كرستولوجيا باختصار جداً

كرستولوجيا باختصار جداً

مسعود هرمز النوفلي

مقدمة

إنبثقت هذه الكلمة عبر التاريخ لدراسة طبيعة شخص الرب يسوع المسيح، الشخص الثاني في الثالوث الأقدس، ألابن، كلمة الله المُتجسّد. نستطيع اعتبارها جزء من اللاهوت العقائدي للمسيحية والكنيسة. في هذه المقالة القصيرة سنتناول تعريف الكلمة وكيفية تطوّر مفهوم هذا العلم إستناداً الى الكتاب المقدس وآباء الكنيسة الأوائل باختصار جداً.

تعريف

كرستولوجيا، كلمة متكونة من مقطعين كريستوس و لوجيا باللغة اليونانية. كريستوس تعني المسيح، ولوجيا تعني المنطق أو الدراسة التي تهتم بالمسيح وكل ما يتعلّق بهِ من حيث حياته الشخصية وأحاديثه وتعاليمه[1]. بأعتقادي أن كلمة لوجيا مُتقاربة مع الكلمة الأنكليزية لوجِكْ التي تشير الى المنطق. وبغض النظر عما تعنيه هذه الكلمة من معاني، فانها تبقى علماً لاهوتيا مُهِّماً أو فرعاً رئيسياً منه.

كرستولوجيا في القواميس

1- قاموس المورد، أنكليزي عربي، يُعرِّفها بأنها التعليل اللاهوتي لشخص المسيح وعملهِ.

2- قاموس ويبسترس، أنكليزي أنكليزي، يعطي لنا تعريفاً مُتشابهاً لما يذكره قاموس المورد ويقول بأن الكرستولوجيا هي التأويل أو التعليل اللاهوتي لشخصية وعمل المسيح.

3- قاموس المثلث الرحمات المطران يعقوب أوجين منا، يعطي لنا كلمة كرسطوس والتي يُترجمها بأنها المسيح باليونانية، ولا يوجد ذكر الى كلمة الكرستولوجيا.

4- قاموس نيو وولرد، أنكليزي أنكليزي، يُفسِّر الكلمة بأنها دراسة أعمال وشخصية يسوع المسيح وجميع الادبيات والكتابات التي تعود اليه.

الكرستولوجيا في الكتاب المقدس

عند النظر الى العهد القديم والتأمل فيما كتبه الأنبياء يتضح لنا بأن علم الكرستولوجيا قد بدأ منه، والسبب هو الإشارت الكثيرة للرب يسوع في آياته والتي تُعتبر تهيئة إلهية للخليقة جمعاء بقبول فكرة التجسد. منذ البداية اعتبر بعض اليهود الرب يسوع المسيح وكأنه الله، وبدأوا يعبدونه بطرقهم الخاصة. تدريجياً بدأ الشعب في فلسطين بقبول فكرة الرب الإله للتعريف بيسوع المسيح. لنقرأ ما يقوله لنا العهد القديم بهذا الخصوص:

سفر التكوين يعطينا دليلاً مكتوباً عن آدم عندما قال له الله “فأنت تُراب والى التراب تعود”. من هنا نجد الفرق بين الرب الكلمة الموجود قبل آدم وبين أبناء آدم الذين خُلِقوا من التراب، وفي نفس السفر عندما يتحدث عن أبناء نوح الذين منهم انتشر كل سكان الآرض، لم يكُن الرب أحد الأبناء ضمن السلسلة سوى في فكرة التجسد الإلهية وليس البشرية، وهنا الأختلاف واضح جداً. آيات كثيرة في التكوين 17 و 18 و 22 و 26 و27. أما في سفر العدد فهناك نقطة مهمة أخرى عن الرب وهي في الأصحاح 24 : 17 عندما يقول “يطلعُ كوكبٌ من بني يعقوب ويقوم صولجانٌ من بني إسرائيل”، وفي سفر صموئيل الثاني 7 : 21 ألذي يتحدث عن العرش وثبات المُلك الى الأبد بحيث يكون راسخاً ولا يتزعزع. وفي سفر إرميا 23 : 5 – 6 هناك كلام واضح جداً بالقول “ستأتي أيام يقول الرب، أقيم من نسلِ داود ملكاً صالحاً…..في أيامهِ يُخلّص شعب يهوذا ويسكن بنو إسرائيل في أمانٍ، ويكون إسمهُ “الربُّ صادقٌ معنا”. أليست هذه تنبُؤات للتجسد والعمل القادم؟ بالتأكيد كل ذلك يصّبُّ في الكرستولوجيا وبحرها وليس هذا فقط وإنما هناك إشارات أقوى في إرميا 33 : 14 – 26 عن الغُصن الصالح وكذلك في إشعيا 7 : 14 بما يقوله الله ” …ها هي العذراء تحبلُ وتلد إبناً وتدعو إسمه عمانوئيل”. النبي إرميا يتنبأ بكثرة عن قدوم الرب وخاصة في الأصحاحات 23 و 31 و 33 و 49، عندما يتوسع في الأحاديث عن المُخلّص والمُنقذ. النبي ميخا في 5 : 2 يقول”لكن يا بيت لحمَ أفراتةَ، صَغرى مُدنِ يهوذا، منكِ يخرج لي سيّد على بني إسرائيل، يكون منذ القديم، منذ أيامِ الأزلِ”. هناك الكثير من الايات في العهد القديم غير التي ذكرناها، ومنها على سبيل المثال في أسفار العدد ودانيال والمزامير وغيرها.

العهد الجديد واضحٌ للجميع في إغناء الاصطلاح تفسيراً وشرحاً وافياً منذ ولادة الرب وأعماله وحياته وحتى يوم الجلجلة والقيامة، وقد ذكر الأنجيليون الأربعة جميع التفاصيل عن كل فقرة من تاريخ الرب، بالأضافة الى القديسين مار بولس الرسول ومار بطرس والرسل الآخرين، والجميع يؤكدون بأن يسوع المسيح هو إله كامل وإنسان كامل. بعد القيامة إستمرت البحوث والدراسات التي تتوجّت في إصدار قانون الأيمان وتوضيح إنسانية المسيح الإلهية لخلاص البشر في إعتماد كلمة الله نوراً وطريقاً للعالم. سأنقل من الأنجيل بعض الأمثلة المهمّة لموضوعنا هذا لنرى منها وفيها نتحقق من يسوع الإلهي والأنساني.

القديس متى 3 : 17 يقول “وقال صوتٌ من السماء: هذا هو إبني الحبيب الذي بهِ سُرِرْتُ”.

القديس مرقس في 1 : 1 يعلن ” بشارة يسوع المسيح أبن الله” ويستند الى نبوءة النبي إشعيا في تهيئة طريق الرب. وفي مرقس أيضاً 14 : 21 – 26 يتحدث عن الويل لمن يُسّلم ابن الأنسان وكذلك عن مباركة الخبز والخمر وتناول التلاميذ جسد ودم يسوع.

القديس لوقا في 1 : 35 يذكر جواب الملاك الى أمنا مريم العذراء بالقول “الروح القدس يحِلُّ عليكِ، وقدرة العليِّ تُظلّلُكِ، لذلك فالقدوس الذي يولد منكِ يُدعى ابن اللهِ”. وفي 2 : 28 – 32 يوضح لنا بأن سمعان الذي حمل الرب على ذراعيه في الهيكل قد رأى الخلاص الذي هيّأه الرب للشعوب والنور الذي أهداه للأمم ومجداً لشعب إسرائيل، عندها أطلق كلماته المشهورة وقال “يا رب، تمَّمْت الآن وعدك لي فأطلِق عبدك بسلام”. وفي لوقا أيضاً 9 : 20 أمر مُهِّم جداً ألا وهو شهادة مار بطرس عن يسوع حيث نقرأ “فقال لهم يسوع: ومَنْ أنا، في رأيكم أنتُم؟ فأجابه بطرس: أنت مسيحُ اللهِ”.

القديس يوحنا في مقدّمة أنجيله يقول” في البدءِ كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”. وفي رسالته الأولى 2 : 23 يؤكد ما يلي “من أنكر الأبن لا يكون له الآب، ومن أعترف بالأبن يكون له الآب”.

مار بولس الرسول في رسالته الى فيلبي 2 : 6 – 7 يقول “هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته وأتخذ صورة العبد، صار شبيهاً بالبشر، وظهر في صورة الأنسان”. و في رسالته الأولى الى كنيسة تسالونيكي في 1 : 10 يؤكد عندما يقول “مُنتظرين مجيءَ ابنهِ من السماوات، وهو الذي أقامه الله من بين الأموات، يسوع الذي يُنجينا من غضب الله الآتي”.

القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية 1: 1 – 11 يدعو المؤمنين الى معرفة الله والرب يسوع الذي فتح باب الدخول الى الملكوت الأبدي والتي سماها في رسالته: ملكوت ربنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح.

هناك أسماء وألقاب كثيرة قد أعطيت للرب كما لاحظنا قسماً منها، جميعها تدخل في مفهوم كرستولوجيا المسيح.

لماذا ندرس الكرستولوجيا؟

بعد قيام الرُسل بالتبشير، توسّع نطاق الأيمان في بُلدانٍ كثيرة، وأدى هذا التوسع والأنتشار وبسرعة كبيرة الى إجتهادات علمانية مُختلفة بين المؤمنين الجُدد من جهة وبين الآباء الأوائل من جهة أخرى، كانت الآراء تتمحور حول شخص يسوع المسيح وتعليمه وتوجيهاته للأجيال اللاحقة. أدت بعض الآراء الى الأختلافات في التفاسير اللاهوتية وخاصة العلاقة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في المسيح، مما فرضَ على آبائنا الآوائل قيادة مُناقشات ومُحاورات عديدة في إجتماعات ومجامع خاصة لبحث نقاط الأختلاف. بعضاً من الجدالات في الماضي أدّت الى إفتراق الأخ عن أخيه في كيفية مُمارسة الأيمان، بالرغم من أن الجميع كان لهم الأيمان المُطلق بالرب له المجد وتجسّده وموته وقيامته، وكما كانت الكنيسة أي جماعة المؤمنين تنشط وتتوسع، كان في المقابل الشيطان المخفي الذي يقوم بالضد من انتشار الأيمان والوسْوسَة في قلوب البعض لخلق البلبلة وزرع الشوك والزوان بين الحنطة، وخاصة عند المُناقشات التي تدور حول الله الأبن الذي صار إنساناً لفترة قصيرة ومن ثم عودته الى أبيه بعد القيامة.

