مجمع مار اسحق الجاثاليق سنة 410 م
مجمع مار اسحق الجاثاليق سنة 410 م
الشماس سامي ديشو – سدني
مقدمة
قبل أكثر من 1600 سنة، عقد مجمع هام لكنيسة المشرق. كان المجمع شاملا حضره أربعون مطرانا واسقفا. ترأس المجمع مار إسحق الجاثاليق، والى جانبه مار ماروثا الموفد من الغرب وصاحب الفضل في التوفيق بين المملكتين الفارسية والرومانية، وكسب رضى يزدجرد الملك واستمالته الى جانب المسيحيين. سنلقي نبذة عامة عن هذا المجمع الذي يعتبر المجمع الرسمي الاول في هذه الكنيسة المجمعية العريقة. لكن قبل الخوض فيه، لابد ان نشرح بايجاز معنى المجمعية في الكنيسة. المقصود بالمجمعية، لقاء الكنيسة، مسؤولين، رؤساء، افرادا وجماعات، أبرشيات وكنائس، في مجامع محلية، اقليمية، عامة، مسكونية. ما يعبّر عنها باللغات الغربية بلفظة Synodalitas ومنها السينودس والسنهادوس، أي المجمع. والمجامع إما ايمانية تتناول مسائل تخص الايمان، أو رعوية ادارية حين تعنى بشؤون تنظيمية تدبيرية . لكن، هل الكنيسة مجمعية من صلب بنيتها، ام ان الطابع المجمعي ثانوي في تكوين الكنيسة وحياتها؟
مجمعية الكنيسة المقدّسة
كون المسيح جماعة الرسل مصافاً وحلقة، وعهد اليهم رعاية المؤمنين. ولا يتعارض هذا مع العضوية الاساس لجميع المؤمنين في الجسد الواحد، انا الكرمة وانتم الاغصان، كلنا جسد واحد في المسيح، وأعضاء لبعضنا، وهو رأس الجسد. فثمة أعضاء تتقدم على غيرها في الكرامة، وهو إختيار يعني مسؤولية، كما يتطلب تجاوبا وتضحيات. ويأتي التقدم على صعيدين، اللامنظور ويكون بسبب القداسة والكمال، والمنظور المرئي بسبب الخدمة والرسالة، مع بقاء دعوة الجميع للعمل معا وبانسجام، ضمانا لوحدة الجسد. وحياة الكنيسة الاولى، كنيسة الرسل، حافلة بالجماعية والشركة والوحدة. ذلك ان الرسل مؤسسي الكنائس، هم جماعة ومصاف وحلقة، لا أفراد منعزلون وأشخاص فريدون لا تكرار لهم. بل يخلفهم الاساقفة، الرؤساء الكنسيون، بوضع اليد، مسحة الروح والانتداب للخدمة. وكل أسقف هو عضو في المصاف عينه بطابع سري ودرجة مقدسة خاصة لخدمة الجسد الواحد. وهو بذلك يخدم الكنيسة جمعاء في حدود صلاحياته وسلطانه. هكذا يتجلى التقليد الرسولي في العالم، ويستمر بواسطة الذين هم خلفاء الرسل لخدمة الجماعة كرعاة الكنيسة.
هذه المجمعية في الكنيسة الى جانب التقليد الرسولي، يتجلّيان بوضوح في كنيستنا المشرقية المقدّسة. اذ نرى إنعقاد مجامعها الكنسية منذ القرون الاولى (ومنها مجمع مار اسحق الذي عقد سنة 410م) لغرض تدارس أوضاعها، وتنظيم شؤون اكليروسها ومؤمنيها الروحية والزمنية، ولغاية اليوم. هذا بالتأكيد يضمن ديمومتها لكي تبقى مزدهرة وحيّة لتؤدي رسالتها التبشيرية والتعليمية ودورها في الخلاص، كما أراد مؤسسها الرب يسوع المسيح، حين أوعز بذلك لتلاميذه قبل صعوده الى السماء.
أعمال مجمع مار إسحق
لم تستطع الاضطهادات الفارسية على الحد من انتشار المسيحية في ديار المشرق، بل على العكس زادتها حمية وتوسعا. وإذ فقدت كنيسة المشرق العديد من رؤسائها وابنائها في الاضطهاد الاربعيني 339 ـ 379 ، فان هذا الاضطهاد عجز عن اخماد أنفاسها والقضاء عليها، وخرجت من هذه المحنة الدامية ناصعة جميلة، راسخة في ايمانها وثابتة في مبادئها وشجاعة في المجاهرة بالقيم السامية والاخلاق العالية. لقد أصبح الدم الغزير الذي ارتوت منه أرض بلادنا المشرقية بذرا خصبا للمسيحيين، الذين ما أن خمد نار الاضطهاد، حتى بدأوا يستعيدون كيانهم بكل همة، وينظّمون شؤونهم وينشرون هذه الديانة التي تعذّر على السيوف والحراب القضاء عليها. وحين اعتلى العاهل الفارسي يزدجرد العرش سنة 399م ، عقد معاهدة صلح مع الرومان بهمة مار ماروثا الذي أرسله الملك اركاديوس الى الملك يزدجرد للتفاوض في شان السلام سنة 408م ، وتكللت مساعيه بالنجاح. وبديهي ان تستفاد كنيسة المشرق من الوضع الجديد، خاصة وان الملك الفارسي وضع حدّاً للاضطهادات الدموية ضد المسيحيين كنتيجة لمعاهدة الصلح هذه مع الرومان.
