من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

من مات على الصليب، الانسان أم الاله؟

القس هرمز جرجيس

لعل عنوان المقال يحمل مغزى في حياة كل مؤمن، فهو تساؤل يطرح نفسه في مرحلة من المراحل، وهنا نحاول لملمة الخبرة المسيحانية من كم هائل من المعلومات التي سنلخص جوهرها لما يمنحنا معنى يكون هو الجواب الذي نستند اليه في حياتنا الايمانية.

الاراء اجمالا على طرفي نقيض، احدها يقوم باستبعاد الالوهية من شخص يسوع المسيح الكامل (أي الاله الكامل والإنسان الكامل) ويتخذ من إنسانيته رمزا للبشرية ومحررا عادلا للحرية والمساواة بين البشر (كما هي فكرة النبي في العهد القديم)، ويقوم الطرف الاخر على رؤية أن يسوع المسيح شخص ورمز تاريخي دخل الى تاريخ البشرية كسابقيه بمجئ عجائبي وعظمة الهية ويحاول هذا التركيز على لاهوته فقط!

لكن الكنيسة وعبر التاريخ تأملت وتفكرت في تلك الاراء والاتجاهات وقامت بتحليل معتقدات الآباء وعقد رعاتها ومعلميها المجامع لاجل مناقشة شأن الايمان لأجل حفظ النظام وسلامة العقيدة لتتبعه كل الكنائس الرسولية. ولقد سبق واعقب هذه المجامع تحولات في العقائد التي كانت تتبناها كل كنيسة بطريقتها ولتصبح بعضها مذهبا تستند اليه في شرح العلاقة القوية بين الاله والانسان في شخص المسيح. وإن لم تكن الكنائس قد اتفقت في زمن الاختلاف وخاصة في موضوع الكرستولوجي فان دراسة هذا الموضوع أو شخص المسيح أو مسيحانية المسيح اليوم أصبحت تنادي أن تلك الاختلافات في الرؤى هي عامل غنى وأفكار عميقة مليئة بروحية ولاهوت مسيحاني عظيم.

درس آباء الكنيسة وطرحوا افكارهم التي بنوها على معطيات الكتاب المقدس للكشف عن وجه يسوع البشري والتعرف على هويته التاريخية وعن طريقها الوصول الى شخصيته الالهية. وتبين هذا منذ الجماعة المسيحية الاولى التي آمنت بالمسيح يسوع ربا والها يقودها الروح القدس ومختبرة سر المسيح الحقيقي. وكلمة الله في الانجيل المقدس هي الكلمة المتجسد متمم تدبير الخلاص وهذا كشف الهي لذاته فحسب ما يؤكده يوحنا :” وكان الكلمة الله”. وهكذا يسترسل الانجيليون ابتداء مع مريم القديسة ام المسيح الذي ولد منها، ويعطينا حقائق نتعرف من خلالها على يسوع المسيح وشخصه وناسوته فيدعوه ابن الانسان، المعلم السيد الابن الراعي الصالح آدم الثاني بالاضافة الى انه ضياء مجد الله وابن الله والكائن في صورة الله ابن العلي القدوس البار هكذا فان علاقته فريدة بالله الآب.

يرد في انجيل يوحنا ما يلي:” فأمسكوا يسوع. فخرج حاملا صليبه الى المكان الذي يقال له مكان الجمجمة، ويقال له بالعبرية جلجثة. فصلبوه فيه، وصلبوا معه آخرين، كل منهما في جهة، وبينهما يسوع” (يوحنا 19: 17 -18).

الايتان غنيتان بمعنى عميق كون مكان الصلب ” بينهما” أي في المركز هو مكان الشرف. ويوحنا يلفت انتباهنا الى شأن اعظم حينما يقول” يسوع الناصري ملك اليهود” (يوحنا 19: 19). نعم ان يوحنا يرى في يسوع لا فقط ملك اليهود بل ملك البشرية برمتها، فلم تكن الكتابة على اللوح بلغة واحدة بل يقول يوحنا: “وكانت الكتابة بالعبرية واللاتينية واليونانية” (يو 19: 20). وهذه اللغات كانت منتشرة في ذلك الزمان، العبرية لغة الكتاب المقدس “كلمة الله” واللاتينية لغة السلطة الرومانية أما اليونانية فهي لغة الثقافة في ذلك الوقت.

رؤساء الكهنة اعتبروها اهانة لهم، الذي رأى نفسه مهانا في شخص يسوع ( من ملك الى مصلوب)، أحتجوا لكن لاقوا جوابا من بيلاطس:” ما كتب قد كتب”. 19: 22. هذا الكلام هو نبوي وحقيقي واعلان لملوكية المسيح التي تنبأ بها بيلاطس في الاية 15 من الفصل 19: “هو ذا الرجل؟”. وفي تلك تلك الكتابة نقرأ الجواب لسؤال بيلاطس:” أ أنت ملك اليهود؟” يوحنا 18: 33، هذه هي الحقيقة العميقة التي تبين لنا الملوكية المشيحانية للكلمة المتجسد. 

