المدارس الآشورية في أستراليا والأبعاد الإستراتيجية للوجود القومي في المهجر

المدارس الآشورية في أستراليا والأبعاد الإستراتيجية للوجود القومي في المهجر
===========================================

أبرم شبيرا

كلما أقرأ خبر عن المدارس الآشورية في إستراليا، وآخره خبر إكتمال المبنى الجديد لكلية مار نرسي الآشورية المسيحية في سدني والذي سيفتتح بتاريخ 21 كانون الثاني 2018وبكلفة قدرها 32 مليون دولار أسترالي، تتزاحم في رأسي العديد من الأسئلة المحيرة عن أسباب وراء نجاح هذه المشاريع التربوية القومية في إستراليا وليس في غيرها من دول المهجر. وحتى أقنع نفسي أحاول أن أجد إجابات إفتراضية قد تفي بالغرض.

أفهل سبب هذا النجاح هو كرم الحكومة الإسترالية ومرونة قوانينها في راعية ثقافة شعوبها، وهي دولة متعدد الثقافات؟ ، أم هو وجود شخصيات قيادة ومؤسسات فاعلة، كأبرشية إستراليا لكنيسة المشرق الآشورية وراء هذا النجاح وإستمراره؟، أم هو قدرة هذه الشخصيات القيادية على فهم القوانين الإسترالية وإستيعابها بالشكل الذي يخدم هذه المشاريع التربوية القومية، في الوقت الذي نعرف بأنه تقريباً معظم الدول الديموقراطية الغربية التي هاجر إليها أبناء شعبنا لها قوانينها الخاصة في رعاية ودعم ثقافة أقلياتها وفيها ابرشيات لكنيستنا المشرقية يرعاها أكليريون من مطارنة وأساقفة وخوارنه وأكثرهم نالوا شهادات أكاديمية بعضها بمستوى الماجستير والدكتوراه في اللاهوت أو الفلسفة أو التاريخ ولكن عندما نقارن المشاريع التربوية واللغوية والثقافية لأبناء شعبنا في هذه الدول مع إستراليا نجد أن ميزان المقارنة يختل إختلالاً حاسماً لصالح أستراليا ليسجل لأبناء شعبنا سابقة تاريخية لم يشهدها تاريخ مجتمعاتنا في المهجر.

من هنا فأن الواقع والحقيقة تلزمنا بأن تكون الإجابة على التساؤل أعلاه كامن في قدرة وحنكة الشخصيات القيادية لمجتمعنا في أستراليا وفي ريادة المؤسسة الكنسية النشطة المتمثلة في أبرشية أستراليا ونيوزلنده التي يرعاها غبطة المطربوليت مار ميلس زيا واللجان المختصة بهذا الشأن على فهم وإستيعاب القوانين الإسترالية والإستفادة منها لتأسيس مؤسسات تربوية وثقافية قومية وبشكل ينم عن العقلانية في العمل القومي الهادف إلى الحفاظ على كياننا القومي والكنسي في مجتمعات المهجر بعيدا عن الرومانسية والخيالية في العمل القومي. هنا في ختام هذه التوطئة أود الإشارة إلى سلوك بعض “القومانيين” الآشوريين الذين ينزلون كل لعنات السماء والأرض على رجال الكنيسة عندما يشيدون كنيسة جديدة في أحدى المدن على أساس أن بدل ذلك كان يتوجب عليهم بناء مؤسسات تربوية وثقافية تحافظ على كيان أمتنا في المهجر وليس المزيد من الأبنية الكنسية، ولكن ها هي أبرشية كنيسة المشرق في أستراليا قد بنت وتبني العديد من المؤسسات التربوية والثقافية من مدارس وكليات ولكن كم من هؤلاء “القومانيين” رفعوا أبهامهم ( ) أعجابا بهذه المشاريع التربوية القومية أن لم نقل كتبوا سطورا قليلة تشجيعاً لهذه الجهود النبيلة والمثمرة في خدمة ثقافة أمتنا في المهجر؟