يبدو أن دور الملك الفارسي كبيرا في اعمال المجمع، وسهل العديد من مقتضيات الانعقاد، لاسيما فيما يخص تسهيل سفر الاساقفة والمطارين من مراكزهم ومتحملا النفقات، ليكونوا جميعا في المدائن قبل عيد الدنح (وقد كان يومذاك هو نفسه عيد الميلاد ايضا) . افتتحت الجلسة الاولى لمجمع مار اسحق يوم عيد الدنح، 6 كانون الثاني سنة 410م، برئاسة مار اسحق جاثليق كنيسة المشرق، ومار ماروثا اسقف ميافرقين موفد كنيسة الغرب، وممثلين عن الملك، واساقفة كنيسة المشرق الذين تمكنوا من الحضور. وتوقفت الجلسات العامة لتفسح المجال للجان والاشخاص المختصين لاعداد مسودة الاعمال المجمعية وترجمة النص الذي اتى به ماروثا من الغرب. ثم كانت الجلسة الثانية العامة في الاول من شباط، ولا تفيدنا الاعمال ولا المصادر كم استمرت الجلسات.
نشر العلامة شابو أعمال المجامع الشرقية ومنها مجمع ماراسحق في باريس عام 1902 ، معتمدا على مخطوطتي الفاتيكان وباريس المستنسختين من مخطوطة دير السيدة او دير الربان هرمزد في القوش، المحفوظة حاليا في خزانة الرهبانية الكلدانية، وهي من القرن الرابع عشر. واليكم مختصر أهم النصوص كما جاءت في المخطوطة الاصلية:
المقدمة:
بقوة الله الحي، نكتب المجامع التي وضعت يوما من قبل ابائنا القديسين في ديار المشرق، والقوانين التي وضعها مار ماروثا اسقف ميافرقين حيث نزل الى بلاد الفرس بوفادة، ايام يزدجرد الملك وايام مار اسحق الجاثليق الجالس في سلوقية وطيسفون، وتسلمها الاساقفة الذين في ارض فارس. وفي الامور ايضا التي وضعت وحددت من قبلهم، وفي ترتيب الاساقفة والمطارين، وفي البطريرك، وفي مصاف الاكليروس، وفي التوجيهات الموضوعة لهم في الخدمة الكنسية، وفي عقيدة ايمان ابائنا الاساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، وفي المؤمنين وتعاطي العرافة واعمال الغيب، وما اضاف اليها اساقفة الفرس الذين كان عددهم أربعين، وأخبار ما قبلوه وتسلّموه وحدّدوه بكلامهم من سائر القوانين الموضوعة.
إنعقاد المجمع ومقرراته :
في السنة الحادية عشرة من رئاسة يزدجرد ملك الموك المظفر، وايام الموقر والعظيم عند الله ابينا مار اسحق، رئيس اساقفة المشرق اجمع، وبحضور موفد الامن الاب الحكيم والرئيس المكرم مار ماروثا الاسقف، تحرك قلب يزدجرد ملك الملوك ليفعل كل خير ويصنع كل جميل. واذ سمع ملك الملوك بقدوم الاساقفة في شهر كانون الثاني وفي عيد الدنح، الى المدينة العظمى، رأس سائر مدن الشرق، أمر ابانا الموقر مار اسحق واخاه مار ماروثا الاسقف ان يجتمع الكل في الكنيسة الكبرى، وتُقرأ أمامهم الرسالة المرسلة من قبل اساقفة الغرب، وان يستمعوا الى ما هو مكتوب فيها ويحفظوه.
وفي مطلع شهر شباط، يوم الثلاثاء، كانت القيامة، فشاهدنا انبعاث الموتى، وصار لنا الخلاص، فانفتح فمنا بالتسبيح، وبسجود الروح والايمان عظمة الاله الحي، والمسيح المخلص، والروح القدس، اذ صنع معنا هذه العظائم بحيث لا نقوى على مجازاته. ونحن اذ سمعنا هذا الكلام من رسالة اولئك العظام اساقفة الغرب، فتح فمه حالا ابونا القديس مار اسحق الجاثليق ورئيس الاساقفة، وتحدث هو الاول كرئيس للاعضاء، ولاخيه الذي يشاركه في حبه بكمال المسيح، مار ماروثا الاسقف وقال:
ليُؤتَ بالمجلّد المكتوبة فيه القوانين، ولتُقرأ امام جميع هولاء الاساقفة. ولما أتوا به وقرأوه وسمعنا جميع التوجيهات، تحدث مار اسحق: ان كل من لا يستلم هذه الشرائع المجيدة والقوانين العادلة ويقبلها، يقع تحت الحرم، ولا يكون له سلطان في كنيسة المسيح. بعده نحن الاساقفة كلنا فتحنا فمنا وقلنا امين. بعدئذ قال مار ماروثا لجميعنا: لتكتب هذه التوجيهات والشرائع والقوانين، ولنوقع كلنا في نهاية القرار بايدينا خطياً. فقال مار اسحق قبل الجميع: اني اوقع بخط يدي في راس القائمة. وتعاهدنا بعده نحن الاساقفة من كل البلاد وثبتنا بخط ايدينا في الاخر كل ماهو ادناه.
