الكنيسة والإمبراطورية الرومانية
الكنيسة والإمبراطورية الرومانية
القس هرمزد جرجيس
كان المسيحيون الأوائل، حسب رسائل بولس الرسول وأعمال الرسل وكتابات الآباء في القرن الثاني، أقلية وسط بحر من الوثنيين، عباد الأصنام والساجدون للإمبراطور، رمز النظام الروماني، فلم يتم قبولهم في هذا العالم حسب القوانين والحقوق الرومانية، ولم تمنح لهم، أية حقوق مدنية، سياسية أو قومية. فكانوا يعيشون كغرباء بين الناس، رافضين سلطة الإمبراطور، وممتنعين عن أداء الخدمة العسكرية والانخراط في الحروب، لتعارض العنف الذي اتصفت به تلك الإمبراطورية، مع التعاليم المسيحية السامية.
لهذه الأسباب، نـُبـِذَ المسيحي من المجتمع واعتبر غريباً، مهاجراً وإنساناً هامشياً من الدرجة الثانية، مجرداً من أي حقوق مدنية، ومعرضاً لاضطهاد دائم من قبل مجتمعه، ومشكوكاً في تصرفاته وولائه لاعتبارها خطراً على الإمبراطورية الرومانية.
تحلى المسيحيون، في هذا المواقف المهددة لحياتهم، بالصبر، التواضع والطاعة للإيمان، وظلوا في العالم الذي طردهم حاملين سمات مخلصنا يسوع المسيح بفخر، فأخذوا يشكلون جماعة جديدة (جماعة المحبة)، لتعيش علاقة المسيح بالله ومع الآخرين، محاولين تغيير العالم الوثني العنيف الى عالم السلام المسيحي. وبالرغم من كل الاضطهادات، التزم المسيحيون بتلبية احتياجات مجتمعهم، خاصة وقت الشدائد والكوارث دون أدنى خوف من العدوى والموت، (فاهتموا بالمرضى ودفن الموتى خلال الطاعون، ووزعوا الطعام في فترة المجاعة). ونراهم في (أعمال الشهداء) القديمة و (الكتابات الدفاعية)، يدافعون عن إيمانهم وعدالتهم الإنسانية، وكانوا يرفضون تصرفات الذين يقتلونهم دون سبب وبلا خوف.
أما الكتّاب الوثنيون المعاصرون فكانوا يسخرون منهم ويحتقرونهم، قائلين:” إنهم يتبعون رجلا مصلوبا، ابن نجار، إنساناً غير معروف، معلم مجموعة من صيادي السمك. والمسيحيون يسكنون في الخيم والأكواخ، يعارضون السلطة الدينية والدولية معتبرين الجهل خيراً والحكمة شراً، رافضين الإمبراطور والهياكل والمذابح والتماثيل”، وتشير بعض النصوص، الى حضور المسيحيين في طبقات المجتمع الوسطى وحتى العليا، وهناك إشارات عن دور السادة والنساء النبيلات في جماعة الكنسية الأولى (أعمال الرسل 9: 36، 13: 7-12؛ 16: 14-15، 17: 4)؛ روم 16: 12-15، 1بطرس 3: 3-4، يعقوب 4: 13- 5: 6)، وخلال القرن الأول الى الثالث، ظهرت بعض الكنائس الغنية، خاصةً في روما والإسكندرية وليون وقرطاجة، لذلك وبخ (قبريانوس) الأساقفة والعلمانيين لبخلهم في عهد الاضطهادات.
انتشار المسيحية الأولى
في القرنين الثاني والثالث، انتشرت المسيحية في كل مناطق الإمبراطورية الرومانية، شرقاً وغرباً، وحتى خارج حدودها، وبعد اكتمال النظام الكنسي حسب المراكز المهمة في المدن الكبرى (روما وإنطاكيا) وفي الأقاليم الرومانية (آسيا الصغرى، أفريقيا الشمالية، أوربا…. )، في القرن الأول، تأسست 50 كنيسة ( بالأخص في آسيا الصغرى)، وأصبح لدينا في مطلع القرن الرابع ما يقارب الـ 650 كنيسة.
