اختلاف مفهوم الكريستولوجي بين الكنائس

اختلاف مفهوم الكريستولوجي بين الكنائس

القس هرمز جرجيس

منذ أكثر من ألفي سنة ونحن نتأمل ونشرح ونفسر ونجادل لكي نوضح صورة المسيح المتجلية في تاريخ الكنيسة وفي مجامعها لنقر ونعترف له ونؤمن به إلها كاملا وإنسانا كاملا في شخص واحد هو المسيح الكامل ملك الملوك ورب الارباب واحد احد لا يتجزأ.

فالمسيح ليس مجرد شخصية زمنية او شخصية من أساطير الماضي، فهو لايزال هنا بيننا بقيامته المجيدة، هو حاضر بيننا، كما كان مع الرسل آنذاك فهو معنا ايضا. ايماننا به يجعل حضوره حقيقي ومحاورته حقيقية ايضا. في كل عصر المسيح هو نفسه لا يتغير، فهو ليس كما كان في نظر اليهود ( ماشيحا) انسان مثالي فقط وعد به الانبياء ليخلص الشعب اليهودي، وتحقق الوعد ولكنهم لم يؤمنوا به.

لا تختلف نظرة البعض في هذا الزمن عن نظرة اليهود فهم لا يرون في المسيح الا مجرد انسان مثالي في موقفه من الله ولا سيما في موقفه من البشر وفي نضاله من اجل العدالة وفي حبه اللامحدود للناس جميعا. كيف يمكننا القاء نظرة شاملة حول مكانة المسيح في حياتنا المسيحية وقراءة لاهوته وناسوته؟ اننا من خلال جولة في الكتب المقدسة وفي الرؤى المعاصرة عن المسيح، سنتأهل لادراك وفهم الاقنوم الثاني في الوهيته الكاملة وناسوته الكامل.

نقرأ في العهد الجديد ان المسيح هو الالف والياء، أي البداية والنهاية. له معرفة كاملة عن الله الاب فيكون بذلك هو الله، من راني فقد راى الآب. وبدأ الرسل رسالتهم بإسم هذا الرجل العظيم الذي صلبه اليهود وبإسمه أقاموا الموتى وأجروا الشفاءات. وباسمه نلنا الخلاص من ادران الخطيئة منذ أدم وحواء. ولبسنا ثوب الطهارة في المعمودية المقدسة. ثم اقامنا معه.

لكن لا يمكننا الفصل بين ادوار الاقانيم الثلاثة فما فعله المسيح الاقنوم الثاني لا يقلل من دور الله الاب ومن عمله ومكانته الاقنوم الاول، إذ ان العمل هو عمل روحي واحد صادر من الله الاب في تدبيره الخلاصي، والابن في الفداء وكذلك الروح القدس ودوره في استكمال الخلاص والقداسة. وهكذا نرى حصيلة العمل النهائي هو الخلاص، فدور الاقنوم الثاني هو التجسد والفداء اي ان الاله الكامل يصبح انسانا كاملا يتحقق فيه عمل إلهي. ثم أن المسيح تجسد ليؤكد حقيقة حضور الله في تاريخ البشر.

إن الاناجيل المقدسة تنقل لنا بصفاء ايمان الرسل وايمان الكنيسة الاولى الذي كان عبارة عن شهادة حية وتجسيد حي لاحداث ومعلومات وتنبؤات وألقاب اصبحت ذات قيمة كبيرة في حياة الرسل والكنيسة الاولى بعد حدث القيامة وتبينت هوية المسيح الحقيقية كالمتجلي، المخلص، الرب الازلي، ملك الملوك، رب الارباب ورب الجنود وابن داود وابن الله وابن الانسان والحمل والمعلم ،..الخ. وهذه القاب تعني الله نفسه كما تعني المسيح نفسه.

إن دخول الله حياة وتاريخ البشرية واضح خلال العهدين، ويوضح ذلك العهد الجديد جليا باضافته أسم “عمانوئيل” على لسان الملاك المبشر. وبذلك يكتمل مجرى الاحداث نحو الخلاص أو بعبارة اخرى يكتمل تاريخ الخلاص اذ اننا لا يمكننا فصل الخلاص عن التاريخ البشري حتى لا نشوه فهمنا للتدبير الخلاصي وننزع منه القدرة على تغيير التاريخ. ليس سهلا ادراك التعبير “ابن الله” وفي نفس الوقت يعبر هذا الاصطلاح عن “يسوع الناصري” نفسه، ذلك الذي ولد وعاش في اسرائيل في زمن تاريخي بين 7 ق.م و 30 ب.م، لا بل يمر بحياة عجيبة مختلفة لأنه يتألم ويُصلب ويُقبر في زمن بيلاطس البنطيّ. وهذه علامات تبين لنا ان الله دخل وتدخل في تاريخ البشرية حقيقة بشكل التجسد واتخاذه جسدا بشريا مثلنا ويندمج في هموم البشر ويوجهها في الوقت نفسه نحوه لأنه الطريق والحق والحياة، وبامكانه خلاص كل البشر.