توسع علم الكرستولوجيا تدريجياً منذ القرون الأولى للمسيحية حتى ظهور القديس الفيلسوف توما الأكويني في القرن الثالث عشر الذي دافع عن صفات الكمال في المسيح بمناقاشاته في موضوع الكرستولوجيا، ووصل الى ذروته في القرن الماضي خاصة بعد البحوث اللاهوتية المختلفة من رؤى الكنائس المتنوعة الأفكار، ولا زال هذا العلم يبحث فيه الكثير من العلماء وآباء الكنيسة.

.

هل الكرستولوجيا تنازلية أم تصاعدية؟ أم أنها تنازلية وتصاعدية في آنٍ واحد؟

عندما نقرأ الكتاب المُقدّس ونتأمل به، نصل الى القناعة التامة بأن الكرستولوجيا هي تنازلية وتصاعدية في نفس الوقت، أي أن الرب يسوع الذي تجسّد وعاش بين البشر كان منذ البدء، كما يُخبرنا الأنجيلي يوحنا ويؤكِّده العهد القديم. أي أن الكلمة الذي كان في حضن الآب جاء الى العالم، وبما أن الكلمة هو الله أي يسوع المسيح، عندها علينا أن ندرس كيفية وقوع الحدث وفق المُخطط الإلهي، وعلينا أن نفهم بأن صيرورة يسوع بشرا جاء بصورة مدروسة ومُعقّدة ويصعب إدراك تفاصيلها الدقيقة. ليس من السهولة اكتشاف كل ما هو مرتبط في جوهر التدبير، لأن التدبير في الأصل تنازلي بحت من حيث انطلاق الكلمة واختيار الأم العذراء والتجسد والولادة والعيش على الأرض كانسان كامل حتى يوم الجلجلة والصلب والموت والقيامة. كل شيء يبدو لنا تنازلياً بحتاً. ولكن لم ينته علم المسيح في موته وقيامته أبداً، وإنما أستمر بعد القيامة في عملية الصعود التدريجي الى حضن الآب مرة أخرى، كما كان عنده، فانه ذهب اليه مرة أخرى وصعد، من هنا فإنّ الكرستولوجيا أصبحت تصاعدية، وبالتالي فانها تكون تنازلية وتصاعدية في نفس الوقت، ولا يُمكن تجزئتها. تؤكد لنا ذلك موسوعة الويكيبيديا[2] بأن الكرستولوجيا تنازلية وتصاعدية. علينا أن ننظر الى صورة المُخطط من كل جوانبها منذ البداية وحتى النهاية لكي نفهم الوهية وناسوت المسيح.

هناك من بين العلماء من يأخذ المسيح الأنساني وحياته ويعتبر العملية كلّها صعوداً فقط، والأسباب تكمن في قناعاتهم بالحقائق الواقعية والمرئية، فمثلاً بدون أيِّ شك كانت ولادة يسوع في عهد هيرودس الكبير، وأمه مريم العذراء كانت معروفة، وانتقاله الى أماكن معلومة في فلسطين وخدمته مع التلاميذ ومعجزاته مع الشعب وتواجده بين البشر حتى يوم الصلب عندما بكى وقال إلهي إلهي لماذا تركتني، وأضاف وبيدك أسلِّم روحي، وبعدها أسلم الروح. طريقة دفن الميّت الأعتيادية الجارية في ذلك الوقت تم تطبيقها عليه، الأهم من كل ذلك تأتي عندنا القيامة والصعود. هؤلاء العلماء لا يأخذون العهد القديم ودلائله مأخذ الجد ويبدأون بالتركيز على الحياة الأرضية فقط ولهذا يتعبرون الكرستولوجيا تصاعدية بحتة.

أبن الأنسان وأبن الله

الكتاب المقدس يحتوي آياتٍ كثيرة عن أبن الأنسان وأبن الله كما لاحظنا، وقسم منها خرجت من فمِ يسوع نفسه، وهذه الآيات تؤكد لنا الترابط والتلاحم بين شخصية الرب الإلهية والبشرية، هذه الألقاب ليست سوى دلائل قاطعة للدمج بين الأثنين وليس الأنفصال، لأن يسوع كان يعني ما يقوله حتى نفهم نحن الآن وتبقى كلماته خالدة للآخرين الى أبد الآبدين.

يتحدث أحد الأساتذة[3]، عن محاولة الربط وفهم العلاقة بين ابن الله وابن الأنسان، فيتساءل كيف يلتقي ابن الله وابن الأنسان في يسوع؟ الرب يسوع المسيح هو الوحيد والأوحد الذي فيه تحققت الإلوهية والأنسانية، لم يتحقق العمل في شخصٍ آخر، لم يتجسّد غير ابن الله الذي أصبح انساناً كاملاً، وعند النظر الى الترابط الموجود والتعمّق في تفاسيره وتحليله يقودنا التفكير والبحث من أجلِ ايجاد الجواب الشافي والدقيق للسؤال الخاص بالكرستولوجيا وماهية هذه الكلمة وطبيعة الله منذ انعقاد مجمع نيقية سنة 325 للميلاد. كان البعض يؤمن بالثالوث المقدس والآخر لا يُؤمن بنفس الفكرة، فريق يؤمن بالطبيعة الواحدة والآخر على العكس وهكذا حدثت الأختلافات التي أدت الى نشوء أفكار وتصورات جديدة، ولهذا كانت هناك أسئلة كثيرة ومهّمة في حياة الكنيسة حول الكلمة وخاصة عندما بدأت الدراسات الفلسفية واللاهوتية تتعمّق وتتطور والى هذا اليوم هناك إجتماعات وإتصالات كثيرة بين الكنائس المُختلفة من أجل التوصل الى المفهوم العام الذي يقبل به الجميع في الوحدة المسيحية.

الخلاصة:

الينبوع الذي يشرب منه المؤمنون المسيحيّون ينبع من الكرستولوجيا ومفاهيمها، علينا التأمل في كُلِّ آية تخصُّ الرب ودراستها بعمق من أجل الوصول الى النتيجة النهائية التي يتّحد بها الرب مع الآب والروح القدس، يسوع الإلهي والبشري هو المرجع المهم لنا في محبّتهِ للأنسانية وتواضعهِ، منه نكتشف الله أبيهِ، بوضعهِ ألأسس للعلاقات الحميمة بين الله والبشر. لكي نفهم المسيحية ندعو الجميع الى القراءة والتعمق في جميع التفرعات الخاصة بالكرستولوجيا والرب يحفظكم بسلام.

[1] http://dictionary.sensagent.com/christology/en-en/

[2]  http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D8%B1%D8%B3%D8%AA%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7

[3] http://www.studylight.org/dic/hbd/view.cgi?number=T1284

من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

القس هرمز جرجيس

لعل عنوان المقال يحمل مغزى في حياة كل مؤمن، فهو تساؤل يطرح نفسه في مرحلة من المراحل، وهنا نحاول لملمة الخبرة المسيحانية من كم هائل من المعلومات التي سنلخص جوهرها لما يمنحنا معنى يكون هو الجواب الذي نستند اليه في حياتنا الايمانية.

الاراء اجمالا على طرفي نقيض، احدها يقوم باستبعاد الالوهية من شخص يسوع المسيح الكامل (أي الاله الكامل والإنسان الكامل) ويتخذ من إنسانيته رمزا للبشرية ومحررا عادلا للحرية والمساواة بين البشر (كما هي فكرة النبي في العهد القديم)، ويقوم الطرف الاخر على رؤية أن يسوع المسيح شخص ورمز تاريخي دخل الى تاريخ البشرية كسابقيه بمجئ عجائبي وعظمة الهية ويحاول هذا التركيز على لاهوته فقط!

لكن الكنيسة وعبر التاريخ تأملت وتفكرت في تلك الاراء والاتجاهات وقامت بتحليل معتقدات الآباء وعقد رعاتها ومعلميها المجامع لاجل مناقشة شأن الايمان لأجل حفظ النظام وسلامة العقيدة لتتبعه كل الكنائس الرسولية. ولقد سبق واعقب هذه المجامع تحولات في العقائد التي كانت تتبناها كل كنيسة بطريقتها ولتصبح بعضها مذهبا تستند اليه في شرح العلاقة القوية بين الاله والانسان في شخص المسيح. وإن لم تكن الكنائس قد اتفقت في زمن الاختلاف وخاصة في موضوع الكرستولوجي فان دراسة هذا الموضوع أو شخص المسيح أو مسيحانية المسيح اليوم أصبحت تنادي أن تلك الاختلافات في الرؤى هي عامل غنى وأفكار عميقة مليئة بروحية ولاهوت مسيحاني عظيم.

درس آباء الكنيسة وطرحوا افكارهم التي بنوها على معطيات الكتاب المقدس للكشف عن وجه يسوع البشري والتعرف على هويته التاريخية وعن طريقها الوصول الى شخصيته الالهية. وتبين هذا منذ الجماعة المسيحية الاولى التي آمنت بالمسيح يسوع ربا والها يقودها الروح القدس ومختبرة سر المسيح الحقيقي. وكلمة الله في الانجيل المقدس هي الكلمة المتجسد متمم تدبير الخلاص وهذا كشف الهي لذاته فحسب ما يؤكده يوحنا :” وكان الكلمة الله”. وهكذا يسترسل الانجيليون ابتداء مع مريم القديسة ام المسيح الذي ولد منها، ويعطينا حقائق نتعرف من خلالها على يسوع المسيح وشخصه وناسوته فيدعوه ابن الانسان، المعلم السيد الابن الراعي الصالح آدم الثاني بالاضافة الى انه ضياء مجد الله وابن الله والكائن في صورة الله ابن العلي القدوس البار هكذا فان علاقته فريدة بالله الآب.

