كرستولوجيا كنيسة المشرق تقاليد و تراث الشرق المسيحي

كرستولوجيا كنيسة المشرق، تقاليد و تراث الشرق المسيحي

د.افينوجنوف و أ.مورافيف.

موسكو:اسداتلستفو “اندريك” 1996.

ترجمة: ياسمين اسحق

مقدمة:

ان الصياغات الكلاسيكِية لكرستولوجيا كنيسة المشرق نجدها في المقام الأول في خلاصات وافية تعود الى القرون الوسطى، مثال (الجوهرة) لمؤلفه عبد يشوع النصيبيني (1318)م وفيه يبين التعاريف المتضاربة للمجتمعات الكنسية الثلاث: كنيسة الشرق الأدنى، السريان الأرثوذكس ( اليعقوبيين) والتي تؤمن بكيان واحد أو (طبيعة واحدة) و أقنوم واحد في جسد المسيح. الكنيسة الخلقدونية أو (الملكانية) التي تؤمن بكيانين وأقنوم واحد. و كنيسة المشرق (النسطورية) التي علّمت بوجود كيانين وأقنومين. الجميع اتفق في ) proposon) واحد. بما أن أصول هذه الصياغة أو (الصيغة) تعود الى القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، فإن هذه الدراسة (المقالة) ستقتصر على هذه الفترة. وأهمّ مصدر لنا هنا هي مجموعة سينودس الكنيسة الشرقية وقد تم جمعها في عام 800 م وتُعرف اليوم بشكل عام بالسنوديكون الشرقي.

ضمن هذه المصادرالسنودسية لدينا عدد كبير من النصوص العقائدية (المسيحية) ومن بينها، وفيما يخدم موضوعنا، يأتي أولاً نص يعود إلى العام 486 م.

في ضوء ندرة المصادر الاخرى للنصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، فإن كتابات (نرساي) في صيغة مواعظ، تعتبر ذات أهمية خاصّة. وبعض مواعظه ذات طابع لاهوتي جدلي ولذا فهي تحتوي على العديد من الفقرات التي تهتم بالكرستولوجيا.

من الممكن انه في الفترة التي تبعت السلام مع الفُرس نحو نهاية حكم (جاستنيان)، كانت هنالك مناقشات رسمية بين الكنيستين اليونانية والفارسية، وقد تم تدوينها و(حفظها) في مخطوطات سريانية ذات الاتجاه الذي يؤمن بناسوت ولاهوت المسيح معاً.

إلى حد بعيد فإن العرض الأكثر تفصيلاً عن كرستولوجيا كنيسة المشرق خلال هذه الفترة هو(كتاب الاتحاد) لمؤلفه باوَي العظيم 628 م. وقد أقرّت كنيسة المشرق في تعليمها الرسمي بنظريته التي تؤيد وجود أقنومين في المسيح المتجسد.

هنالك عدد من الكتّاب السريان الآخرين خلال القرن السابع الميلادي ممن يجدر ذكرهم مثال الجاثليق إيشوعياب الثاني و إيشوعياب الثالث و كيوركيس. وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى ان المقتطفات الأدبية لنصوص كرستولوجية لما بعد تلك الفترة، قد تُرجمت ونُقّحت من قِبل برامورسكي و جودمان.

 

 

الخلفية التأريخية

 

لقد نمت المسيحية (الناطقة بالسريانية) ومنذ وقت مبكّر، إلى شرق أي خارج الإمبراطورية الرومانية. علماً بأننا لم نبدأ بالحصول على المصادر الجيّدة الى حد مقبول إلّا من القرن الرابع وما بعده، وهي تتعلق بتأريخ الكنيسة إذ نمت في عهد الإمبراطورية الساسانية.

إنّ حقيقة كون كنيسة المشرق تنتمي جغرافياً إلى خارج الإمبراطورية الرومانية كان لها أثر بالغ الأهمية؛ بما أن المجامع الكنسيّة العظمى في الإمبراطورية الرومانية كان يدعو إلى انعقادها الامبراطور رسمياً وكانت تقتصر على حضور الأساقفة من ضمن الإمبراطورية الرومانية، فإنّ مصطلح (مسكوني) في هذا المضمون يجب أن يُفهم بمعنى ” ألذي ينتمي إلى مسكونة روما” و بناءً على ذلك فإنّ هذه المجامع الكنسية لم تكن مصدر اهتمام مباشر من قِبل الكنيسة في امبراطورية فارس..أي كنيسة المشرق. ولكن بمرور الزمن، لم يكن من المستغرب أن تُعرب كنيسة المشرق عن رأيها بشأن المجامع الكنسية الرئيسية التي برزت كمعالم في تأريخ الكنيسة ضمن الإمبراطورية الرومانية.