وقد عمل الرسل جاهدين لبيان هذه الحقيقة والايمان بها. اي ان ايمانهم لم يخلق لهم “يسوع” بل أن يسوع نفسه أسس الايمان واسس الكنيسة التي جاهرت بهذا الايمان وبقيت أمينة لمؤسسها. فهنا يسوع يتقدم الكنيسة ويسمو عليها. ويكون اذن مسيح الايمان هو نفسه مسيح التاريخ الذي قام من بين الاموات وادرك الرسل هذه الحقيقة، وأكدوا عليها لتصبح منطلقا لكرازتهم الرسولية. إن الفهم اللاهوتي لهذه الحقيقة صار مرتكزا للمسيحية كما ورد في رسالة بولس الرسول الى اهل قورنثية 1 قور(15: 3- 8، 11)، 1 قور ( 15: 14). دافع التلاميذ بقوة عن الايمان بالقيامة لا بل استشهدوا من اجله.

كانت كرازة الرسل تدور حول حياة المسيح وموته وقيامته لأجل خلاصنا. تحول اليوم الثالث ليصبح يوما جديدا في تاريخ اسرائيل بل تاريخ البشرية، يوم انطلاق لاهوت المسيح الذي حدد تعليم الكنيسة المقدسة الرسولية، في شرح حدث الفصح، واعلان مسيرة الخلاص عمل الاقانيم الثلاثة المشترك، وهو ان الرب الاله له المجد في الارض والسماء أرسل أبنه الوحيد حيث تألم ومات ثم قام ربا وأفاض من روحه على بني كرازته. هذا الكلام هو ما ندعوه تعليما لاهوتيا، لان الخلاص تحقق من خلاله.

هذا التعليم العميق يعبر عن سر المسيح، عن سر شخصه، وهو يشكل اجابة على اسئلة كثيرة، مثل كيف يكون يسوع المسيح ربّا والها في نفس الوقت؟ هل هو إله حقا، كيف انبثق من الاب؟ كيف تم الاتحاد بين اللاهوت والناسوت؟ كتب يوحنا ان الكلمة صار بشرا وحل بيننا، ولكنه قبل ذلك يؤكد ان الكلمة كان في البدء لا بل يقول ” وكان الكلمة الله” اي انه منذ الازل، والازلية هو موضوع الخلاف فيما يخص الجسد التي اتخذه الكلمة في التجسد، فهل من الممكن ان يكون هذا الالهي الازلي السرمدي انسانا حقا؟ نعرج للتأمل في هذا الى بعض ما اختبره الانسان عبر التاريخ بعد ما رأى البعض عدم معقولية أزلية الجسد وانه لا يليق مقارنته بأزلية الرب الاله.

الغنوصية: انكر الغنوصيون تجسد يسوع المسيح، اذ يستحيل ان ياخذ الله جسدا لان الجسد شر وخطية. ولديهم أن المسيح روح اخذت شكل معين اشبه بشبح اوخيال. وحينها قام ايريناوس وطرطليانوس بالاجابة على هذه البدعة او الهرطقة:

إيريناوس 140- 202 م: احد لاهوتيي القرن الثاني الميلادي، أكد معتمدا على الكتاب المقدس على مبدأ الوحدة. ويقول ان الله واحد هو نفسه خالق الكون وابو الكلمة. ويرى ان تاريخ الخلاص يثبت وجودهم منذ الازل ويرى في المسيح خلاصة ومراجعة التدبير الالهي. وأكد على وحدة شخصية المسيح رافضا ان يكون هناك خلاص لمن يتنكر اتخاذ ابن الله جسدا حقيقيا كجسدنا وظهوره في التاريخ انسانا كاملا.

طرطليانوس 155- 225: يركز على شرح الوحدة مبينا ان الولادة لا تنال من وحدانية الاب فكتب مثله الشهير حول الشمس والشعاع الذي بدوره يكون متحدا به ولكن متميزا عنه اي ان ابن الله هو من جوهر وطبيعة الله فهو في آن واحد يماثله ويتميز عنه، أي أنه اله بسبب وحدة الجوهر.