المدارس في أستراليا وخبر إفتتاح مبنى كلية مار نرسي الآشورية المسيحية ليس موضوع معالجة مباشرة في هذه السطور بل أخذته كمنطلق للإسترسال بجزء من الأفكار والأراء عن مجتمعنا في المهجر قاصداً منها إستكشاف بعض الأبعاد الإستراتيجية للوجود القومي وإيجاد السبل المتينة لتقويم وصيانة خصائصه القومية والتراثية في المجتمعات الصناعية السريعة التطور والتي تصلح تطبيقها في أي بلد من بلدان المهجر. ومن يريد من قرأءنا الأعزاء الإستزادة عن هذه المدارس عليه مشاهدة المقابلة التي أجراها الأعلامي المعروف ولسن يونان مع غبطة المتربوليت مار ميلس زيا على الرابط: https://www.facebook.com/SBSAssyrian/videos/1574489062641755/

وبالنسبة للأبعاد الإستراتيجية القومية للمدارس والمؤسسات التربوية والثقافية في أستراليا يمكن إستخلاصها في حقيقتين موضوعيتين:

الأولى: قومية: وهي حقيقة واقعية موضوعية ومأساوية مريرة في عين الوقت ولكن مطلوب كل الطلب إدراكها وإستيعابها وإستخلاص نتائجها ومن ثم الإنطلاق منها نحو الجدية في عملنا القومي. وتتجلى هذه الحقيقة في الطبيعة “الأقلوية” لمجتمعنا. فنحن، إينما كنًا، في أرض الوطن أم في بلدان المهجر، أقلية، وهي حقيقة مشرفة وموضوع إعتزاز لأنها تحصيل حاصل لاصرار وصمود أجدادنا العظماء من أجل الدفاع عن المبادئ والقيم والحفاظ على كيانهم القومي – الديني عبر سلسلة طويلة من الفواجع والمظالم التي فرضت عليهم في أرض الوطن. فقد أبدعوا إبداعاً قل نظيره في التاريخ البشري في تطبيق القاعدة المعروفة “حماية الذات ناموس الحياة” وبالتالي فالطبيعة الأقلوية لمجتمعنا هي نتاج تطوره التاريخي والسوسيولوجي لفترة تزيد عن خمسة وعشرين قرناً ووفق قانون الإنتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح (مع التحفظ للتفسيرات السلبية لهذا القانون)، وهو القانون الذي لا يزال يفرض أحكامه على أبناء مجتمعنا  والمتمثل في ظروف القهر السياسي والفكري التي تفرضها الأنظمة الديكتاتورية والتنظيمات المتطرفة عليهم في أرض الوطن وتهجيرهم إلى أقاصي العالم وإخضاعهم لمحنة الصراع من أجل البقاء في ظل نظام دولي جديد لم تحدد معالمه بعد.

من هذا المنطلق فالطبيعة الأقلوية لمجتمعنا هي تاريخية في أرض الوطن و”لجوئية” (من اللجوء) في المهجر، تعتمد على اللغة والتاريخ والأرض والعادات والأماني المشتركة لتحديد خصوصيته القومية في عملية الصراع من جل الوجود والبقاء. وإذا كان شعبنا أقلية قومية مقارنة مع الأكثرية العربية أو التركية أو الفارسية في أرض الوطن، فإنه من جهة أخرى أقلية قومية ودينية بين أقلية كردية مسلمة في شمال العراق أو في جنوب شرقي تركيا أو في شمال غربي إيران ضمن الإطار السياسي العام لهذه الدول. من هذا المنطلق تتضاعف وتتراكم التحديات القومية والدينية المصيرية وينعكس ذلك على أهمية مضاعفة وتشديد دعم وصمود نضال شعبنا في مناطقه التاريخية.