أعلن نثنائيل الذي جاء الى يسوع مع فيلبس وقال:” رابي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل”. (يوحنا 1: 49). فيسوع هو المسيح نفسه الذي بشر به الملاك مريم العذراء:” سيكون عظيما وابن العلي يدعى، ويوليه الرب الاله عرش ابيه داود، ويملك على بيت إسرائيل الى ابد الدهور، ولن يكون لملكه نهاية”. (لوقا 1: 31- 42). وقد يتبين ان هناك تعارض خارق بين كلام الملاك ونهاية حياة الرب؟ الا ان الصليب الظافر هو جزء من الملك، ولكن يعود الى الآب فهو والآب واحد وهكذا كما يؤكد الانجيلي يوحنا:” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية” (يو 3: 16). وبهذه المحبة اكتشفنا قدرة الله اللامتناهية التي بوسعها أن تنتزع الحياة من الموت، ذلك أن ملوكيته هي التي تخلّص.

هذه الكلمات وغيرها في العهد الجديد كانت نبعا لآبائنا في الايمان ومنهم مار نسطوريس ومار نرساي، ففي نظرة القديس مار نرساي الى المسيح، هي نظرة دفاعية ونتجت عنها كرستولوجية دفاعية قوية، ليجيب عن كل من رأى امتزاج وذوبان بشرية المسيح داخل لاهوته. ويؤكد القديس تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح في واحدة من جواهر تآليفه (ترتيلة بريخ حنانا دبطيبوثيه – مبارك الحنّان بنعمته)، هذه الترتيلة تتضمن لاهوت كنيسة المشرق اذا قام القديس بتلخيص فكره اللاهوتي المتوزع في الميامر الرائعة التي ألفها وفي مؤلفاته البقية. ما زلنا نرتلها في كنائسنا في موسم الميلاد رغم انها برأيي تصلح ان ترتل كل يوم على مدار السنة فهي بمثابة قانون إيمان كنيستنا المقدسة.

ويرى القديس مار نرساي تمام الطبيعة الالهية والبشرية في المسيح. لذا فان بشرية المسيح هي الرابط الجامع بين الخالق والمخلوق، فمن رفض طبيعة المسيح البشرية الانسانية رفض وأزال طريق الخلاص. ثم يرى ثانيا: أن الطبيعة تساوي الاقنوم حينما يتم القصد منها الشخص الفرد. وثالثا: وحدة الطبيعتين. بمعنى الاقامة حسب فكر القديس مار تيودوروس المصيصي. واخيرا: الارادة الواحدة. لا تتضمّن طبيعة المسيح محدودا، بل هو جاء الى المحدود. حلّ في المحدود بإرادته، فافتقد الجميع.

بهذا مار نرساي يحافظ على كمال الطبيعة الالهية والبشرية الانسانية مع التمييز بين الكلمة ويسوع الانسان. مشددا على وحدتهما. إنها وحدة لا يتأثر فيها الكلمة بالبشري، بل ان البشري يشارك مجد اللاهوت ويكشف عنه. إنها وحدة لا يتخلى فيها الكلمة عن شخص يسوع. فالكلمة لا يتركه حتى في ساعة موته بل يلبث معه في حالة القيامة. انه الصورة الحقيقية التي عبرها يعرف البشر والملائكة ويحبون ويعبدون ويسجدون اللاهوت المتسامي.

علمنا من مار نرساي ان الانسان المأخوذ فدى الجنس البشري بموته على الصليب. الموت هنا هو العمل الخلاصي بكل عظمته أي دور الكلمة والانسان في عمل الفداء. من خلال كل الصلوات والتضرعات الطقسية وخاصة في رتبتي القداس الالهي ( الانافورات) لقديسينا العظيمين مار تيودوروس ومار نسطوريس، تبين لنا التعبير عن التجسد بلفظة (لبس) أي لبس من جنسنا كل ما يحتاج اليه من اجل عمل الخلاص في سلسلة من التدابير: 1- كان انسانا. 2- لبس الضعف. 3- خضع للشريعة. 4- استعد للحرب ضد الشيطان، فانتصر عليه وعلى الموت. 5- تمجد، وقام في حياة جديدة. 6- صعد الى السماء الى مقام الله. ويمكن القول ان حياة المسيح عبارة عن ثلاث مراحل؛ الاولى: الحبل والميلاد الى المعمودية. والثانية: البرية، وتصل بنا الى الموت على الصليب. وثالثا: القيامة والصعود والتمجيد.

هكذا يعبر نرساي عن المسيح بوضوح انه المخلص لطبيعتنا البشرية، لبس الكائن الازلي طبيعتنا أي بشريتنا ليحرر بها جنسنا كله. نزل من السماء متجسدا في احشاء مريم ليقيم ادم من سقطته. وانتصر على الموت بموته، وصعد بشريتنا المائتة الى الوقار مع عظمته.

وخلاصة القول اين نحن من السؤال اليوم، انه مطروح امامنا نحن المائتين. فمن هو على الصليب بالنسبة الينا الانسان أم الاله؟ ان استنتاج كل واحد منا حول هذا الموضوع، ينبع من اسس ايماننا ومقدار الخبرات الروحية التي نعيشها في حياتنا وبقدر ما نتأصل في كلمات الرسل والقديسين وعيشها مع المسيح على الصليب.

المصادر:

التراث السرياني، نرساي المعلم، الاب. الفغالي، دار المشرق، بيروت، 1996.

محطات في سر المسيح الها وانسانا، الاب شلحت اليسوعي، دار المشرق، بيروت، 2006

سلسلة ابحاث كتابية 8، لوقا – الاعمال، دونالد يوئيل، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

سلسلة أبحاث كتابية 12، من اجل ايمان جاد، بقلم الكاردنال كارلو مارتيني، بيبليا للنشر، بغداد، 2006.

الانسان في ضوء المسيح، فيكتور شلحت، دار المشرق، بيروت، 1999.