمة تبادل الخواص، وفي وسعنا أن نؤكد إن الكلمة قد تألم وصلب.
وجاء مجمع ايشوعياب الأول سنة 585 رداً على المجمع القسطنطيني الثاني، وعلى تحديده للاقنوم. فمجمع ايشوعياب يعلن هراطقة جميع الذين ينسبون إلى الطبيعة والى اقنوم الالوهة آلام طبيعة المسيح الإنسانية. وفي وسط الأزمنة التي أثارها حنانا الحديابي بطرحه آراء جديدة، يذكر آباء كنيسة المشرق بنظريتهم في الكريستولوجيا الرسمية التي يتمسكون بها، ويقولون :” إن المسيح مولود أزلياً في لاهوته من الآب، من دون أم وهو مولود، هو بعينه ولكن لا بالشكل نفسه، في إنسانيته من أم بدون أب، في الأزمنة الأخيرة. إن المسيح، ابن الله، تألم في جسده. إلا أن المسيح ابن الله كان في طبيعة ألوهيته فوق الآلام. إن الإله الكلمة احتمل هوان الآلام في هيكل جسده، بالاتحاد السامي الذي لا ينفصم ولو أنه لم يتألم في طبيعة ألوهته”.
وعلى عاتق باباي الكبير(+628) كانت تقع المهمة الكبرى في تحديد هذه التعابير وايلائها صيغتها النهائية. إنه شخصية فذّة في كنيسة المشرق. وقام فيها بدور بارز بخصوص الحياة الرهبانية، وفيما يتعلق أيضاً بإدارة الكنيسة في الربع الأول من القرن السابع، إذ منعها كسرى الثاني أبرويز من إقامة جاثليق لها منذ سنة 609. وقد دام هذا المنع حتى مصرع العاهل الفارسي سنة 628. وبالإضافة إلى ذلك قام باباي الكبير بدور رئيس بتطوير الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، حيث اسهم في توضيح اللاهوت المستند من كتابات الآباء القبدوقيين، والى أساتذة مدرسة انطاكيا الثلاثة الشهيرين: ديودورس الطرسوسي، وتيودورس المصيصي، ونسطوريوس. ووضع كتابه ” في الاتحاد” الذي فيه عرض نظرية كنيسة المشرق في الكريستولوجيا وفي المواضع اللاهوتية الأخرى، من وحدانية الله وثالوثه وغيرها. أما تعليمه الكريستولوجي، فيعطينا تماما فكرة كنيسة المشرق عن المواضع التي دارت حولها النقاشات الحامية والجدالات الساخنة في القرن الخامس، والتي تناولناها بإيجاز في الفصول السابقة.
ولكي يوضح باباي طريقة اتحاد الطبيعتين في المسيح، يبدأ بتحديد الألفاظ الثلاثة الأساسية: الشخص، الاقنوم، الطبيعة، فيقول إن الاقنوم هو الطبيعة الإنسانية المفردة، فطبيعة الاقنوم مشتركة بينه وبين جميع الاقانيم المتشابهة ولكنها تتميز عن الاقانيم المتشابهة بالخاصية المفردة التي يمتلكها الشخص. أما الشخص، فهو خاصية الاقنوم التي تميزه عن الآخرين. وقد زودنا الأب لويس ساكو –البطريرك حالياً- (نجم المشرق 8 لسنة 1996، ص 539-543) بنبذة مبسطة عن الكريستولوجيا لدى باباي الكبير، وعن الألفاظ التي دارت حولها النقاشات. فيقول إن الطبيعة (كيانا) تعني الطبيعة المجردة التي تحد العناصر المشتركة بين أفراد النوع الواحد، ويسميها المشرقيون “الطبيعة أو الجوهر العام: اوسيا كوانيتا”. أما الاقنوم (هيبوستاز، قنوما) فهو الجوهر الفردي “اوسيا يحيذيتا” القائم بذاته وغير قابل الانقسام، ويتميز عن الباقي بالخواص التي يمتلكها. وأما الشخص (فرصوفا)، فهو خاصية الاقنوم التي تميزها عن الآخرين، وهو الفاعل واليه تنسب الأعمال. والشخص ثابت لا ينقسم. وفرادته تقوم على صفات خاصة. الشخص هو الخواص “ديلاياثا” التي تفرده وتظهره، وهو ثابت، أما الاقنوم فمتحرك. ويعطينا باباي مثلا ليبين الفرق بين الاقنوم والشخص، إذ يقول :” حينما يقبل رجلان من بعيد، تعلم انهما اقنومان، ولكننا نجهل بعد من هذا ومن ذاك”. وهكذا فان الاقنوم والطبيعة، في نظر باباي، لفظان يغطيان حقائق متقاربة جداً، في حين أن الاقنوم لدى البيزنطيين هو بالأحرى مرادف للشخص. فالخلاف ليس على الجوهر، بل على المعنى الذي يعطى لبعض الألفاظ. فيقول المشرقيون إن المسيح لم يتخذ طبيعة بشرية بنوع عام، بل طبيعة واقعية وفردية، أي ما يسمونه “اقنوما”. والكلام عن اتحاد الكلمة والإنسانية، في اقنوم واحد، يعني الإعلان عن وحدة الطبيعة، وهذا ما ينادي به المنوفيزيون. وإذا سألنا باباي أن يشرح لنا كيفية هذا الاتحاد، فهو يكتفي بالقول إنه إتحاد لا يوصف ولا يُحَدّ. ولكنه يرفض تعبير “الاتحاد الأقنومي” إذ أن الاقنوم، مثل الطبيعة، لا يمكن مشاركته. فيفضل باباي أن يستخدم عبارة “الاتحاد الشخصي”.