وبعد ايام تحدث ابوانا الموقران مار اسحق ومار ماروثا الى ملك الموك المنتصر والمظفر، فاصدر امره بحكمة وسيادة، وامر وزيره الاعظم كسرى يزدجرد ومهرسابور قائد الحرس الملكي، فدخلنا عليهما نحن الاساقفة جميعا، فقالا لنا: لقد كنتم سابقا في اضطهاد عظيم، وكنتم تسلكون بالخفاء. اما الان فان ملك الملوك قد صنع لكم امنا وسلاما عظيما. وانه بدخول اسحق الجاثليق لدى ملك الملوك، طاب له ان يجعله رئيسا على سائر مسيحيي المشرق.
هذا وقد سنّ المجمع واحدا وعشرين قانونا لتنظيم والتدبير الكنسي واهمها في: انتخاب الاساقفة، اجتماع الاساقفة، رسامة الاساقفة، الاكرام الذي يليق ويحق للجاثليق، الخوراساقفة على ان يثبّت واحدا للاسقف الواحد، الاركذياقون وفي النظم الضرورية لخدمته وتدبيره وانتخابه، الاكليريكيين وان لا يعملوا بالربا والفائدة ، النظم والقوانين الواجبة للخدمة والاسرار المقدسة، الواجبات الضرورية لاكمال خدمة يوم الاحد، واردات الكنيسة على ان تناط برجل قيّم ومؤمن، اسبقية المقام اللائق بالمطارين وانتخابهم وما يقع على الاساقفة الذين تحت ايديهم، نظام الكهنوت ووقاره، الابرشيات وكراسي المطارين والاساقفة الذين تحت ايديهم واحدا واحدا.
كما حدّد المجمع ترتيب الكراسي بسب أهميتها والمدينة. اما الكرسي الاول فهو كرسي سلوقية وطيسفون، والثاني كرسي بيث لافاط وهو الاهواز، والثالث كرسي نصيبين، والكرسي الرابع هو فرات ميشان(البصرة)، والخامس كرسي اربيل حدياب، والكرسي السادس كرخ سلوخ باجرمي(كركوك)، ثم يليهم كراسي اساقفة البلاد البعيدة منها فارس والجزر قطرايي والرازيق. كما ويشير المجمع الى بعض المشاغبين والمتجاسرين الذين اطلقوا على انفسهم لقب الاسقفية، ويذكر احدهم واسمه دانيال الذي قبل وضع اليد من باطي الاسقف الموثوق والمربوط، فهو ايضا مربوط ومحروم من هذا المجمع.
الاختتام – إيمان كنيسة المشرق بالكنيسة الرسولية الجامعة
ثم ياتي الختام اخيراً بعبارة مقتضبة لكنها في غاية الاهمية، لتؤكد ان لكنيسة المشرق ايمانا بالتقليد الرسولي، عقائديا وقانونيا، اضافة أن لها قناعة راسخة بكنيسة المسيح الجامعة. وهذه عبارة الختام: سلام الرب يسوع مع الذين أتمّوا السبيل السوي في الايمان الحق بكنيسة الرسل الجامعة. يلي الختام تواقيع المشاركين في المجمع بدءاً بمار اسحق فماروثا الاسقف ثم المطارين حسب اهمية الكراسي، ثم الاساقفة. وتجدر الاشارة الى ان عدد الموقعين هو 37، وان الاساقفة حتى الرقم 32 هم من الموقعين الحاضرين، مع العبارة المذيلة بعد الاسم، هكذا: انـا فلان الاسقف، أقبل كل ما مكتوب اعلاه. أما الموقعون من الرقم 32 حتى 37، فنقرأ العبارة المذيلة بعد الاسم، بزيادة بسيطة عن الاولى، وهي هكذا: انـا فلان الاسقف أقبل كل ما مكتوب أعلاه في هذا المجمع المقدس.
وهكذا فان مجمع مار اسحق كان في غاية الاهمية لكنيسة المشرق، بعد الاضطهاد العنيف الذي حصد العديد من رؤسائها وابنائها، وأعطى زخما قويا لتنظيم شؤونها وتثبيت اركانها. واصبح نقطة انطلاق لنقل بشرى الخلاص شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، بواسطة ابنائها الغيارى الذين لم تثنيهم المسافات الطويلة ولا الظروف الصعبة في سبيل ذلك، لتسلّحهم بالايمان القوي وحبهم العميق لمخلصهم، الرب يسوع.