وبالتالي فإنّ كنيسة المشرق في المجلس الكنسي (السينودس) ألذي انعقد في مدينة ساليق- قطيسفون عام 410 م، قبلت رسميّاً بمجمع نيقية بعد انعقاده بخمسة وثمانين عاماً بالتّمام. وفي مجمع كنسي آخر عُقد سنة 420 م أُعطيَت الموافقة على تشريعات سلسلة من المجامع الكنسية (الغربية) ومنها مجمع نيقية وللمرّة الثانية، مجمع أنقره، مجمع قيصرية الجديدة، مجمع غانغرا، مجمع إنطاكية ومجمع اللاذقيّة. إلاّ أن الإدارة الغير المنظمة لمجمع أفسس، والمعاملة الرثّة التي عومل بها (يوحنا الأنطاكي وأتباعه) كانت كفيلة بعدم تقبّل كنيسة المشرق لهذا المجمع. أمّا بالنسبة الى مجمع خلقيدونية فقد كان أمراً مختلفاً، حيث كان يُنظر إليه على أنه نقلة في الإتجاه الصحيح على الأقل. رغم أن تعريفه المذهبي للإيمان أُعتبر إنه غير كافٍ وغير منطقي.

تعليق الجاثليق إيشوياب الثاني (628م-646م) بهذا الشأن كان نمطياً:

” على الرغم من أن الذين اجتمعوا في مجمع خلقيدونية قد اتّشحوا بنيّة الحفاظ على الإيمان، إلاّ انّهم هم أيضاً زلّوا عن الإيمان القويم وبسبب عباراتهم الواهنة أصبحوا حجر عثرة للكثيرين رغم أنهم وفقا لرأيهم قد حافظوا على الإيمان القويم باعترافهم بالطبيعتين، إلّا انهم بوضعهم لصيغة وحدة الأقنوم (الهيبوستاسيس) فإنّهم، على ما يبدو، أغروا ضعاف العقول. نتج عن هذه المسألة أن حدث تناقض، فبصيغة (وحدة الأقنوم) حرّفوا الاعتراف (بطبيعتين)، بينما باعترافهم (بطبيعتين) دحضوا ( وحدة الأقنوم). وبالتالي وجدوا أنفسهم على مفترق طرق وتذبذبوا ومالوا عن الفكر الأرثوذكسي. لم ينضمّوا حتى الأن الى مجالس المهرطقين، لكن كلاهما هدّما و بنَيا مفتقرَين إلى الآساس اليقين الذي يقفان عليه. فالى اي جانب يمكن ان نصنفهم؟ أنا لست أعلم. لآنّ مصطلحاتهم لا تستند الى شيء كما شهدت الطبيعة والكتاب المقدّس: ” من الممكن تواجد عدّة أقانيم في طبيعة واحدة لكن القضية لم تكن هكذا أبداً، ولم يُسمَع من قبل انّه يجب أن تتواجد أكثر من طبيعة في (أقنوم) واحد.”

سنعود مرة أخرى إلى شكوى الجاثليق إيشوعياب حول لا منطقية استعمال المصطلح (أقنوم) في التعريف الخلقيدوني.

في العقود التي سبقت انعقاد المجمع الخلقيدوني، قام أساقفة من المقاطعات الشرقية للإمبراطورية الرومانية والذين كانوا يخدمون كمبعوثين إمبراطوريين لدى المحكمة الساسانية، بجلب معارف القرن الرابع إلى مجامع الكنيسة التي عقدت في 410 م و 420 م. غير انّه في المجمع الكنسي الذي انعقد عام 424 م نجد أنّ حظراً قد فُرض على مناشدات للأساقفة الغربيين. من الواضح أنّ مناشدات بعض الأساقفة كانت وسيلة لإضعاف سلطة أسقف ساليق- قطيسفون. مما جعل مدرسة الرها (أديسّا) أو المدرسة الفارسية (كما سُمّيت من قِبل العديد من طلبة الإمبراطورية الفارسية الذين كانوا يدرسون هناك) أن تصبح القناة الرئيسية التي من خلالها كانت كنيسة المشرق تعلم بالتطورات اللاهوتية في الإمبراطورية الرومانية.

بما أنّ مدرسة الرها ومنذ بدء المجادلات اللاهوتية قد حبّذت الوقوف وبصرامة مع الرأي القائل بوجود (طبيعتين) في اللاهوت، فإنّه ليس من المُستغرب انّ الكنيسة في فارس مالت إلى رؤية الأمور المطروحة من وجهة نظر إنطاكيّة وإلى التعاطف القليل مع تقليد الاسكندرية في اللاهوت.

من ناحية أخرى فإن مدرسة الرها الفارسية قد قامت بترجمة عدة مؤلفات لـ ( ثيودورس الذي من مصيصة) إلى اللغة السريانية خلال الثلاثينات من القرن الرابع الميلادي. و بفضل هذه الترجمات فقد أصبح ثيودورس من أكثر الآباء اليونان تأثيراً فيما يتعلق باللاهوت والتفسير. حتّى إنّ (باوَي العظيم) ذهب إلى أبعد من ذلك إذ لقّبه ب” التلميذ المثالي للرّسل” و ” ضريح الروح القدس”.