في البدء، انتشرت المسيحية لدى البسطاء والعبيد والجنود، لكن سرعان ما تم قبولها من قبل طبقات المجتمع الأخرى، بدون أي تمييز عنصري بين العبيد والأحرار، المتزوجين والنساك، النساء والرجال، الرومان والبرابرة، وبين اليهودي والوثني، فكلهم كانوا يعيشون حياة مشتركة في جماعة المؤمنين وحسب النظام البسيط، المبني على المحبة الأخوية، على رجاء مجيء الرب (الفصول الأولى من أعمال الرسل).
الأسباب التي ساعدت في انتشار المسيحية خلال هذه الفترة:
عالمية الكنيسة الشاملة:
بعد نشوء الخلاف بين المسيحيين الآتين من العالم اليهودي والعالم الوثني، وقف يهود أورشليم ومعهم القديس يعقوب، موقفاً يدعو الى المحافظة على التقاليد والعادات الوثنية اليهودية واعتبارها شرطاً لقبول المسيحية من قبل العالم الوثني. أما القديس بولس فقد اعتبر هذه التقاليد حرفا قاتلا، لان المسيحي ينتقل الى الحياة في الروح، وعدم ممارسة هذه الأعمال والتقاليد لا يعتبر خيانة للإيمان.
تم حسم الخلاف في مجمع أورشليم سنة 49، حيث أقرَّ القديس بطرس مع الرسل، بصحة موقف مار بولس العالمي الشمولي. ومن ثم فتحت المسيحية الأبواب للجميع وبدون أي تمييز وأصبح الانضمام الى المسيحية مبني على أساس الإيمان بالمسيح مخلصاً، من دون اشتراط التهود أولاً.
المواصلات:
اتصفت السلطة الرومانية، بالشدة والحزم وبحكمها الصارم، وبواسطة هذه السلطة تمكن الرومان من السيطرة على ممالك واسعة، لتعيش هذه الشعوب، متحدة في ظل (الحكم الروماني)، فتطبق عليهم القوانين ذاتها، ويتم قبول الدين ذاته، وتدٌرَّسْ بينهم نفس الثقافة واللغة. وبسبب سيطرة الجيوش الرومانية على المناطق كلها، أصبحت طرق المواصلات ووسائل نشر الأخبار مفتوحة، وسلسة، فكان لها الدور الأهم والأسرع في نشر المسيحية بين أرجائها.
اليهودية:
طـٌرِدَ المسيحيون من اليهودية رسميا بعد سنة 70 م، وشنَّ اليهود اضطهادا ضدهم، إلا إن المسيحية استفادت من بيئتها السابقة في بنائها الطقسي الكتابي والقانوني، وأيضا طريقة العيش في جماعة عائلية مستقلة ومتحدة على أساس المبادئ الروحية.
تنظيم التعاون والبشارة:
منذ البدء، كان هناك نوع من التعاون بين الكنائس المحلية، ففي عهد مار بولس كانت الكنيسة في أنطاكيا تجمع المساعدات لكنيسة أورشليم، وفيما بعد تكونت جماعات تعاونية بين الكنائس الأخرى. وهذه الصفات عبرت عن الجماعات المسيحية وكأنها (بيت واحد) تحيا بنعمة الروح القدس والإيمان الحي بحضور المسيح في أوساطها، والاهتمام بالمحتاجين في الكنائس المحلية.
الشهادة:
أمام الإمبراطور والنظام الروماني الذي اعتبر نفسه إلها مدبرا للكل، ظهرت شجاعة المسيحيين العظيمة ومواقفهم الحقيقية والروحية، ضد اكبر سلطة عالمية آنذاك، فأُعتبر الاستشهاد والثبات في الإيمان من المواقف المبدئية في المسيحية، باعتبار الاتحاد مع المسيح (الخبز المكسور من اجل حياة العالم) أفضل من التمتع بالحياة الدنيوية بعيداً عن النور الحق.
وقد وصفت هذه الشجاعة في أعمال الشهداء، بين الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ، غير الآبهين بالموت، مقدمين حياتهم في هذا العالم من اجل الحياة الأبدية (حياة القيامة).