أما في المهجر، فإن الصفة اللجوئية للطبيعة الأقلوية لشعبنا تنبع من كونه أقلية لا دولتية (من الدولة) وكان منذ سقوط النظام السياسي الإمبراطوري عام 612 ق.م. ومن ثم في عام 539 ق.م. وحتى أيامنا هذه غير مرتبط بدولة أو بكيان سياسي قانوني خاص به يحكمه الأكثرية من أبناءهم. وهذا ما يجعلهم يختلفون إختلافاً  كبيراً عن الأقليات الأخرى الموجود في بعض البلدان المستقبلة للمهاجرين والتي هاجرت أوطانها لأسباب إقتصادية أو سياسية أو دينية حيث تبقى وتظل دولهم القومية مصدر تحديد هويتهم القومية مهما أختلفوا مع أنظمتها السياسية أو حكامها أو تنافروا مع الظروف الإقتصادية أو الفكرية أو الدينية السائدة في بلدانهم الأصلية. أما بالنسبة لشعبنا فالوضع يختلف كلياً مقارنة بالأقليات الصينية أو البولونية أو اليونانية أو العربية وحتى الأرمنية. فإندماج  وإنصهار مليون صيني أو يوناني أو أرمني أو عربي في المجتمعات الصناعية المتقدمة وهجر لغتهم وعاداتهم القومية وإحلال لغة وعادات الأكثرية المهيمنة لا يعني إطلاقاً إنقراض القومية أو اللغة الصينية أو البولونية أو العربية… فالمسألة بالنسبة لشعبنا شيء آخر.

فإفتقارهم إلى كيان سياسي قانوني خاص بهم يؤطر حدود هويتهم القومية، قانونيا وسياسيا، ويحصن وجودهم القومي المتميز يجعل من مسألة إندماج وضياع بضعة مئات من أبناء شعبنا في المجتمعات الصناعية المتقدمة وفقدان لغتهم القومية وعاداتهم التراثية مسألة خطيرة. وحقيقة إفتقار شعبنا إلى كيان قومي مستقل تعرضه، وفق منظور إستراتيجي بعيد المدى إلى ظاهرة الإنصهار والضياع في المجتمعات الصناعية المتقدمة وتشكل نقطة أساسية مهمة تضع المؤسسات الآشورية في المهجر ويمختلف إتجاهاتهم السياسية والدينية أمام مسؤوليات جسيمة في ضرورة خلق البدائل الفعالة لتجديد وترسيخ المقومات القومية لشعبنا في هذه المجتمعات وقد يكون تأسيس مؤسسات تربوية وثقافية نقطة إنطلاق في هذه المسألة كما هو الحال في أستراليا.

ومن الضروري أن ندرك بأن الأهمية الإستراتيجية للمدارس والمؤسسات التربوية والثقافية في أستراليا لا تقتصر على الحفاظ على اللغة القومية ونشرها بين أبناء شعبنا هناك، وأن كان هذا من المهمات الصعبة على الأقل في المنظور البعيد، فإن لهذه المؤسسات أهمية على جوانب قومية أخرى تقوم على زرع روح الإنتماء إلى الجماعة وتعزيز والوعي القومي والتاريخي بين تلاميذ هذه المدارس.

فعندما نشاهد أطفال المدرسة الآشورية في أستراليا وهم يؤدون دورهم في نشاط فني وثقافي له دلالات تاريخية قومية، مثلما هو ظاهر في الصورة أعلاه، فلابد أن يترك ذلك أثراً في عقولهم ونفسيتهم ويتعزز وعيهم وإنتماؤهم القومي إلى هذه الأمة وهو الأمر المطلوب في حده الأدنى كسبيل للحفاظ على وجودنا القومي في هذا القرن.