وإذا استخدمت كنيسة المشرق، حتى القرن السادس، هذه العبارة، وهي طبيعتان وشخص واحد. فإنها بعد المجمع القسطنطيني الثاني، وتناقضاً مع تعاليم حنانا الحديابي ثم سهدونا، قدمت هذا التوضيح: في المسيح طبيعتان وأقنومان وشخص واحد. ونتج من هذا الموقف نفي تبادل الخواص: ” نقول إن المسيح صلب، وأن المسيح مات وقام، ولكننا لا نقول إن الله صلب ومات”. ومع ذلك يوضح باباي فيقول :” أن المسيح مات في ناسوته وليس في لاهوته ولكن بدون أن يكون بعيداً عنه (أي عن الناسوت). فإنه متحداً معه، تألم كل ما كان مناسباً لطبيعته”.
هكذا ، فالتعليم الذي تبنته كنيسة المشرق منذ القرن الخامس، والذي علمته في مدارسها اللاهوتية الشهيرة، تطور وبلغ نضجه في القرن السابع. وإذا قامت محاولات هنا وهناك تهدف إلى إعادة النظر في التعليم التقليدي، مثل محاولات حنانا وسهدونا وغيرهما، فإنها لقيت معارضة شديدة في كنيسة المشرق وباءت بالفشل. فالمشرقيون عدّوا ذواتهم أنهم وحدهم الأرثوذكس أي ذوو الإيمان القويم، حتى أن مجمع سبريشوع (سنة 596) يقول: “إننا نتلقى هذا الإيمان تماماً كما تلقاه آباؤنا القديسون، وكما عرضه الشهير بين الأرثوذكس الطوباوي تيودورس الانطاكي، أسقف مدينة المصيصة، مفسّر الكتب الإلهية”. وهذا ما سيؤكده في القرن الثالث عشر مبعوث كنيسة المشرق والسلطات المغولية الحاكمة آنذاك، الربان صوما، أمام الدوائر الرومانية، وأمام ملوك البلدان الغربية.
ومرّت قرون طويلة وكنيسة المشرق ما تزال متمسكة بإيمان آبائها وبالحقائق الكبرى التي تشكل بنية الديانة المسيحية. وفي عصورها الذهبية، قدّمت للعالم مجموعة جليلة من العلماء واللاهوتيين، وحملت راية المسيحية إلى بلدان بعيدة في آسيا الشرقية والجنوبية. وستمرّ قرون أخرى عديدة قبل أن تظهر فيها حركة أدّت إلى ضمّ شطر منها إلى الوحدة مع روما، في القرن السادس عشر، وبذلك ازدادت الهوة عمقاً بين الفئتين المتنازعتين من كنيسة المشرق. وكان على المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن يسهم اسهاماً فعالاً في ردم هذه الهوّة، وفي التخفيف من وطأة الخلافات القائمة بين مختلف الفئات من كنيسة المشرق، وبينها وبين الكنيسة الجامعة.
وفي ختام هذه الحقبة من تاريخ كنيسة المشرق، نود أن نستبق الأحداث ونقدم للقراء مقاطع من الإعلان الكريستولوجي المشترك الرائع بين الكنيسة الكاثوليكية الممثلة بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وكنيسة المشرق الآشورية الممثلة بقداسة الجاثليق مار دنخا الرابع :
” نحن نعترف ، كورثة وحماة للإيمان الذي تلقيناه من الرسل كما تمت صياغته من قبل آبائنا المشتركين في القانون النيقاوي، برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي تزل في ملء الزمان من السماء وصار انساناً من أجل خلاصنا، كلمة الله، الشخص الثاني من الثالوث القدوس، تجسد بقدرة الروح القدس باتخاذه جسداً من مريم العذراء، بعثت فيه روح عاقلة، اتحد معها بلا انحلال منذ لحظة تكوينه.”
” لذا، فان ربنا يسوع المسيح هو إله حق وإنسان حق ، تام في ألوهته وتام في ناسوته، متساوْ في الجوهر مع الآب، ومتساوٍ في الجوهر معنا بكل الأشياء، ما عدا الخطيئة. ألوهته وناسوته متحدان بشخص واحد، بدون اختلاط أو تغيير ، بدون انقسام أو انفصال. فيه تم الحفاظ على اختلاف طبيعتي الالوهة والناسوت، بكل خصائصهما وقدراتهما وعملهما..”.
( فالمسيح ليس “إنساناً عادياً ” تبنّاه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هي الحال في الصالحين والأنبياء. لكنه الله الكلمة الذي لا يتغير، المولود من أبيه قبل كل العالم بلا بداية بحسب ألوهته، ولد من أم بلا آب في آخر الزمان بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته مريم كان أبداً ناسوت أبن الله نفسه. ولهذا السبب تتوجه كنيسة المشرق الآشورية بالصلاة إلى مريم العذراء على أنها “والدة المسيح إلهنا ومخلصنا”. في ضوء نفس الإيمان هذا يتوجه التقليد الكاثوليكي إلى مريم العذراء على أنها “والدة الله” وكذلك ” والدة المسح”. إننا نعترف كلانا بشرعية وصحة هذين التعبيرين لنفس الإيمان، ونحترم كلانا تفضيل كل كنيسة لتعبير على الآخر في حياتها الليتورجية وعبادتها..). (الحوار السرياني – برو اورينتي 1 فيينا، حزيران 1994، ص 427 – 430).