بعد إغلاق مدرسة الرها عام 489 م من قِبل الإمبراطور زينون، تم نقلها فعلياً عبر الحدود إلى نصيبين. وهكذا وخلال القرن السادس ومطلع القرن السابع عندما كانت مدرسة نصيبين في أوجها، تمّ نشر تعليم لاهوتي إنطاكي صارم ضمن الإمبراطورية الساسانية

مكانة الكنيسة ضمن أطياف اللاهوت:    

في أغلب الأحيان، كان يطرح تأريخ العقيدة قديما عن طريق نموذج ثلاثي؛ حيث نرى العقيدة الأرثوذكسية الخلقيدونية محاطة من جهة بمدعي الطبيعة الواحدة (مونوفيزيين) وبمدعي العقيدة النسطورية من جهة أخرى. الا أن كلا من الدراسات الحديثة وحوارات المجالس الكنسية تشير إلى أي مدى يُعتبر هذا النموذج المُبسّط خادعاً ومُضلاًّ. وبناءاً على ذلك فإن تبنّي نموذج بديل بالغ الدّقة للتدرّجات بين قطبي اللاهوت؛ الإنطاكي والاسكندري يعتبر أمراً في غاية الأهمية.

لغرضنا الحالي، سأقترح نموذجاً ذي سبعة أبعاد (أنظر الجدول المرفق)؟ بدءاً من الطرف الإسكندري للتدرّج فإنّ المرتبة الأولى يأتي فيها أوطيخا الذي اقتر إنّ المسيح كان جوهرياً فقط مع (الآب) ولهذا الموقف الهرطوقي يمكننا أن نلتزم مصطلح ( أحادي الطبيعة- مونوفيزي). يتميّز عنه و بوضوح في المرتبة الثانية موقف الكنائس الشرقية الأورثوذكسية اليوم. وهنا من المهم، لإبعاد الغموض ومن ثم التضليل الذي يسببه مصطلح (مونوفيزي أو الطبيعة الواحدة، فأقترح استعمال مصطلح (ميافسايت) عوضاً عنه. في المرتبة الثالثة في التدرّج يأتي الخلقيدونيون الجدد والذين لا يقبلون بمقولة الخلقيدونيين ((بطبيعتين)) والسيرلاين ( بتجسد واحد لطبيعة الله في الكلمة.) ثم ننتقل إلى مرتبة السكوت الخلقيدوني القلق، متمثلاً في الـ (هينوتيكون) منشور زينون ومجموعة الكتابات التي تُنسب إلى ( ديونيسيوس الأريوباغي).

بينما ننتقل من التقليد اللاهوتي الأسكندري إلى الأنطاكي، نجد لدينا مرتبتان متقاربتان بوضوح؛ الأولى الديوفيزيين المتزمّتين ( مدعي الطبيعتين) ضمن الإمبراطورية الرومانية ويمثّلهم أشخاص مثل (ثيودورس)، الرهبان والكنيسة الرومانية. والمرتبة الثانية هي الديوفيزيين خارج الإمبراطورية الرومانية – بعبارة أخرى- موقف كنيسة المشرق. وأخيراً لدينا الموقف الإنطاكي المتطرف الذي يُعلّم بوجود إثنان ( برسوبا) والذي من الممكن أن يكون معتقد (نسطورس).

 

بنموذج كهذا من الممكن أن نرى بسهولة إنّ المعايير اللاهوتية المختلفة تؤدي إلى تشكيل مجموعات مختلفة. فلو أُخذ تعريف مجلس (مجمع) خلقيدونية للإيمان كمعيار للأرثوذوكسية، فإنّ المراتب الثلاث الوسطى هي فقط ستكون مقبولة؛ هذا لو كنا نحكم على أساس إدماج معيارين آخرين للاهوت بمعنى واحد في المسيح، والمسيح كجوهر في الآب وفي الإنسان، لكانت لدينا صورة أكثر شمولية لأن هذا سيسمح لنا بإدراج الأرثوذوكسية الشرقية وكنيسة المشرق.

 

بالنظر من خلال هذا التدرّج الأوسع ستتضح صعوبة القبول بالحكم على التعليم اللاهوتي لأي من الكنيستين، كنيسة المشرق أو الأرثوذوكسية الشرقية بالأخذ فقط بالتعريف الخلقيدوني كمعيار للأرثوذوكسية.

في هذه العلاقة توجد نقطتان مهمتان واجب ذكرهما. الأولى هي أن صيغة معالجة موضوع اللاهوت المستعملة من قبل المجمع الخلقيدوني ليست بالضرورة الوحيدة المقبولة لشرح لغز التّجسد. والنقطة الثانية هي أنّ مصطلحا (طبيعة) و (أقنوم) ممكن فهمهما بعدة معانٍ. وقد باتت مشكلة الإبهام (الغموض) أكثر وضوحاً عندما تمت ترجمة المصطلحين إلى اللغة السريانية.