الثانية، دولية: هناك حقيقة أخرى للأهمية الإستراتيجية لتأسيس المدارس ترتبط بطبيعة النظام الدولي المعاصر والسلوك السياسي والإقتصادي والثقافي للدول الصناعية المتقدمة والساعية نحو العالمية أو الإقليمية متجاوزة لحدود الدولة القومية وللوحدات القومية السياسية والإجتماعية والثقافية التقليدية. فالتطور الهائل في وسائل الإتصالات والمواصلات ونقل المعلومات أحدثت ثورة تكنولوجية هائلة لها أبعاد وأثار إجتماعية وثقافية خطيرة بحيث وصلت إلى درجة أعتبار العالم مجرد قرية صغيرة في هذا الكون ومن ثم الدعوة إلى الثقافة العالمية أو الدولة العالمية والمواطن العالمي متجاوزين بذلك الحدود الإقليمية والقيم والثقافات القومية للشعوب المتعددة.

ومن الطبيعي أن تكون الثقافة والقيم السائدة في ظل هذه الدعوة هي ثقافة أو قيم الشعوب الرائدة أو المنتجة للثورة التكنولوجية، أي بعبارة أخرى ستكون ثقافات وقيم الشعوب الصناعية المتقدمة هي التي ستهيمن على هذا الكون. أما ثقافات وقيم الشعوب الأخرى غير المشتركة أو المساهمة في هذه الثورة التكنولوجية، أي الشعوب التي ستكون محل فعل وليس بفاعلين، فإن ثقافتهم ستصبح ضعيفة أو غير فاعلة في ظل العولمة ولا تقوى على مقاومة تيارات الثقافات العالمية المنبثقة من المجتمعات الصناعية المتقدمة. وهذا ما يثير مخاوف بعض الدول العربية والإسلامية من هذه الدعوة وتعلن الحرب المقدسة “الجهاد” ضد التطور التكنولوجي العالمي وضد العولمة.

وإذا كانت مخاوف هذه الشعوب التي كونت دولها القومية المستقلة وترسخت ثقافاتها تاريخياً مبررة بعض الشيء فكيف والحال مع الشعوب والأقليات اللا دولتية التي لم تؤسس بعد دولها القومية الخاصة بها وذات سيادة تحصنها من الغزو الثقافي ومن أمحاء وجودها القومي، أي بعبارة أوضح كيف والحال هذه مع أبناء شعبنا ونحن أقلية صغيرة مقارنة مع الأقليات الآخرى ونعيش في قلب هذه الثقافات ونتواصل ليل نهار الإغتراف منها عبر أجهزتها الأيديولوجية المؤثرة ونرسل أطفالنا وأولادنا إلى مدارسها وجامعاتها طلباً للعمل والمعرفة؟ وما هو مستقبل ثقافتنا ومقومات هويتنا القومية من لغة وعادات وتاريخ بعد سنوات أو عقود أو قرن من الزمن؟ وما هو موقعها وقدرتها على التفاعل وحجمها في ظل الصراعات الثقافية والفكرية والتي ستصبح محور الصراع الدولي في هذا العالم خلال هذا القرن.

للوهلة الأولى تبدو مثل هذه التساؤلات في الوقت الراهن نوعا من الفنتازيا الخيالية يعصب تصور آفاقها السلبية إلى هذه الدرجة. غير أن الواقع الثقافي والفكري والسياسي لمجتمعاتنا المنتشرة من أقصى العالم (أستراليا) إلى أقصاه الآخر (أميركا) تشكل نقطة صغير في بحيرات هائجة وشاسعة من الثقافات الفاعلة، مضافاً إليها خلافات عشائرية طائفية تحزبية  وأيضاْ قساوة الإنجرار اللاهث خلف ضروريات الحياة اليومية وما يصاحب ذلك من تراجعات في المجالات الثقافية والفكرية والسياسية كلها حقائق واقعية محسوسة وليست ضرباً من الخيال، تتيح لنا مشروعية التساؤل عن مصير أمتنا في هذه المجتمعات خلال هذا القرن.