يرد في انجيل يوحنا ما يلي:” فأمسكوا يسوع. فخرج حاملا صليبه الى المكان الذي يقال له مكان الجمجمة، ويقال له بالعبرية جلجثة. فصلبوه فيه، وصلبوا معه آخرين، كل منهما في جهة، وبينهما يسوع” (يوحنا 19: 17 -18).

الايتان غنيتان بمعنى عميق كون مكان الصلب ” بينهما” أي في المركز هو مكان الشرف. ويوحنا يلفت انتباهنا الى شأن اعظم حينما يقول” يسوع الناصري ملك اليهود” (يوحنا 19: 19). نعم ان يوحنا يرى في يسوع لا فقط ملك اليهود بل ملك البشرية برمتها، فلم تكن الكتابة على اللوح بلغة واحدة بل يقول يوحنا: “وكانت الكتابة بالعبرية واللاتينية واليونانية” (يو 19: 20). وهذه اللغات كانت منتشرة في ذلك الزمان، العبرية لغة الكتاب المقدس “كلمة الله” واللاتينية لغة السلطة الرومانية أما اليونانية فهي لغة الثقافة في ذلك الوقت.

رؤساء الكهنة اعتبروها اهانة لهم، الذي رأى نفسه مهانا في شخص يسوع ( من ملك الى مصلوب)، أحتجوا لكن لاقوا جوابا من بيلاطس:” ما كتب قد كتب”. 19: 22. هذا الكلام هو نبوي وحقيقي واعلان لملوكية المسيح التي تنبأ بها بيلاطس في الاية 15 من الفصل 19: “هو ذا الرجل؟”. وفي تلك تلك الكتابة نقرأ الجواب لسؤال بيلاطس:” أ أنت ملك اليهود؟” يوحنا 18: 33، هذه هي الحقيقة العميقة التي تبين لنا الملوكية المشيحانية للكلمة المتجسد. 

أعلن نثنائيل الذي جاء الى يسوع مع فيلبس وقال:” رابي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل”. (يوحنا 1: 49). فيسوع هو المسيح نفسه الذي بشر به الملاك مريم العذراء:” سيكون عظيما وابن العلي يدعى، ويوليه الرب الاله عرش ابيه داود، ويملك على بيت إسرائيل الى ابد الدهور، ولن يكون لملكه نهاية”. (لوقا 1: 31- 42). وقد يتبين ان هناك تعارض خارق بين كلام الملاك ونهاية حياة الرب؟ الا ان الصليب الظافر هو جزء من الملك، ولكن يعود الى الآب فهو والآب واحد وهكذا كما يؤكد الانجيلي يوحنا:” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية” (يو 3: 16). وبهذه المحبة اكتشفنا قدرة الله اللامتناهية التي بوسعها أن تنتزع الحياة من الموت، ذلك أن ملوكيته هي التي تخلّص.

هذه الكلمات وغيرها في العهد الجديد كانت نبعا لآبائنا في الايمان ومنهم مار نسطوريس ومار نرساي، ففي نظرة القديس مار نرساي الى المسيح، هي نظرة دفاعية ونتجت عنها كرستولوجية دفاعية قوية، ليجيب عن كل من رأى امتزاج وذوبان بشرية المسيح داخل لاهوته. ويؤكد القديس تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح في واحدة من جواهر تآليفه (ترتيلة بريخ حنانا دبطيبوثيه – مبارك الحنّان بنعمته)، هذه الترتيلة تتضمن لاهوت كنيسة المشرق اذا قام القديس بتلخيص فكره اللاهوتي المتوزع في الميامر الرائعة التي ألفها وفي مؤلفاته البقية. ما زلنا نرتلها في كنائسنا في موسم الميلاد رغم انها برأيي تصلح ان ترتل كل يوم على مدار السنة فهي بمثابة قانون إيمان كنيستنا المقدسة.

ويرى القديس مار نرساي تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح. لذا فان بشرية المسيح هي الرابط الجامع بين الخالق والمخلوق، فمن رفض طبيعة المسيح البشرية الانسانية رفض وأزال طريق الخلاص. ثم يرى ثانيا: أن الطبيعة تساوي الاقنوم حينما يتم القصد منها الشخص الفرد. وثالثا: وحدة الطبيعتين. بمعنى الاقامة حسب فكر القديس مار تيودوروس المصيصي. واخيرا: الارادة الواحدة. لا تتضمّن طبيعة المسيح محدودا، بل هو جاء الى المحدود. حلّ في المحدود بإرادته، فافتقد الجميع.

بهذا مار نرساي يحافظ على كمال الطبيعة الالهية والبشرية الانسانية مع التمييز بين الكلمة ويسوع الانسان. مشددا على وحدتهما. إنها وحدة لا يتأثر فيها الكلمة بالبشري، بل ان البشري يشارك مجد اللاهوت ويكشف عنه. إنها وحدة لا يتخلى فيها الكلمة عن شخص يسوع. فالكلمة لا يتركه حتى في ساعة موته بل يلبث معه في حالة القيامة. انه الصورة الحقيقية التي عبرها يعرف البشر والملائكة ويحبون ويعبدون ويسجدون اللاهوت المتسامي.

علمنا من مار نرساي ان الانسان المأخوذ فدى الجنس البشري بموته على الصليب. الموت هنا هو العمل الخلاصي بكل عظمته أي دور الكلمة والانسان في عمل الفداء. من خلال كل الصلوات والتضرعات الطقسية وخاصة في رتبتي القداس الالهي ( الانافورات) لقديسينا العظيمين مار تيودوروس ومار نسطوريس، تبين لنا التعبير عن التجسد بلفظة (لبس) أي لبس من جنسنا كل ما يحتاج اليه من اجل عمل الخلاص في سلسلة من التدابير: 1- كان انسانا. 2- لبس الضعف. 3- خضع للشريعة. 4- استعد للحرب ضد الشيطان، فانتصر عليه وعلى الموت. 5- تمجد، وقام في حياة جديدة. 6- صعد الى السماء الى مقام الله. ويمكن القول ان حياة المسيح عبارة عن ثلاث مراحل؛ الاولى: الحبل والميلاد الى المعمودية. والثانية: البرية، وتصل بنا الى الموت على الصليب. وثالثا: القيامة والصعود والتمجيد.

هكذا يعبر نرساي عن المسيح بوضوح انه المخلص لطبيعتنا البشرية، لبس الكائن الازلي طبيعتنا أي بشريتنا ليحرر بها جنسنا كله. نزل من السماء متجسدا في احشاء مريم ليقيم ادم من سقطته. وانتصر على الموت بموته، وصعد بشريتنا المائتة الى الوقار مع عظمته.

وخلاصة القول اين نحن من السؤال اليوم، انه مطروح امامنا نحن المائتين. فمن هو على الصليب بالنسبة الينا الانسان أم الاله؟ ان استنتاج كل واحد منا حول هذا الموضوع، ينبع من اسس ايماننا ومقدار الخبرات الروحية التي نعيشها في حياتنا وبقدر ما نتأصل في كلمات الرسل والقديسين وعيشها مع المسيح على الصليب.

المصادر:

التراث السرياني، نرساي المعلم، الاب. الفغالي، دار المشرق، بيروت، 1996.

محطات في سر المسيح الها وانسانا، الاب شلحت اليسوعي، دار المشرق، بيروت، 2006

سلسلة ابحاث كتابية 8، لوقا – الاعمال، دونالد يوئيل، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

سلسلة أبحاث كتابية 12، من اجل ايمان جاد، بقلم الكاردنال كارلو مارتيني، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

الانسان في ضوء المسيح، فيكتور شلحت، دار المشرق، بيروت، 1999.

لماذا الزواج؟ لماذا الطلاق؟ الجزء الثاني

لماذا الزواج؟ لماذا الطلاق؟

الجزء الثاني

الخور اسقف اشور لازار

تناولنا في الجزء الاول من هذا الموضوع اهمية الزواج كنظام اجتماعي قائم على رباط روحي طاهر بين المسيحيين، اوجده الله كنظام الهي مبني على المساواة والتفاهم والتكامل بين الرجل والمرأة.

هذه الدعوة للوحدة هي وصية الهية لا تنتهي مع أول مشكلة تظهر بين الزوجين، لانهما تعاهدا امام مذبح الرب في كنيسته المقدسة على اطاعة الله ومحبة الآخر وإكمال احدهما لمتطلبات الطرف الآخر وتحمل بفرح أخطاء الآخر، وعيش حياتهما معا في الضراء قبل السراء. ان سر النجاح في اي علاقة زوجية نابع من مدى خضوع الطرفين لإرادة لله. العائلة المسيحية بعد ان قبلت البركة من الكنيسة في يوم الزواج، اصبحت لا تعيش بقلبين مختلفين بل بقلب واحد عامر بروح الله.

كلمات الوحي الالهي توجه النساء الى الخضوع لأزواجهن، كما للرب، وايضاً توجه الرجال الى محبة نسائهم كما احب المسيح الكنيسة (افسس 5 : 22- 26)، وهذا يشير بوضوح الى ان اي اختلال في هذه العلاقة يؤدي الى ابعاد محبة “الرب” و”الكنيسة” عن العائلة. الهدف السليم من الحياة الزوجية يكمن في رسو سفينة العروسين في ميناء الامان بعيداً عن الامواج المتلاطمة للحياة، بهذا يمكن للزوجين بناء صورة “مصغرة” للكنيسة داخل العائلة، وينشأ الاطفال فيها نشأة مسيحية ويسلكون في العادات الحسنة، ويعكسوا ذلك السلوك خارج الاسرة فيرى الناس “اعمالكم الحسنة ويمجدوا اباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16).