الخلاص:
نرى في دياميس روما، وعلى توابيت مرمرية نقشت بعض الصور البدائية. وهذه الصور عبارة عن مشاهد من العهد القديم والجديد تعبر عن الخلاص، مثل، الراعي الصالح، ونوح الذي يصعد من صندوق صغير يمثل الفلك، دانيال بين الأسود، موسى الذي يضرب الصخرة، قصة يونان الذي يستريح تحت الشجرة، المسيح والمرأة النازفة، العماذ والافخارستيا، وكانت هذه الصور في تلك الفترة تعبيرا رمزيا عن تقديم الخلاص الحقيقي، للعالم الروماني الفاسد المضطرب الباحث عن الخلاص. فعلمته المسيحية التسامح والغفران والمحبة والتواضع.
صفات أخرى للكنيسة الأولى
اتسمت الكنيسة بصفات جعلت منها جوهرة لامعة في وسط الإمبراطورية الرومانية، من خلال الإيمان المتحد، الكرازة بقيامة المسيح، والحياة المشتركة (أعمال الرسل 2: 42 – 47، 4: 32 – 35، 5: 12 – 16)، والمحبة الأخوية وتقديم المساعدة للفقراء. استطاعت الكنيسة في تلك الفترة تنظيم إدارتها حسب نظام الجماعات المحلية التي اتخذت ترتيباً ثابتاً في هرمية النظام مع (الأسقف، القساوسة والشمامسة)، وتنظيم الرتب الدينية طقسياً كالافخارستيا، الرسامة، العماد وأوقات الصلاة الرسمية. وكذلك اجتماعياً، من خلال تقوية الأواصر بين المؤمنين من خلال تبادل الزيارات والمراسلات العيش المشترك.
حدود انتشار الكنيسة
1- الكنائس في إسرائيل: جرى الانتشار الأول في نواحي أورشليم.
2- الكنائس في سوريا: بدأت في إنطاكيا ومنها انطلقت نحو الشرق، إلى الرها وحتى بلاد فارس، وعن طريق كبدوكيا الى ارمينيا.
3- الكنائس في آسيا الصغرى: وذلك في أفسس التي كانت على التقليد اليوحناني ( 14 نيسان: تاريخ عيد الفصح).
4- كنيسة الإسكندرية ومصر: في مركز الغنوصية تكونت أيضاً كنيسة حاولت التحاور العلمي والثقافي مع الأفلاطونية، على يد اقليمس 215 واوريجانس 254 المفسر الكتابي الروحي اللاهوتي.
5- كنيسة روما وكنائس ايطاليا التي تميزت بعيشها وسط اضطهادات قاسية.
6- كنائس افريقيا مع شهداء سكيلي 180، وترتليانوس 220، وقبريانوس أسقف قرطاجة الشهيد 258.
7- كنائس كاليا: ليون وفيانه (ايريناوس)، التي بشرت باتجاه المناطق الشمالية حتى باريس وتريز.
حسب أقوال البعض، غطت المسيحية نحو 16% من سكان الإمبراطورية وتأسست فيها 650 كنيسة، منها 374 كنيسة في المشرق، وهذا الانتشار كان سببا ليحضر 300 أسقف الى مجمع نيقية عام 325 م.
المصادر:
• اوسابيوس القيصري،” تاريخ الكنيسة”، تعريب: القمص مرقس داود، مكتبة المحبة، القاهرة، 1979.
• افغراف سميرنوف، ” تاريخ الكنيسة المسيحية”، تعريب: الكسندروس مطران حمص، موسكو، 1911، حمص 1964.
• برصوم( البطريرك افرام)، ” الدرر النفسية في مختصر تاريخ الكنيسة، حمص 1938، 1940.
• سيلفستر شولر، ” الكنيسة قبل الاسلام”، تعريب: المحامي فؤاد جرجي ابو ريحان، 1971.
• لومون، ” مختصر تواريخ الكنيسة”، تعريب: المطران اقليمس يوسف داود، الموصل 1873.
• انطوان الفرغالي ( المنسنيور)، ” المجمل في تاريخ الكنيسة، القدس 1954،1961.
• يقاريني، ” تاريخ الكنيسة”، تعريب: الاب. عقيقي اليسوعي، مصر 1966.
• ستيفن رنسيمان: ” تاريخ الحروب الصليبية”، تعريب: الباز العريني، بيروت 1967.
• جان كومبيه، ” لقراءة تاريخ الكنيسة”، بيروت 1995.