آريوس 280-336: ادعى بأن الابن لا يمكن أن يكون ” أزليا ومولودا من الاب” في آن واحد. فيصرح بأن الابن هو مخلوق ولم يكن له وجود مع الاب، ولا يتساوى مع الاب في جوهره، وخاضع للتغير، فليس هو الها حصرا.

مجمع نيقية 325: حرم آباء المجمع الـ ( 318) بدعة آريوس ووضعوا قانونا هو أساس إيمان كل مسيحي عرف بالقانون النيقاوي، والى هذا اليوم يتلوه ابناء الكنيسة بصورة مستمرة في القداس الالهي وفي طقوس كنسية أخرى. ينص بأن الابن الكلمة مولود من الاب قبل كل الدهور… إله حق من إله حق … ابن ( ولد ) طبيعة أبيه ( متساوي الاب في الجوهر)، وهذه التصريحات العقائدية استهدفت اريوس وارائه الباطلة.

أثناسيوس 295- 373: دافع عن الايمان القويم، واشتهر بمقولته :” كل ماهو للاب هو للابن، ماعدا لقب الاب.

مجمعا (أفسس 431 م) و( وخلقيدونية 451 م).

أبوليناريوس من اللاذقية (381م): وكان من المدافعين عن مجمع نقية، غير انه تاثر بالفكر الاريوسي تدريجيا فتصور الكلمة المساوي للاب في الجوهر متحدا بطبيعة بشرية غير كاملة، وادانت عدة مجامع احدهما في روما (377 م) ومجمع الاسكندرية (378 م) وأنطاكية (379 م) ثم تمت ادانته في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية ( 381 م).

نسطوريوس ( 428 – 431 م): دافع القديس الواعظ بتعاليم المدرسة الانطاكية، عن أن للمسيح طبيعتين متحدتين بإرتضاء لا يمكن الفصل بينها، فاعتبر خصومه (كيرلس الاسكندري) أنها هرطقة لانه فهمها على ان الاتحاد حصل وتلاشت الطبيعة الانسانية وذابت فيها، لكن نسطوريوس استخدم صفة التمييز للتعرف على الطبائع المتحدة مع بعضها.

أوطيخا (448م): راهب من اتباع كنيسة الاسكندرية وتعصب لآراء كيرلس قائلا:” اذا كان في المسيح طبيعتين قبل الاتحاد، فما عاد يوجد، بعد الاتحاد، الا طبيعة واحدة”. واحدة هي طبيعة الله الكلمة المتجسد”. فعقد مجمع خلقيدونية (8 تشرين الاول 451 م) للنظر في هذه التعاليم فجاء تعليم المجمع عن العقيدة مايلي:” إننا نعلم أن المسيح، ابن الله الوحيد هو رب في طبيعتين دون امتزاج ولا تغيير ودون انقسام ولا تفريق ودون ان يلغي هذا الاتحاد تمايز الطبيعتين، مع بقاء خصائص كل منهما على حالها”.

ربما كان فهم الاصطلاحات بشريا لذلك اختلفت التعابير بما قاله نسطوريوس عن صيغ أخرى وردت الا ان مجمع خلقيدونية ميز بين الطبيعة من جهة والشخص والاقنوم من جهة أخرى.

تخلى المجمع عن كيرلس وتعليمه واعتمد على صيغة البابا لاون “في الطبيعتين”. فأحدثت قراراته انقساما في الكنيسة الى مونوفيزية في الشرق وكنيسة الغرب. ورغم محاولات الكنيسة لعقد مجامع مسكونية لتوحيد الكنائس الرسولية، الا انه لم يتفق على أن الاختلاف كان في الالفاظ ولم يكن هناك داع لان يصبح سببا للحرم والعزل والقطيعة. ومن هذه المجامع:

1- المجمع القسطنطيني الثاني 553م.

2- المجمع القسطنطيني الثالث 681 م.

3- مجمع فلورنسا فيراري 1438- 1445م.

4- روما، الارمن 1439.

5- روما، السريان 1441.

6- روما، الاقباط 1441.

7- سقوط قسطنطينية 1453م.

مرحلة الكنائس الكاثوليكية الجديدة:

1- السربان الكاثوليك 1774م.

2- الكلدان الكاثوليك 1830م:

3- الاقباط الكاثوليك 1895م.

4- الاحباش الكاثوليك 1930م.