 

إن حضور المسيح في قلب العائلة يجلب لها الامان، ويشعرها بنعمة الوحدة وعدم الانقسام، ويسهل مهمتها في التربية الانجيلية الهادفة التي تتجاوب مع خطة الله للخلاص. فحضور المسيح هو قيام هذه الكنيسة المنزلية وتشكيلها لهوية قائمة على اعلان كلمة الله والاقتداء بيسوع المسيح في العالم مبتدئة من دائرة الاطفال الصغيرة ومنطلقة الى المحيط الخارجي حيث المجتمع. في العلاقة الزوجية ينبغي ان لا يكون مجال لانصراف القلوب نحو نظام العالم الذي يعمل فيه الشيطان، لان صورة مستقبل العائلة لا يكمن فقط في انجاب ابناء وبنات يكونون عوناً للوالدين في المستقبل، ولا في تعليمهم بأحسن المؤسسات التعليمية لضمان افضل مستقبل لهم فحسب، بل لان الكنيسة تنظر اليهم بمنظار روحي آخر، قائم على اقتحام نظام هذا العالم ومرتكزات الشر فيه لإنارة الزوايا المظلمة فيه وتوجيه الخطأة والهالكين نحو دفة الخلاص وصوب نور الحياة نحو المسيح.

ان التخطيط لبناء العائلة السعيدة الناجحة يبدأ قبل الزواج، ويخطئ من يظن ان نجاحها يبدأ بعد الزواج، وبالمقابل يخطا ايضاً من يظن ان التعاسة في الحياة الزوجية مصدرها احداث ما بعد الزواج، او ان المشاكل حدثت نتيجة التعرف وعن كثب على الطرف الآخر وطفت على ساحة العائلة سلبياته. الرحلة الى جانب الله في الحياة تبدأ منذ الصغر، فيتعلم الطفل من والديه الكثير عن نموه الروحي، ومصير اي عائلة ينشئها هذا الطفل مستقبلا يبدأ منذ ان يتسلم والداه مسؤولية “الكنيسة المنزلية” امام الكاهن. وأول تعليم يتلقاه هذا الطفل هو في العائلة، الكنيسة الصغيرة الاولى، ومنها يكتسب كل مفاهيم الحياة استعدادا للكبر ومن ضمنها الزواج.

ان دخول الحياة الزوجية من غير استعداد يجلب الكثير من عدم التفاهم بين طرفيها، والتي تتفاقم لاحقاً الى خلافات حادة قد تصل الى الطلاق. وليس الاستعداد عبارة عن حجز قاعة، وتجهيز منزل، شراء بدلات واستئجار مصور، والى آخر هذه القائمة المادية الطويلة، ثم يكون آخر الاستعدادات هو مخاطبة الكاهن بخصوص اتمام مشروع الزواج. كلا فالزواج مسؤولية كبيرة امام الله وهو فرصة للطرفين لاعادة اكتشاف ايمانهما والتجذر العميق فيه على مثال محبة يسوع للكنيسة، فالله هو الذي امر الانسان بالزواج ودعاه الى التكاثر واخضاع الارض واعطاه سلطانا على جميع حيوانات الارض (تك 1: 28). وفي الوقت ذاته دعا الزوجين الى ابراز ايمانهما والتزامهما بالحياة المسيحية الفضلى. ان رسالة يسوع المسيح الذي حضر عرس قانا باعتباره اول عرس مسيحي حدث في التاريخ، تتجاوز معجزة تحويل الماء الى خمر، لان المعنى الرمزي لهذا الحضور الالهي في العرس البشري، تكمن في اعطاء النعمة لمن يحتاجها، ولتبيان علاقته مع الكنيسة، كعروس ابدي، واثبات حضوره الامين والدائم معها.

“الكنيسة العائلية” شاهدة حية للمسيح في العالم، ويقع على عاتقها وظائف كنسية عدة عليها ان تتممها لبناء ملكوت الله على الارض، فاضافة الى تحصين الاطفال بالتنشئة الروحية الصحيحة، فانه يقع على عاتق الطرفين مسؤولية عدم اغماض العينين عن الوصايا الالهية في الكتاب المقدس.

من الاخطاء المدمرة للعلاقة الزوجية، والتي تمزق الشراكة العائلية، هي مسالة تباين الاذواق ومحاولة احد الطرفين الغاء الآخر. دكتاتورية احد الطرفين في البيت ومحاولته استعباد والتضييق على الآخر، وهي فكرة وثنية تماما لا وجود لها في الكتاب المقدس. لذا لابد ان ينبع احترام الزوجة لزوجها من احترام الرجل لزوجته وبالعكس، وهذا هو الطريق نحو توثيق رباط الزواج، والقضاء على المشاكل، في ظل الظروف والتحديات التي تواجه العائلة، بحلوها ومرها. إن المحبة المتبادلة في العائلة مهمة كالطعام والشراب لانجاح مسارات المستقبل، ولن تكون هناك محبة، مالم تتجسد بأفعال تفوح منها رائحة الكتاب المقدس. لقد وصف الرسول بولس في رسالته الى رومية بكل وضوح المحبة قائلا:” لتكن المحبة بلا رياء، كونوا كارهين للشر ملتصقين بالخير، واحبوا بعضكم بعضا كاخوة، مقدمين بعضكم بعضا في الكرامة، غير متكاسلين في الاجتهاد، متقدين في الروح، عابدين الرب” ( رو 12: 9- 11)، وهذه الوصايا وغيرها يمكن تطبيقها في العائلة الواحدة.

ويمكن أن يلعب الرجل دورا في هذا او المرأة على حد سواء، يرسم لنا سفر الامثال صورة للمرأة الفاضلة: “امرأة فاضلة من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ. بها يثق قلب زوجها، فلا يحتاج إلى غنيمة. تصنع له خيرًا لا شرًا كل أيام حياته” (ام 31: 10 – 12 ).

كرستولوجيا كنيسة المشرق تقاليد و تراث الشرق المسيحي

كرستولوجيا كنيسة المشرق، تقاليد و تراث الشرق المسيحي

د.افينوجنوف و أ.مورافيف.

موسكو:اسداتلستفو “اندريك” 1996.

ترجمة: ياسمين اسحق

مقدمة:

ان الصياغات الكلاسيكِية لكرستولوجيا كنيسة المشرق نجدها في المقام الأول في خلاصات وافية تعود الى القرون الوسطى، مثال (الجوهرة) لمؤلفه عبد يشوع النصيبيني (1318)م وفيه يبين التعاريف المتضاربة للمجتمعات الكنسية الثلاث: كنيسة الشرق الأدنى، السريان الأرثوذكس ( اليعقوبيين) والتي تؤمن بكيان واحد أو (طبيعة واحدة) و أقنوم واحد في جسد المسيح. الكنيسة الخلقدونية أو (الملكانية) التي تؤمن بكيانين وأقنوم واحد. و كنيسة المشرق (النسطورية) التي علّمت بوجود كيانين وأقنومين. الجميع اتفق في ) proposon) واحد. بما أن أصول هذه الصياغة أو (الصيغة) تعود الى القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، فإن هذه الدراسة (المقالة) ستقتصر على هذه الفترة. وأهمّ مصدر لنا هنا هي مجموعة سينودس الكنيسة الشرقية وقد تم جمعها في عام 800 م وتُعرف اليوم بشكل عام بالسنوديكون الشرقي.

ضمن هذه المصادرالسنودسية لدينا عدد كبير من النصوص العقائدية (المسيحية) ومن بينها، وفيما يخدم موضوعنا، يأتي أولاً نص يعود إلى العام 486 م.

في ضوء ندرة المصادر الاخرى للنصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، فإن كتابات (نرساي) في صيغة مواعظ، تعتبر ذات أهمية خاصّة. وبعض مواعظه ذات طابع لاهوتي جدلي ولذا فهي تحتوي على العديد من الفقرات التي تهتم بالكرستولوجيا.

من الممكن انه في الفترة التي تبعت السلام مع الفُرس نحو نهاية حكم (جاستنيان)، كانت هنالك مناقشات رسمية بين الكنيستين اليونانية والفارسية، وقد تم تدوينها و(حفظها) في مخطوطات سريانية ذات الاتجاه الذي يؤمن بناسوت ولاهوت المسيح معاً.

إلى حد بعيد فإن العرض الأكثر تفصيلاً عن كرستولوجيا كنيسة المشرق خلال هذه الفترة هو(كتاب الاتحاد) لمؤلفه باوَي العظيم 628 م. وقد أقرّت كنيسة المشرق في تعليمها الرسمي بنظريته التي تؤيد وجود أقنومين في المسيح المتجسد.

هنالك عدد من الكتّاب السريان الآخرين خلال القرن السابع الميلادي ممن يجدر ذكرهم مثال الجاثليق إيشوعياب الثاني و إيشوعياب الثالث و كيوركيس. وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى ان المقتطفات الأدبية لنصوص كرستولوجية لما بعد تلك الفترة، قد تُرجمت ونُقّحت من قِبل برامورسكي و جودمان.

 

 

الخلفية التأريخية

 

لقد نمت المسيحية (الناطقة بالسريانية) ومنذ وقت مبكّر، إلى شرق أي خارج الإمبراطورية الرومانية. علماً بأننا لم نبدأ بالحصول على المصادر الجيّدة الى حد مقبول إلّا من القرن الرابع وما بعده، وهي تتعلق بتأريخ الكنيسة إذ نمت في عهد الإمبراطورية الساسانية.