وللإجابة على مثل هذه التساؤلات المصيرية لا يتم بالتصدي المباشر لسلبيات واقعنا في المهجر عبر حلول آنية سريعة الزوال وضعيفة التأثير بل بحلول ذات أبعاد إستراتيجية تتجاوز نتائجها زمننا الحاضر نحو آفاق مستقبلية. فالمتصدي أو المتعامل بشؤون هذه الأمة يدرك، أو من اللازم أن يدرك بأن الأمم والشعوب ليست كالأفراد، فهي تعيش مئات بل ألاف السنين وبالتالي فإن معالجة الوقائع السلبية في المجتمع تستلزم سنوات طويلة من العمل المضني وبذل المزيد من التضحيات المادية والمعنوية ومن جميع أفراد المجتمع والأسر والعشائر والطوائف وفي مقدمتها المنظمات الطليعية من أحزاب سياسية ومؤسات قومية وكنسية. وتأسيس المدارس الآشورية في إستراليا هي خطوة أولى في مسيرة مليون خطوة ولحظة زمن في حقبة تاريخية طويلة في هذا السياق.

ولكن قبل هذا وذاك يجب علينا أن ندرك طبيعة وجود مجتمعنا في بلدان المهجر. فمن خلال إستقراء واقع هذه المجتمعات يظهر بأنه على الرغم من الأجواء الديموقراطية والحرية المتاحة في جميع مناحي الحياة والدعم المالي الحكومي لأنشطة المجموعات الأثنية، فإنها لم تساهم في إنماء الوعي القومي بين أبناء شعبنا وتطويره نحو الواقعية في العمل القومي، بل دفعته نحو الرومانسية خاصة على مستوى السياسة والفكر. وعلى العكس من ذلك تماما، فجرياً على قاعدة الفعل ورد الفعل فأن سياسة الأنظمة الإستبدادية في أرض الوطن تجاه شعبنا ولدت رد فعل أنعكس قومياً وسياسياً وفكرياً وتجسد في عدد من التنظيمات القومية أتصفت بشكل عام بالواقعية في العمل القومي والمطالبة بالحقوق القومية وبالتالي حققت، رغم ظروف القهر السياسي والفكري، إنجازات قلما أستطاعت مؤسسات قومية، وفق سياقها الزمني والمكاني في بلدان المهجر من تحقيقها. فعلى المستوى الثقافي القومي كان النادي الثقافي الآشوري في بغداد وعلى المستوى السياسي كانت الحركة الديموقراطية الآشورية، نموذجان في هذا السياق. ولكن من الملاحظ بأن الميزة الأساسية التي تميز به العمل القومي في بلدان المهجر هو إبتعاده عن الواقعية في العمل السياسي ومن ثم الإنجرار نحو الرومانسية والخيالية، وهي الميزة التي تقارب مفهوم الإغتراب (ليس بالمفهوم الماركسي) عن الواقع المعايش وأساسها قائم على سوء تقدير في ترتيب جدول أوليات العمل القومي. فمعظم المنظمات والمؤسسات أو الأحزاب السياسية العاملة في المهجر ما تزال تأخذ من واقع موضوعي هو في الحقيقة غير واقعها السياسي والإقتصادي والقانوني والإجتماعي أساساً لوعيها ونشاطها، أي بعبارة أخرى، ما زالت هذه المنظمات يتغذى وعيها القومي والسياسي من مذابح بدرخان وجرائم سمكو وبكر صدقي ومن سجون ومشانق الأنظمة الإستبدادية في وطن الأم ومن معاناة شعب ووطن يبتعد عنهم مئات أو ألاف الأميال من دون أن تملك قدرة على تجاوز هذا الوعي التاريخي ومحاولة خلق مصادر أخرى للوعي القومي السياسي يستمد أساسه من الواقع  الحاضر في المهجر بكل تناقضاته العشائرية والطائفية والحزبية وحتى الإغترابية ويوجهه توجيهاً يتناغم مع الوعي التاريخي ويتعاضد مع نضال شعبنا في أرض الوطن.