نتيجة لذلك بدأ الاقتراب بين الكنائس على هذه الاسس ليبدأ عهد الابتعاد عن الخلافات اللاهوتية ومن المبادرات في هذا المجال:

1- في 27/10/1971 صدور بيان مشترك بيت بابا روما بولس السادس وبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للسريان البطريرك يعقوب الثالث.

2- في 10/03/1973 صدور بيان مشترك بين بابا روما بولس السادس والبابا شنودة الثالث بطريرك الاسكندرية والكرازة المرقسية.

3- في 23/06/1984 صدور بيان مشترك جددت فيه كنيستا السريان الارثوذكس بشخص البطريرك زكا عيواص وكنيسة روما بشخص البابا يوحنا بولص الثاني بيان سلفيهما.

4- في 11//11/1994 صدور بيان بين البابا يوحنا بولس الثاني ومار دنخا الرابع جاثليق بطريرك كنيسة المشرق الاشورية.

ومن الجدير بالذكر ان هذا هو البيان المشترك الاول بينهما. لقد عاشت كنيسة المشرق مستقلة وخاصة بعد مجمع أفسس 431 م. وكان لها تعليمها اللاهوتي الخاص المائل الى المدرسة الانطاكية واشهر مدارسها هي اورهي ونصيبين، وكان ابتعاد كنيسة المشرق والكنائس الاخرى عن بعضها البعض بسبب تلك الخلافات اللاهوتية التي امتدت لاجيال طويلة، والحقيقة كانت نتيجة سوء فهم وجهات نظر البعض للبعض الآخر. وربما استخدام كل فريق لاسس فلسفية مستقاة من مختلف المدارس الفلسفية كانت سببا آخر في هذا الابتعاد اضافة الى اسباب اخرى قد تكون بعضها سياسية لكون كل كنيسة نشأت في مكان ودول خضعت لسيطرة امبراطورية معادية لامبراطورية اخرى.

ان البيان المشترك المذكور الذي عدّاه رئيسي الكنيستين خطوة نحو عودة الشركة الكاملة بين الكنيستين، أزال سوء الفهم الذي دام ستة عشر قرنا: ” … ربنا يسوع هو اذا إله حق وإنسان حق، كامل في لاهوته وكامل في ناسوته، مساو للاب في الجوهر. وقد اتحد لاهوته بناسوته في شخص واحد، بغير اختلاط او تغير، وبغير انقسام أو انفصال. احتفظ في نفسه بالطبيعتين الإلهية والإنسانية على اختلافهما، بكل خواصهما وامكانياتهما وعملهما. لكن ليس بإنشاء “واحدة وأخرى” لكن باتحاد اللاهوت بالناسوت في نفس شخص ابن الله الواحد الفريد وربنا يسوع المسيح، الذي هو هدف العبادة الوحيد.

فليس المسيح اذا “انسانا عاديا” تبناه الله ليقيم فيه ويلهمه، كما هو شأن الابرار والانبياء. بل الله نفسه، الكلمة المولود من الاب قبل جميع الدهوربحسب لاهوته، ولد في الازمنة الاخيرة من امّ دون أب بحسب ناسوته. إن الناسوت الذي ولدته القديسة مريم العذراء هو دائما لابن الله نفسه. لاجل هذا تدعو كنيسة المشرق الآشورية في صلواتها العذراء مريم ” أم المسيح إلهنا ومخلصنا”. وفي ضوء نفس هذا الايمان فإن تراث الكاثوليك يدعون العذراء مريم ” والدة الإله” وأيضا ” والدة المسيح”. وإن كل منا يدرك صحة ومشروعية هذه التعبيرات لنفس الايمان، وكلانا يحترم ما تفضله كل كنيسة في حياتها الليتورجية وتقواها”.

المصادر:

  • الاب يوسف حبي، كنيسة المشرق، ج 1، ، بغداد 1989.
  • الاباء الاوائل، الاب لويس ساكو.
  • سير و قصص الشهداء و القديسين (قاموس آباء الكنيسة وقديسيها)، الكنيسة القبطية.
  • اللجنة الدولية للحوار اللاهوتى بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، الانبا بيشوي.
  • التعليم الكريستولوجى لكنيسة المشرق الأشورية ما الخطأ فى هذا التعليم وكيف تطور، للأنبا بيشوى.
  • تطوّر الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق، أدور هرمز ججو النوفلي.
  • تاريخ الكنيسة الشرقية، الاب البير ابونا.
  • مقالات مختارة الكريستولوجية، كلية بابل للفلسفة واللاهوت.
  • تاريخ الكنيسة الشرقية والغربية، الاب منصور المخلصي.