إنّ حقيقة كون كنيسة المشرق تنتمي جغرافياً إلى خارج الإمبراطورية الرومانية كان لها أثر بالغ الأهمية؛ بما أن المجامع الكنسيّة العظمى في الإمبراطورية الرومانية كان يدعو إلى انعقادها الامبراطور رسمياً وكانت تقتصر على حضور الأساقفة من ضمن الإمبراطورية الرومانية، فإنّ مصطلح (مسكوني) في هذا المضمون يجب أن يُفهم بمعنى ” ألذي ينتمي إلى مسكونة روما” و بناءً على ذلك فإنّ هذه المجامع الكنسية لم تكن مصدر اهتمام مباشر من قِبل الكنيسة في امبراطورية فارس..أي كنيسة المشرق. ولكن بمرور الزمن، لم يكن من المستغرب أن تُعرب كنيسة المشرق عن رأيها بشأن المجامع الكنسية الرئيسية التي برزت كمعالم في تأريخ الكنيسة ضمن الإمبراطورية الرومانية.

وبالتالي فإنّ كنيسة المشرق في المجلس الكنسي (السينودس) ألذي انعقد في مدينة ساليق- قطيسفون عام 410 م، قبلت رسميّاً بمجمع نيقية بعد انعقاده بخمسة وثمانين عاماً بالتّمام. وفي مجمع كنسي آخر عُقد سنة 420 م أُعطيَت الموافقة على تشريعات سلسلة من المجامع الكنسية (الغربية) ومنها مجمع نيقية وللمرّة الثانية، مجمع أنقره، مجمع قيصرية الجديدة، مجمع غانغرا، مجمع إنطاكية ومجمع اللاذقيّة. إلاّ أن الإدارة الغير المنظمة لمجمع أفسس، والمعاملة الرثّة التي عومل بها (يوحنا الأنطاكي وأتباعه) كانت كفيلة بعدم تقبّل كنيسة المشرق لهذا المجمع. أمّا بالنسبة الى مجمع خلقيدونية فقد كان أمراً مختلفاً، حيث كان يُنظر إليه على أنه نقلة في الإتجاه الصحيح على الأقل. رغم أن تعريفه المذهبي للإيمان أُعتبر إنه غير كافٍ وغير منطقي.

تعليق الجاثليق إيشوياب الثاني (628م-646م) بهذا الشأن كان نمطياً:

” على الرغم من أن الذين اجتمعوا في مجمع خلقيدونية قد اتّشحوا بنيّة الحفاظ على الإيمان، إلاّ انّهم هم أيضاً زلّوا عن الإيمان القويم وبسبب عباراتهم الواهنة أصبحوا حجر عثرة للكثيرين رغم أنهم وفقا لرأيهم قد حافظوا على الإيمان القويم باعترافهم بالطبيعتين، إلّا انهم بوضعهم لصيغة وحدة الأقنوم (الهيبوستاسيس) فإنّهم، على ما يبدو، أغروا ضعاف العقول. نتج عن هذه المسألة أن حدث تناقض، فبصيغة (وحدة الأقنوم) حرّفوا الاعتراف (بطبيعتين)، بينما باعترافهم (بطبيعتين) دحضوا ( وحدة الأقنوم). وبالتالي وجدوا أنفسهم على مفترق طرق وتذبذبوا ومالوا عن الفكر الأرثوذكسي. لم ينضمّوا حتى الأن الى مجالس المهرطقين، لكن كلاهما هدّما و بنَيا مفتقرَين إلى الآساس اليقين الذي يقفان عليه. فالى اي جانب يمكن ان نصنفهم؟ أنا لست أعلم. لآنّ مصطلحاتهم لا تستند الى شيء كما شهدت الطبيعة والكتاب المقدّس: ” من الممكن تواجد عدّة أقانيم في طبيعة واحدة لكن القضية لم تكن هكذا أبداً، ولم يُسمَع من قبل انّه يجب أن تتواجد أكثر من طبيعة في (أقنوم) واحد.”

سنعود مرة أخرى إلى شكوى الجاثليق إيشوعياب حول لا منطقية استعمال المصطلح (أقنوم) في التعريف الخلقيدوني.

في العقود التي سبقت انعقاد المجمع الخلقيدوني، قام أساقفة من المقاطعات الشرقية للإمبراطورية الرومانية والذين كانوا يخدمون كمبعوثين إمبراطوريين لدى المحكمة الساسانية، بجلب معارف القرن الرابع إلى مجامع الكنيسة التي عقدت في 410 م و 420 م. غير انّه في المجمع الكنسي الذي انعقد عام 424 م نجد أنّ حظراً قد فُرض على مناشدات للأساقفة الغربيين. من الواضح أنّ مناشدات بعض الأساقفة كانت وسيلة لإضعاف سلطة أسقف ساليق- قطيسفون. مما جعل مدرسة الرها (أديسّا) أو المدرسة الفارسية (كما سُمّيت من قِبل العديد من طلبة الإمبراطورية الفارسية الذين كانوا يدرسون هناك) أن تصبح القناة الرئيسية التي من خلالها كانت كنيسة المشرق تعلم بالتطورات اللاهوتية في الإمبراطورية الرومانية.

بما أنّ مدرسة الرها ومنذ بدء المجادلات اللاهوتية قد حبّذت الوقوف وبصرامة مع الرأي القائل بوجود (طبيعتين) في اللاهوت، فإنّه ليس من المُستغرب انّ الكنيسة في فارس مالت إلى رؤية الأمور المطروحة من وجهة نظر إنطاكيّة وإلى التعاطف القليل مع تقليد الاسكندرية في اللاهوت.

من ناحية أخرى فإن مدرسة الرها الفارسية قد قامت بترجمة عدة مؤلفات لـ ( ثيودورس الذي من مصيصة) إلى اللغة السريانية خلال الثلاثينات من القرن الرابع الميلادي. و بفضل هذه الترجمات فقد أصبح ثيودورس من أكثر الآباء اليونان تأثيراً فيما يتعلق باللاهوت والتفسير. حتّى إنّ (باوَي العظيم) ذهب إلى أبعد من ذلك إذ لقّبه ب” التلميذ المثالي للرّسل” و ” ضريح الروح القدس”.

بعد إغلاق مدرسة الرها عام 489 م من قِبل الإمبراطور زينون، تم نقلها فعلياً عبر الحدود إلى نصيبين. وهكذا وخلال القرن السادس ومطلع القرن السابع عندما كانت مدرسة نصيبين في أوجها، تمّ نشر تعليم لاهوتي إنطاكي صارم ضمن الإمبراطورية الساسانية

مكانة الكنيسة ضمن أطياف اللاهوت:    

في أغلب الأحيان، كان يطرح تأريخ العقيدة قديما عن طريق نموذج ثلاثي؛ حيث نرى العقيدة الأرثوذكسية الخلقيدونية محاطة من جهة بمدعي الطبيعة الواحدة (مونوفيزيين) وبمدعي العقيدة النسطورية من جهة أخرى. الا أن كلا من الدراسات الحديثة وحوارات المجالس الكنسية تشير إلى أي مدى يُعتبر هذا النموذج المُبسّط خادعاً ومُضلاًّ. وبناءاً على ذلك فإن تبنّي نموذج بديل بالغ الدّقة للتدرّجات بين قطبي اللاهوت؛ الإنطاكي والاسكندري يعتبر أمراً في غاية الأهمية.

لغرضنا الحالي، سأقترح نموذجاً ذي سبعة أبعاد (أنظر الجدول المرفق)؟ بدءاً من الطرف الإسكندري للتدرّج فإنّ المرتبة الأولى يأتي فيها أوطيخا الذي اقتر إنّ المسيح كان جوهرياً فقط مع (الآب) ولهذا الموقف الهرطوقي يمكننا أن نلتزم مصطلح ( أحادي الطبيعة- مونوفيزي). يتميّز عنه و بوضوح في المرتبة الثانية موقف الكنائس الشرقية الأورثوذكسية اليوم. وهنا من المهم، لإبعاد الغموض ومن ثم التضليل الذي يسببه مصطلح (مونوفيزي أو الطبيعة الواحدة، فأقترح استعمال مصطلح (ميافسايت) عوضاً عنه. في المرتبة الثالثة في التدرّج يأتي الخلقيدونيون الجدد والذين لا يقبلون بمقولة الخلقيدونيين ((بطبيعتين)) والسيرلاين ( بتجسد واحد لطبيعة الله في الكلمة.) ثم ننتقل إلى مرتبة السكوت الخلقيدوني القلق، متمثلاً في الـ (هينوتيكون) منشور زينون ومجموعة الكتابات التي تُنسب إلى ( ديونيسيوس الأريوباغي).

بينما ننتقل من التقليد اللاهوتي الأسكندري إلى الأنطاكي، نجد لدينا مرتبتان متقاربتان بوضوح؛ الأولى الديوفيزيين المتزمّتين ( مدعي الطبيعتين) ضمن الإمبراطورية الرومانية ويمثّلهم أشخاص مثل (ثيودورس)، الرهبان والكنيسة الرومانية. والمرتبة الثانية هي الديوفيزيين خارج الإمبراطورية الرومانية – بعبارة أخرى- موقف كنيسة المشرق. وأخيراً لدينا الموقف الإنطاكي المتطرف الذي يُعلّم بوجود إثنان ( برسوبا) والذي من الممكن أن يكون معتقد (نسطورس).

 

بنموذج كهذا من الممكن أن نرى بسهولة إنّ المعايير اللاهوتية المختلفة تؤدي إلى تشكيل مجموعات مختلفة. فلو أُخذ تعريف مجلس (مجمع) خلقيدونية للإيمان كمعيار للأرثوذوكسية، فإنّ المراتب الثلاث الوسطى هي فقط ستكون مقبولة؛ هذا لو كنا نحكم على أساس إدماج معيارين آخرين للاهوت بمعنى واحد في المسيح، والمسيح كجوهر في الآب وفي الإنسان، لكانت لدينا صورة أكثر شمولية لأن هذا سيسمح لنا بإدراج الأرثوذوكسية الشرقية وكنيسة المشرق.