فلا تزال بعض المنظمات الآشورية، على الرغم من عجزها في إقناع الكلدان والسريان إقناعاً فكرياً ومنطقياً بوحدتنا القومية وبمصيرنا القومي المشترك، فإنها تناضل نضالا من أجل البحث عن الوطن الآشوري السليب وطرح الموضوع على المجتمع الدولي وبأسلوب يعكس جهلاً بأبسط مقومات لعبة المصالح السائدة في العلاقات الدولية. كما لا يزال الكثير من الآشوريين “القوميين جدا” يضربون إحتجاجاً في إحتجاج ويرفضون العراق أو “كردستان” تسميات لوطنهم آشور ولكن من دون أن يقرنوا هذا الرفض أو الإحتجاج اللفظي بأي فعل محسوس يتجاوز الخطاب السياسي الرومانسي ألى الواقع الموضوعي القادر على إقناع الغير.

وإذا كان هذا حقاً طبيعياً لا شك فيه إطلاقاً لكل واحد من أبناء شعبنا في عمله القومي ونابعاً في كثير من الأحيان من النوايا الطبيبة للكثير من الآشوريين ومن حرصهم تجاه مصير وطنهم الأم وقوميتهم، فإن الغرض من إثارته هنا هو التأكيد بأن عدم ممارسة هذا الحق وتجسيده في أنشطة وحقائق موضوعية يبقى مجرد حق يكفل تقادم الزمن بإبتلاعه من دون إثارة أي ردود فعل محسوسة وفعالة. فالأهداف القومية لا تتحقق بالنوايا الطيبة بل بالأفعال القيمة.
ولإعادة ترتيب جدول أوليات العمل القومي وإستبعاد الرومانسية وظاهرة الإغتراب من الأساليب السياسية ودفعها نحو الواقعية، يستلزم، بالإضافة إلى المساندة الفعلية لنضال أبناء امتنا ومؤسساتها الطليعية في وطن الأم، العمل على تعزيز الوجود القومي في المهجر وصيانة مقوماته القومية وإبرازها وجعل أمتنا أمة فعل لا أمة خطاب، وذلك عن طريق إستيعاب التطور السياسي والإقتصادي والثقافي وإستغلال الظروف الديموقراطية والحرية المتاحة في مجتمعات المهجر إستغلالا ذكياً ومنطقيا بما يتلاءم مع مصادر الوعي القومي التاريخي فيزيد ذلك من تعزيز مقومات وجودنا القومي في بلدان المهجر ويمكنه من الإحتفاظ بخصوصيته القومية ويتكامل أيضا مع التطورات الهائلة الحاصلة في هذه المجتمعات. فالبقاء كأقلية قومية متميزة ضمن الظروف الفكرية والسياسية السائدة في مجتمعات المهجر لا يكتب لها الإستمرار إلا إذا أستوعبت هذه الأقلية عوامل التطور وحاولت أن تجد لها مكاناً في الركب الحضاري السائر نحو العالمية. أي بعبارة الأخرى اللجوء إلى التكامل مع هذه المجتمعات وليس الأنصهار والضياع فيها. من هذا المنطق تأتي أهمية التنظيمات القومية والكنسية في تعزيز مقومات الأمة وذلك عن طريق تأسيس مؤسسات تربوية وثقافة وفكرية ووضع هذه المهمة في مقدمة جدول أولوياتها السياسية كبعد إستراتيجي لبقاء الأمة في بلدان المهجر ومن ثم دعم نضالها وصمودها في أرض الأباء والأجداد، فالمدارس والمؤسسات التربوية والثقافية في أستراليا نموذجاً ساطعاً وحياً في هذا السياق ولتكن مثالاً يهتدى بها بقية المؤسسات القومية والكنسية في بلدان المهجر.