 

بالنظر من خلال هذا التدرّج الأوسع ستتضح صعوبة القبول بالحكم على التعليم اللاهوتي لأي من الكنيستين، كنيسة المشرق أو الأرثوذوكسية الشرقية بالأخذ فقط بالتعريف الخلقيدوني كمعيار للأرثوذوكسية.

في هذه العلاقة توجد نقطتان مهمتان واجب ذكرهما. الأولى هي أن صيغة معالجة موضوع اللاهوت المستعملة من قبل المجمع الخلقيدوني ليست بالضرورة الوحيدة المقبولة لشرح لغز التّجسد. والنقطة الثانية هي أنّ مصطلحا (طبيعة) و (أقنوم) ممكن فهمهما بعدة معانٍ. وقد باتت مشكلة الإبهام (الغموض) أكثر وضوحاً عندما تمت ترجمة المصطلحين إلى اللغة السريانية.

كنيسة المشرق الاشورية ومار نسطورس

كنيسة المشرق الاشورية ومار نسطورس

غبطة المطران مار ميلس زيا

أنتجت الحروب الدائرة بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، مناخاً سياسياً ادى الى عزل كنيسة المشرق عن الغرب. فلم يتسنى لكنيسة المشرق أن تحضر أو يمثلها أحد في المجامع الكنسية الأولى ولا حتى المساهمة أو مناقشة مقررات أي مجمع ومن ضمنها مجمع افسس 431 م.

وبالنظر للظروف الاستثنائية التي عاشتها الكنيسة آنذاك فقد استقلت في كل شؤونها، حتى تبنت لاهوتاً تم اعتباره مختلفا عن الكنائس الأخرى. ومع ذلك فقد قبلت صيغة ايمان مجمع نيقية 325 م وإن كان ذلك في فترة متأخرة في مجمع مار اسحق عام 410 م، وكان هذا دليلا على أن استقلالية لاهوتها لا يعني الابتعاد عن جسم الكنيسة جمعاء. لكن تدخلات ذات اهداف غير كنسية استغلت تشكيل صيغ العقائد وكذلك صيغ ايمان كنائس اخرى في المنطقة بعيدا عن حدود الامبراطورية الرومانية، قادت الى عقد مجمع أفسس 431 م واقرت ادانة مار نسطورس بسبب عقيدته لكن ذلك لم يؤثر على الكنيسة نفسها لأن مار نسطورس لم يكن يوما بطريركا لها.

إن كنيسة المشرق أعترفت بقوانين مجمعي نيقية 325 م والقسطنطينية 381 م. وكذلك قبلت اعلان مجمع خلقيدونية 451 م بخصوص الطبيعتين في المسيح، لكنها تريثت في قبول مفهوم الاتحاد بين الاقنومين، حيث نادى مجمع خلقيدونية باقنوم واحد في المسيح. فيما كان الموروث الايماني والعقائدي لكنيسة المشرق يقوم على الايمان بطبيعتين واقنومين في شخص يسوع المسيح.

واحتفاظ كنيسة المشرق كذلك بلقب “والدة المسيح” في وصفها للقديسة مريم العذراء، بسبب اعتقادها أن لقب المسيح يشمل كلا من “الاله التام” و”الانسان التام”، وانحراف تفسير معنى كلمة اقنوم بالسريانية الى مفهوم بعيد كليا عن ايمانها حيث ترجم خطأ الى كلمة “شخص”، فقد أطلق فيلوكسينوس المنبجي Philoxenos of Mabbug في مطلع القرن السادس، اسم النساطرة على اتباع كنيسة المشرق.[1]

تبنت كنيسة المشرق لاحقاً، مفاهيم المسيحانية الانطاكية، ضد المفاهيم التي طرحها اوطيخا.[2] إن ربط كنيسة المشرق بنسطورس بطريرك القسطنطينية، كان غير مبرر. لأن الكنيسة شددت على ان معيار ايمانها العقائدي واللاهوتي والكرستولوجي هو ما اعلنته في وثيقة ايمانها وما تعبر عنه في صلواتها الطقسية وما تتضمنه من عقائد. وليس من المنطق ان تتهم الكنيسة بالهرطقة بناء على ما نسبه خصوم مار نسطورس له من منطلقات وعقائد يصعب التأكد من صحة نسبتها اليه بسبب ما تعرضت له كتاباته من اتلاف وكثرة الشكوك في صحة النزر اليسير الذي وصلنا منها.

إن اطلاق اتهامات بهرطقة كنيسة المشرق جاء نتيجة الالتباس وسوء الفهم الحاصل في ترجمة المفردات ومفاهيمها وهو ما حصل على سبيل المثال في مفردة (قنوما)، وفي هذا الصدد يقول الدكتور سيباستيان بروك، من الضروري ان نترك كلمة qnoma مكتوبة كما هي بلغتها لتجنب أي سوء فهم.[3]

ولا شك اننا نفهم ان العقيدة الارثذوكسية المنادية بطبيعة واحدة واقنوم واحد في المسيح، من دون ان نحور في المعنى بكل الاحوال والقول انها تعني الغاء ناسوته. وهكذا كان ينبغي على الاطراف ان تتفهم تعابير وصيغ ايمان الكنائس الاخرى مثل كنيسة المشرق على سبيل المثال، من دون تقويل وتفسير ايمان الكنيسة التي تؤمن بطبيعتين واقنومين في المسيح، أنها تأكيد لوجود شخصين في المسيح.

كذا الحال مع تعبير “والدة الله” الذي يأخذه البعض على ان الكنيسة لا تؤمن بالوهية المسيح، لكن استخدام تعبير “والدة المسيح” يعبر ضمنا أن والدة المسيح ربنا، هي والدة “الاله التام” ووالدة  “الانسان التام” في الوقت ذاته.

وهذا ما يرد في ليتورجية الكنيسة ففي صلاة ختام القداس تنشد الكنيسة: (ܡܫܝܚܐ ܐܠܗܢ ܘܡܠܟܢ ܘܦܪܘܩܢ ܘܡܚܝܢܢ ܘܫܒܘܩܐ ܕܚܛܗ̈ܝܢ) وترجمتها (المسيح الهنا وملكنا ومخلصنا ومحيينا وغافر خطايانا)، اضافة الى العديد من الصلوات ومنها نخص بالذكر ترديد قانون ايماننا النيقاوي الذي يقر بالوهية المسيح وانسانيته.

ونخلص الى القول أن الظروف التي مرت بالكنيسة عبر الاجيال حتمت عليها التأثر بالبيئة الثقافية تحت سيطرة العديد من السلطات وتعاقبها وممارسة ابشع انواع الاضطهاد في العادة منذ العهود الساسانية حتى العصور العثمانية في القرن الماضي. نتيجة الضغوط القاسية التي عاشتها الكنيسة كان عليها التمعن بفطنة وحنكة على اطلاق التعابير والتفاسير عبر العصور المختلفة وسط شراسة اتباع افكار ومعتقدات مغايرة. ولم يكن من السهل ان يتقبل وسط مختلف عقائديا ودينيا يشكل الغالبية تعبيرا مثل ” والدة الاله” وكان يعده في الغالب كفرا.

ان اعتقاد كنيسة المشرق بخصوص طبيعة المسيح، يقول بشخص واحد، ذو اقنومين وطبيعتين. ولعل تفسير هذه الصيغة على انها شخص واحد وطبيعتان ملموستان، وطبيعتان مجردتان، هي ارثذوكسية تماماً اذا ما حاولنا ان نفهم تماما كيفية اتحاد الذات الالهية مع الناسوت[4].

[1]  A Ssemani (note3),P. LXXVII. راجع ايضا: ادلبرت ديفز، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 247.

Philoxenus of Mabbug (died 523) was one of the most notable Syriac prose writers and a vehement champion of Miaphysitism.

[2]  ادلبرت ديفز، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 259.

[3]  سيباستيان بروك، دراسات في المسيحانية السريانية في Variorum XIII 131. الحوار السرياني.

[4] مار افرام موكن، هل لاهوت الكنيسة الاشورية نسطوري؟ الحوار السرياني 275

تذكار القديسة مريم العذراء

تذكار القديسة مريم العذراء

غبطة المطران مار كيوركيس صليوا

 تحتفل الكنيسة في هذا اليوم الخامس عشر من آب في كل سنة باقامة القداس لمناسبة تذكار مريم العذراء، أم مخلصنا يسوع المسيح. حيث لهذه المناسبة ميزة خاصة في قلوب وايمان المؤمنين من ابناء الكنيسة، تقديراً لهذه العذراء التي بها تحقق ما قاله الرب بلسان النبي القائل: ” ها ان العذراء تحبل، وتلد ابناً، ويدعى عمانوئيل ” أي “الله معنا”.

ارسل الله الملاك جبرائيل إلى بلدة الناصرة في الجليل…. فدخل الملاك إلى مريم وقال لها: ” السلام عليك، يا من أنعم الله عليها. الرب معك”.

فأضطربت مريم لكلام الملاك وقالت في نفسها: ” ما معنى هذه التحية ؟”

فقال لها الملاك: ” لا تخافي يا مريم، نلت حظوةً عند الله: فستحبلينَ وتلدينَ أبناً تُسَميَهُ يسوع. فيكون عظيماً وأبن الله العَلي يُدعى …. “

فقالت مريم للملاك: ” كيف يكون هذا وانا عذراء لا اعرف رجلاً ؟”

فأجابها الملاك: ” الروح القدس يحل عليكِ، وقدرة العلي تظللكِ، لذلك فالقدوس الذي يولدُ منك يُدعى أبن الله. ها قريبتك اليصابات حُبلى بأبن في شيخوختها، وهذا هو شهرها السادس، وهي التي دعاها الناس عاقراً. فما من شئٍ غير ممكن عند الله”.  فقالت مريم :

 ” أنا خادمة الرب: فليكن كما تقول”. ومضى من عندها الملاك. وفي حينه حَبلت من الروح القدس وولدت يسوع المخلص.

هذا هو خلاصة لما وَرَدَ في انجيل لوقا لهذا اليوم. وبهذا الخصوص، أي “أبن الله” سأل الخليفة المهدي الجثاليق مار طيماثأوس، بطريرك كنيستنا، في القرن الثامن بعد المسيح، سأله وقال: كيف تعتقد أن المسيح هو ابن الله؟ اجاب البطريرك : نأتي بتشبيه مأخوذ من الطبيعة. فكما تتلد الأشعة من الشمس، والكلمة من النفس، هكذا المسيح، بما أنه كلمة الله، وُلِدَ من الأب قبل الدهور.

اننا نقول ونعتقد بأن المسيح مولود من الأب بما انه كلمته، ومولود من مريم العذراء بما انه انسان. وولادته من الأب هي آزلية قبل كل الدهور، وولادته من مريم هي زمنية، دون أب ومن غير زواج، وبدون انثلام بتولية أُمَهُ.

فكما تولد الاثمار من الاشجار، والنظر من العين، والروائح من الزهور، دون انشقاق وانفصال بعضها من البعض. وكذا تتلد الاشعة من الشمس. ان الله سبحانه قادر على كل شئ، وليس عنده أمرٌ عسير.

(هذا كان جزء من الحوار الذي جرى بين الخليفة والبطريرك)

أن المؤمنينَ يشعرون براحة روحية ونفسية عند حضورهم الكنيسة، ولأن بيت الله هو الملجأ الروحاني لهم في هذه الظروف الصعبة، وما يأتي في الانجيل هو المرشد الانساني والثقافي والحضاري لهم. لذلك وكما نرى اليوم وبالرغم من حرارة شهر آب، وبالرغم من صعوبة الوصول الى الكنيسة للكثيرين منهم في الوقت المعين بسبب كثرة نقاط السيطرة في المدينة، بالرغم من كل ذلك، فأن الحضور نعتبره كبيراً جداً مقارنةً بالظروف الصعبة التي تواجههم. ولكنه قليلٌ جداً لو قارناه بما كان قبل الغزو الامريكي للبلد في 2003.

فمنذ ذلك الحين بدأ العدد يقل في كل سنة عن ما كان قبلها لأسباب نعرفها جميعاً. ففي وقتها كانت هذه الكنيسة ” كنيسة مريم العذراء” في هذه المناسبة تمتلئ عدة مرات. والتناول كان يستغرق عدة ساعات. والان قلت تلك الاعداد، وقد لا تمتلئ الكنيسة اكثر من مرتين. وهكذا هو الحال مع بقية الخورنات والكنائس وفي مختلف المناسبات الكنسية.

وسبب كل ذلك هو: لجوء العوائل الى مناطق اخرى أكثر أمناً واستقراراً، أو الهجرة المضطرة الى بلدان اخرى انقاذاً لأنفسهم ولأبنائهم ولأجيالهم وذلك هرباً من مستقبل غامض بسبب الحوادث المخيفة والمستمرة من القتل والاختطاف وتفجيرات بيوت الله، وبسبب عدم الاستقرار في الوضع السياسي والأمني والاقتصادي والحياتي في البلد. ( ونحن في طريقنا الى الكنيسة سمعنا بخبر تفجير كنيسة في كركوك هذا الصباح ).

ومع هذا كله، وبدون الاطالة في الموضوع المعروف للجميع … مع كل ذلك، لا زلنا نعيش في الأمل النابع من ايماننا وحبنا للوطن، بأننا سنصل الى نهاية هذا النفق المظلم المخيف. ونحن نزرع هذا الأمل في قلوب المواطنين الابرياء. وفي كل قداس نبتهل الى الله لكي يَمطِر بركاته على أرض العراق، مهد حضارتنا الأنسانية الأولى، ومهد وجودنا القومي، ومهد مسيحيتنا التي اشرقت بنورها السماوي علينا في منتصف القرن الأول الميلادي، على يد رسل المسيح، ومنها انتشرت وتوسعت الى الدول المجاورة وصولاً الى بلدان بعيدة كالهند والصين.

اننا في كل صلاة وقداس نبتهل الى الله لكي يُهدي رجالات السلطة والمسؤولين السياسيين كل المقدرة والحكمة والصبر والتواضع، ووضع جانباً كل الخلافات والصراعات السياسية والمذهبية، والقضاء على الفساد الاداري والمالي في البلد الذي هو ملك الشعب، والعمل بكل ما هو خير لهذا الشعب الآبي، الذي عان الكثير الكثير، ولا يزال يعاني معاناة لم يكن يتوقعها أن تحدث له في بلد قد اغناه الرب بكل خيراته وبركاته.

هذا الأمل هو الذي يجعلنا أن نواجه هكذا ظروف صعبة ونقول: سيأتي ذلك اليوم الذي فيه ستحقق اماني الشعب العراقي ويمارس فيه أبناء كل مكوناته حقوقهم  الانسانية والوطنية، والتفرغ بكل طاقاتهم وامكانياتهم في بناء ونهضة عراقنا العزيز.

اننا نتطلع الى اليوم الذي فيه سنسمع فيه اصوات المآذن والنواقيس من تلك دور العبادة التي فُجرت، ونرى أرض العراق المباركة خضراء يانعة ومعطاة.

اننا نتطلع الى اليوم الذي فيه سيقوم الطفل العراقي برسم صورة حمامة أو زهرة أو قوس قزح بدلاً من صورة صاروخ أو دبابة.

اننا نتطلع الى اليوم الذي فيه ستقوم الأُم العراقية المسلمة بأخذ اطفالها الى منتزه المنطقة في جوٍ ملئ بالهدوء والامان وتجلس بجانب جارتها الأُم المسيحية وتتبدلان الحديث عن مستقبل اطفالهما.

اينما يوجد الايمان توجد المحبة، واينما توجد المحبة يوجد السلام، واينما يوجد السلام يوجد الله، واينما يوجد الله … يتحقق ما يحتاجه الانسان.

اسيرو، العطاء والمحبة تتجسد

اسيرو، العطاء والمحبة تتجسد

 

ACERO – Assyrian Church of the East Relief Organization

من كان له ثوبان فليعط من لا ثوب له، ومن عنده طعام فليشارك فيه الاخرين” “لو10:3

انتمائنا الى دائرة المسيح المتآخية تحتم علينا العطاء المتبادل بين أعضاء جسد المسيح الواحد.

منظمة ” اسيرو” ACERO هي طريق كنيسة المشرق الآشورية الى العوائل المتعففة الذين عانوا من أهوال الحروب وظروف الإرهاب في القتل والتهجير، التي تركت لنا إخوة في أمس الحاجة الى المساعدة.

اسيرو، هي طريقنا إلى كل فقير ومحتاج، وان شبع، نبعد عنه الألم، وإذا شفي، نسنده في طريق الحياة، ليكون لأبناء الكنيسة مستقبلا زاهرا، يليق بتميزنا الحضاري والديني.

واجبنا المسيحي يقتضي تخلينا على بعض من رفاهيتنا وأثمان ما ننفقه في الغربة بدون أي فائدة لنسد بها رمق فقير ومحتاج، فتخفف عن الم مريض، ونسند شاباً او شابة تقف الأسباب المادية حاجزاً لإتمام دراستهما.

اسيرو، شمعة على طريق محاربة الألم والفقر ويد بيضاء تمتد لكل محتاج بعيداً عن بهرجة الإعلام.

كنيسة كوخي

كنيسة كوخي

كنيسة في بلاد ما بين النهرين أسست على يد متلمذ المشرق مار ماري في القرن الاول الميلادي. تقع الى الجنوب من بغداد في منطقة المدائن عاصمة الفرثيين، التي كان سكانها اشد الناس تمسكاً بالوثنية.

تعود قصة بناء الكنيسة الى معجزة شفاء اخت الملك ارطبان الثالث واسمها (قنّي)، والتي كانت مصابة بمرض عضال يصعب الشفاء منه. فمنح الملك ارضاً في ضاحية قطيسفون اسمها كوخي ( وتعني الاكواخ) ليقيم فيها الرسول كنيسة كوخي، اصبحت لاحقاً، وبعد ان اكتسبت اهمية كبرى، مقراً لكرسي جثالقة المشرق.

تعرضت الكنيسة للتدمير ابان الاضطهاد الاربعيني على يد شابور الثاني، عام 341 وهي السنة التي استشهد بها مار شمعون برصباعي.

اعيد بناؤها لاحقاً لتصبح مقراً للكرسي البطريركي حتى عام 799 حيث قام البطريرك مار طيمثاوس الاول بنقل مقر البطريركية الى بغداد، عاصمة الدولة العباسية في عهد الخليفة المهدي (775-785) ليكون قريباً من بلاط الخلافة العباسية.

بسبب عدم استخدامها، تعرضت كنيسة كوخي الى الدمار وبقيت مندثرة لعدة قرون قبل اعادة اكتشافها من قبل بعثات اجنبية في القرن الماضي.

عام ألفين، أقامت كنيسة المشرق الاشورية قداساً في منطقة قريبة من كوخي بمناسبة الالفية الثالثة للمسيح بمشاركة رؤساء جميع كنائس المشرق.

المصادر:

  • كتاب المجدل – ماري بن سليمان
  • كتاب شهداء المشرق – الاب البير ابونا

مجادلة الراهب الجرجاني مع الشيخ عمر الصيني

مجادلة الراهب الجرجاني مع الشيخ عمر الصيني

الشماس نجيب دنخا

قال الشيخ عمر: اني مررت براهب وهو في صومعته فجرى بيني وبينه مؤانسة.

فقلت له: يا راهب لمن تعبد.

فقال: اعبد الله الذي خلق العالم بقدرته وألــَّفَ نظامه بحكمته. وقد حوت عظمته كل شيء. لا تبلغ الألسن وصف قدرته. ولا العقول لج رحمته. له الشكر على ما نتقلب فيه من نعمته التي صَحَّتْ بها الأبصار. وَرَعَتْ بها الأسماع. ونطقت بها الألسن. وسكنت بها العروق وامتزجت بها الطبائع.

فقلت يا راهب ما أفضل الحكمة؟

فقال: خوف الله؟

فقلت: وما أكمل العقل؟

قالَ: معرفة الانسان بقدرته.

قلت: ما يعين على التخلص من الدنيا؟

قال: ان تجعل بقية يومك انقضاءَ أملك.

فقلت: وما حملك على ان عقلت على نفسك في هذه الصومعة؟

فقال: لاحبس هذا السَّبع عن الناس ( وأوما بيده الى لسانه).

فقلت: من اين تعيش؟

قال: من تدبير اللطيف الخبير الذي خلق الرحى وهو يأتيها بالطحين.

قلت: لم لا تنزل الينا وتخالطنا؟

فقال: لان الأشياء الموبقة بأسرها بينكم والسلامة من ذلك انما تكون في الوحدة.

قلت: وكيف صبرت على الوحدة؟

فقال: لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت اليها من نفسك.

قلت: كيف لبست السواد؟

فقال: لان الدنيا دار مأتم وأهلها في حداد. وإذا حزنت الثكلى لبست السواد.

فقلت: كيف تذكر الموت؟

فقال: ما أطـرِفُ طرفة عين الا ظننت اني مُتٌّ.

قلت: مالنا نحن نكره الموت؟

فقال: لانكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم. فانتم تكرهون النقلة من العمران الى الخراب.

قلت: يا راهب عظني.

فقال: ابلغ العظات النظر الى محلة الأموات. وفي تغيير الساعات والآجلات. وان شيعت جنازة فكن كانك المحمول مثل ذلك. ولا تنس من لا ينساك. واحسن سريرتك. يحسن الله علانيتك. واعلم ان من خاف الله اخاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. واطلب العلم لتعمل به ولا تطلبه للتباهي اوتماري به السفهاء. وإياك والأهواء فإنها موبقة. والهرب الهرب من الجهل. والهرب الهرب ممن يمدح الحسنات فيتجنبها ويذم السيئات فيرتكبها. ولا تشرب المسكر فان عاجلته غرامة. وعاقبته ندامة. ولا تجالس من يشغلك بالكلام ويزين لك الخطأ ويوقعك في هذه الغموم. ويتبرأ منك وينقلب عليك. ولا تتشبه في طعامك وشرابك ولباسك بالعظماء ولا في مشيتك بالجبابرة. وكن ممن يرجى خيره. ولا تكن ممن يخاف شره. واعلم ان من أحبه الله ابتلاه. ومن صبر رضي الله عنه. وإذا اعتللت فأكثر من ذكر الله وحمده وشكره. واياك والنميمة فانها تزرع في القلوب الضغائن وتفرق بين المحبين. وانظر ما استحسنته من غيرك فامتثله لنفسك. وما أنكرته من غيرك فتجنبه. وارض للناس ما ترضاه لنفسك. فانه كمال الوصال والصلاح في الدين والدنيا. ثم قال اني استودعك لله واقرأُ عليك السلام. ثم انه نهض الى صلاته فسمعته يقول: الهنا تقدس اسمك تأتي ملكوتك. تكون مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض. وارزقنا الكفاف يوما بيوم. واغفر لنا خطايانا وآثامنا. ولا تدخلنا في التجارب وخلصنا من إبليس لنسبحك ونمجدك الى الدهر الداهرين. ثم جعل يقول أيضا اللهم ان رحمتك كعظمتك. اللهم ان نعمتك أعظم من رجائنا وصنعك أفضل من آمالنا. اللهم اجعلنا شاكرين لنعمائك حتى تشتغل بذكرك جوارحنا وتمتلئ قلوبنا. اللهم أعنا على ان نحذر من سخطك ونبتغي طاعتك ورضاك. اللهم وفقنا للعمل بما نفوز به من ملكوتك. من اجل انه ينبغي لك العز والسلطان والقدرة.

قال الشيخ: فاستحسنت ذلك منه. وسألته ان يدعو لنا وانصرفت وانا متعجب من حسن مقاله.

من كتاب

مجاني الادب في حدائق العرب

الاب لويس شيخو اليسوعي – الجزء الثالث

هل الكنيسة هي نحن جميعاً ؟

هل الكنيسة هي نحن جميعاً ؟

الخوري حنا عيسى

للكنيسة تعاريف عديدة ومختلفة. فهي تعرف، أحياًناً، بالمكان الذي يجتمع فيه المؤمنون للصلاة في حين يعرفها آخرون، أحياناً، بجماعة المؤمنين. وأخيراً يعرفها البعض بالرؤساء ومن دون ما يسمى بالعلمانيين. فكان هذا التعريف الأخير سبباً في تهميش أو إقصاء شريحة واسعة من المؤمنين من حياة الكنيسة ورسالتها، مما حدا بالبعض إلى إطلاق عبارة شهيرة، هذه العبارة التي أود أن أتناولها في هذا المقال.

  1. الكنيسة هي نحن جميعاً.

ثمة عبارة شهيرة للغاية ألا وهي:”الكنيسة هي نحن جميعاً. والمقصود بهذه العبارة “نحن جميعاً” الصغار، الكبار، الرجال، النساء، الشباب والشابات. فكل هؤلاء المؤمنون ولاسيما المعمدون يؤلفون الكنيسة أو بتعبير آخر الكنيسة هي الرؤساء والشعب، هي القمة والقاعدة معاً.

بهذا الإيمان ولاسيما بهذا العماد المسيحي يمسي كل هؤلاء أعضاء أحياء، حقيقيون وكاملون في الكنيسة جسد المسيح، لهم مكانتهم ودورهم ورسالتهم. وما رسالة هؤلاء جميعاً، قمة وقاعدة، كل حسب موقعه، إلا رسالة واحدة ألا وهي رسالة حمل وإعطاء المسيح وإنجيله إلى العالم اليوم. تلك هي ميزة المسيحي الذي هو وحده القادر على إعطاء المسيح للآخرين.

ولكن، لكيما نفهم الواقع الحقيقي وراء إطلاق مثل هذه العبارة فلا بد أن نعيدها إلى إطارها أو سياقها التاريخي. فلقد قيلت هذه العبارة في وقت كان يتم تهميش أو إلغاء أو إقصاء أو اغتراب شريحة واسعة، عريضة وأساسية من المؤمنين ألا وهم العلمانيون. فجاءت هذه العبارة لتؤكد على حق هؤلاء جميعاً في إشراكهم في حياة الكنيسة ورسالتهم، إذ لا يمكن تصور كنيسة من دون كل المؤمنين، طالما أنهم جميعاً أعضاء فيها.

وستبقى هذه العبارة صحيحة، طالما يتم تهميش أو إقصاء أحد أو بعض المؤمنين من حياة الكنيسة ورسالتها. ولكن ستنتفي الحاجة إليها إذا ما تم إشراك جميع المؤمنين في هذه الحياة كما في هذه الرسالة.

  1. نشأة الكنيسة.

بيد أن الكنيسة لم ولا تنشأ بفعل إرادة البعض ذلك إنها ليست تنظيماً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً وإنما الكنيسة هي تجمع أو جماعة المؤمنين، هذه الجماعة التي ولدت بفعل الإيمان بقيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات. فلولا القيامة، هذا الحدث الرئيس والحاسم في حياة يسوع المسيح، لما كانت الكنيسة ذلك أنها ولدت من رحم القيامة وبالتالي فهي بنت القيامة,

من هنا نفهم فرادة وخصوصية الإيمان المسيحي ذلك أن المسيحيين لا يؤمنون بوجود إله واحد حقيقي حسب بل بقيامة الرب يسوع المسيح ببعديه التاريخي والإيماني.

  1. الكنيسة مؤسسة.

أما من قاد، في البداية، هذا التجمع الإيماني فهم، ولاشك، الرسل أوائل المؤمنين بقيامة الرب يسوع. ومن ثم ظهر أنبياء في كنيسة القديس متى كانت تقوم مهمتهم على نقل كلمة الله وترئس الافخارستيا. ففي شأن الأنبياء يعطي كتاب الديداكي القريب من هذه الكنيسة مواصفات للتمييز بين النبي الحقيقي والنبي الكاذب. أما بالنسبة إلى الافخارستيا فهو يكتب قائلاً: “ليشكر الأنبياء ما طاب لهم الشكر” كما ظهر الشيوخ وأخيراً الشمامسة والأساقفة الذين يشير إليهم كتاب تعليم الرسل الأثني عشر إذ يكتب قائلاً: “وهكذا انتخبوا لكم أساقفة وشمامسة، رجالاً مختبرين جديرين بالرب ودعاء، سالكين في نزاهة واستقامة لأنهم يؤدون لكم خدمة الأنبياء والمعلمين”.

بيد أن التطور التدريجي والمراحل التاريخية التي مرت بها الكنيسة فرضت على هذا التجمع أو هذه الجماعة أن يتخذ شكل مؤسسة فسميت بالمؤسسة الكنسية شأن كل المؤسسات الأخرى، هذه المؤسسة التي لها قادة وقوانين وأنظمة خاصة بها تزداد بمرور الزمن.

وفيما تعاقب وما يزال يتعاقب المؤمنون في هذه الجماعة، فإن هذه المؤسسة ستبقى قائمة، دائمة، ثابتة وضرورية، على الرغم من ثقلها وصعوبة تقبلها الجديد والتجديد في حياتها.

وإنه لمن الضرورة بمكان احترام هذه المؤسسة وكذلك احترام استقلاليتها لتؤدي مهمتها أو رسالتها التي من أجلها قامت هذه الجماعة- المؤسسة.